مضت أيام قليلة أخرى حتى انتهت الترتيبات في العاصمة.
لقد كان برنامجاً مرهقاً للغاية، حتى إن حضور وليمة أخرى واحدة فقط كان كفيلاً بأن يُنهكه حتى الموت.
لم يكن يكفي أن يتعرض لمضايقة من شاب نبيل لا يعرفه، بل وُضع في موقف اضطر فيه لضربه، ثم أُرسل وراءه قاتل مأجور، وليت الأمر توقف عند ذلك، فإذا بالقاتل في النهاية رسولٌ لتوسيع رقعة الحرب في الشرق، والهدف من اغتياله لم يكن سوى صديقه الحميم إلبيرت غراهام.
حين أعاد ترتيب ما حدث لم يجد إلا أن يضحك بسخرية من سلسلة المصادفات العجيبة.
لكن كل ذلك صار من الماضي.
حان وقت العودة إلى قصر ويبن.
قال إيريك وهو يشعر براحة واضحة وهو يرى تيـريا قد أنهت استعداداتها للرحيل:
“لقد كانت رحلة مليئة بالمصاعب والمتاعب.”
“بالفعل كذلك.”
أومأت تيـريا برأسها بخفة، ولم يَفُت إيريك أن ملامحها بدت مشرقة لسبب ما. وكان ذلك مدعاة لسروره.
‘في النهاية، تدخل إلبيرت كان نافعاً بالفعل.’
فمنذ أن أعلن نفسه حليفاً لعائلة بورتمن، لم تفارق تيـريا دوائر النبلاء من الممالك الأخرى.
صحيح أن علاقاتهم معها كانت بدافع المنفعة، لكن ودّهم ذاك لم يكن ليضر بمكانة بورتمن.
وقد أدركت تيـريا ذلك تماماً، فأخذت تقتحم مجالس خاصة وتحصل على دعوات لحفلات وعقدت روابط تجارية.
حتى إنها ــ وهي التي لا تكشف مشاعرها بسهولة ــ لم تتردد في التصريح:
‘لقد كانت وليمة مثمرة. أشعر بالرضا.’
“سيدي! العربة جاهزة!”
وكما كان مقرراً، كانت العودة عبر العربة.
راود إيريك للحظة خاطر أن يُركب تيـريا القطار مجدداً ليشاهد ارتباكها، لكنه سرعان ما صرف النظر؛ إذ تخيل كم سيكون حجم نقمتها عليه.
وبينما صعدا إلى العربة، بدت تيـريا مسترخية، وكأن اهتزازها الخفيف كان باعث ارتياح لها.
ظل إيريك يتأمل ملامحها، فإذا به يستشعر بوضوح ما أيقظه فيه اقتراح إلبيرت: شعور لم يجد له تعريفاً بعد.
لم يرد أن يفارقها.
ذلك الخاطر المربك، كلما تسلّل في لحظات الصمت، جعله يحس بارتباك لم يعهده من قبل.
“إذن، ننطلق الآن!”
انطلق صوت ألديو، يرافقه صهيل الجياد، فكسر الصمت.
عندها قالت تيـريا:
“…أخيراً، عدنا إلى بيتنا.”
كلمة ‘بيتنا’ ارتجّت في قلبه، ناشرة دوائر صغيرة من البهجة.
ابتسم إيريك ابتسامة صغيرة ورد:
“نعم، إلى بيتنا نعود.”
كلما أعاد الكلمة في ذهنه، ازدادت نشوة شعوره حتى بلغ صفاءً عجيباً.
—
في قصر دوق وايت، التابع لمملكة أرمين، جلس رجل في غرفة تبديل الملابس الملحقة بقاعة الاحتفالات الكبرى، يطالع صحيفة.
إنه إدوارد وايت، حامل لقب ‘الصائغ الذهبي’.
نقر بلسانه وضحك باستهزاء:
“يا للعجب، انظروا إلى هذا الأحمق.”
الصحيفة التي بين يديه لم تكن سوى الجريدة اليومية الشرقية التي هزّت أركان مملكة فيردين بخبرها.
“اغتيال البيرت غراهام؟ ثم في فردين بالذات، حيث يقيم كبار القوم؟ ذلك الأحمق يملك جرأة أكبر مما ينبغي.”
قال سكرتيره:
“لكن من يعلم بهذه الحقيقة قليل.”
“والأسوأ أنه ارتكب فعلته بلا إدراك. وهذا بحد ذاته دليل على عجزه.”
هزّ إدوارد كتفيه وأضاف:
“هكذا هم آل ألتِن. أو بالأحرى، هكذا هو ذلك التافه منهم.”
“نعم، تقصد جناح السماء في مملكة ألتِن.”
“حقاً إن ظل القمر مسكين. لو كنت مكانهم، وتركت نفسي أُقاد من الخلف على يد أحمق كهذا، لاعتزلت الساحة فوراً.”
جناح السماء، أحد أقوى سبعة في القارة.
ظل الملك الحامي لمملكة ألتِن.
لكن هناك حقيقة لا يعرفها المواطنون ولا حتى معظم قادة ‘ظل القمر’:
أن الذي يقودهم من وراء الستار لم يكن سوى رامسيس ألتِن نفسه، جناح السماء.
كان ذلك أمراً غير مُستساغ عند إدوارد، حتى وإن كان هدف رامسيس يتقاطع مع هدفه أحياناً.
وهنا التفت السكرتير ليُشير إلى هذه النقطة…
انتهى
“لكن لو أن خطة ‘جناح السماء’ نجحت، أما كان ذلك ليقصر أمد الحرب؟”
“أيها السكرتير الأحمق. لو امتدت الحرب حتى الشرق، لأصبحت الإمدادات كارثة. حينها الاقتصاد كله سينهار، ومعه مالي يطير هباءً. ذلك الجانب يجب أن يُصان. والأهم، لو توسعت الحرب إلى الشرق، فسيتدخل شبح السيف. وأي مصيبة أعظم من ذلك؟ من الواضح أنه راضٍ بحياته المريحة الآن، ودوامه في مكانه يساعدني أكثر.”
“أه، هكذا إذن.”
“عقلك ضيق يا صديقي السكرتير.”
“سأستقيل.”
“خطئي! تراجعت.”
صفق إدوارد بحدة وهو يطوي الصحيفة وينهض من مقعده.
“كفى حديثاً. هيا نُرِهم وجهاً من حضورنا.”
“نعم، جميع المساهمين الكبار قد اجتمعوا.”
“حسناً إذاً، يجب أن أُحسن الظهور أمامهم.”
أطلق إدوارد زفرة عميقة.
فهو لم يكن يحب عادةً أن يُشرك ممولي شركته في الولائم، لكن اليوم مختلف.
“ماذا عن استعدادات العرض الاستثماري؟”
“تم كل شيء على أكمل وجه.”
“ألقيتَ نظرة على أذواق المساهمين وحساسياتهم الغذائية؟”
“خصصنا لكل واحد منهم طاهياً شخصياً.”
“لا أحد مثلك، صديقي السكرتير.”
ابتسم إدوارد وهو يغادر غرفة تبديل الملابس.
اليوم هو يوم العرض الاستثماري الذي سيجلب به تمويلاً لتطوير اختراعه الجديد.
لو كان الأمر مشروعاً عادياً لكان موّله من ماله الخاص، لكن هذه المرة كان الحجم أكبر من أن يتحمله وحده، فاحتاج إلى رؤوس أموال خارجية.
وهنا كان يعتصره الأسف.
‘لو أنني أملك حصة أكبر قليلاً من الحصص الصديقة، لما اضطررت في كل مرة إلى هذه الجلبة عند كل عرض.’
فشركة المساهمة، مهما كان المبادر فيها، القرار النهائي يملكه المساهمون.
أي مشروع لا ينال رضاهم يُجهَض مباشرة بالتصويت.
وكان ذلك ينهك أعصابه.
حالياً يملك 47% من الحصص المؤيدة له تأييداً مطلقاً.
لو حاز 3.1% فقط إضافية، لكان مطلق اليد.
ولو أراد الطمأنينة حقاً، فما عليه إلا أن يضمن 5% أخرى، ليتمكن من سحق اعتراضات البقية نهائياً.
وبينما كان غارقاً في تفكيره، طرح السؤال الذي اعتاد طرحه على سكرتيره قبل كل عرض:
“هل جاء ذلك الرجل؟”
“أي رجل تقصد…؟”
“صاحب الـ6% من الأسهم الذي ابتلعها ولم يُرَ وجهه منذ دخل كشريك.”
“آه، تقصد (K.S).”
“اللعنة، ما هذه الاختصارات السخيفة؟”
“إنه مساهم يا سيدي.”
“بكلمة أخرى، لم يأتِ بعد؟ تبا، لو حضر فقط… لزحفت على أربع لأمسح نعليه برأسي!”
“يا للابتذال.”
“في حضرة المساهمين، أسمح لنفسي بكل ابتذال.”
ولِمَ لا؟ فهو ليس مجرد مساهم، بل الورقة الرابحة التي قد تحسم له السيطرة الهشة على الشركة.
مد شفتيه بامتعاض، ثم ما لبث أن شدد ملامحه وهو يرى أبواب قاعة الولائم تتبدى أمامه.
وفي تلك اللحظة:
“يدخل الآن رئيس EW، دوق إدوارد وايت!”
ارتفع صوت الموظف يعلن دخوله، فارتسمت على وجه إدوارد ابتسامة مفعمة بالثقة وهو يتقدم صوب المساهمين.
“أهلاً بكم يا سادة المساهمين! أمامكم العبقري الذي سيحافظ على امتلاء خزائنكم! إدوارد وايت قد حضر!”
قد يُعد سلوكه هذا خفة وطيشاً، لكنه بفضل نجاحاته الباهرة بدا في أعينهم خفة ممتعة لا ابتذالاً.
وسرعان ما دوّت القاعة بالتصفيق.
‘جيد، سيدنا المظلم كالعادة أرسل وكيلاً عنه.’
إذن، لا حاجة للقلق من تلك الجهة.
لكن ماذا عن الأخرى…؟
“ها! أيها الضعيف!”
…بالفعل، لقد حضرت بنفسها.
أطلق إدوارد ابتسامة عريضة مصطنعة وهتف:
“الأخت العزيزة إيغريت! كم مضى من الزمن منذ آخر لقاء؟”
إدوارد فتح ذراعيه وبدأ يركض بخفة.
وكانت غايته امرأة نحيلة القامة، تتطاير خصلات شعرها الطويل القرمزي الذي يصل حتى ردفيها.
بشرتها بيضاء، وجهها مليء بالنمش، وهالات سوداء داكنة تحت عينيها تزيدها بروزًا قزحيتها القرمزية.
وما الحاجة لوصف أكثر؟
إنها سلاح الحصار الملكي لمملكة كالباران.
إيغريت لهيب الرماد، سابعة القوى العظمى.
“إلى أين تظن نفسك مقبلًا لتعانقني؟!”
كواااك!
قدمها الممتدة أصابت هدفها بدقة، ضاربةً إدوارد في خاصرته.
“كككغغ!”
لحسن حظه أنه كان يرتدي واقيًا، وإلا لانقطع نسل عائلة وايت في تلك اللحظة.
لكن إيغريت، غير عابئة بما جرى، ضحكت بصوت مرتفع وربّتت على كتفه.
“يا لك من وغد، مضى زمن طويل، أين جُلتَ طيلة هذا الوقت؟”
“أما أنا… فقد كنت منشغلًا بالعمل هنا وهناك.”
“في هذه الأيام الجميع مشغول بالحروب وما يتبعها، يا لها من حياة مزعجة.”
تمتمت وهي تنقر شفتيها بضجر.
وكان ذلك مألوفًا.
فعلى الرغم من أنها تملك أقوى أنواع السحر التدميري، فإن كسلها المزمن يجعلها نادرًا ما تخرج إلى ساحة المعركة.
عندها تذكر إدوارد حادثة سابقة.
لما يقارب عامًا كاملًا، لم تلتفت إيغريت إلى أي ساحة قتال، لكنها فجأة اندفعت إليها بسبب حدث واحد.
“كاشا ذلك الوغد اختفى؟ لماذا؟ كيف؟”
لقد كان اختفاء شبح السيف ، كاشا.
يومها، كم صرخت إيغريت وهاجت!
“لماذاااا! أين ذهب ذلك الحقير! آآآآآاااااااه!!!”
لقد كان حقدًا غريبًا كوّنه جسدها النحيل.
ففي إحدى المعارك، التقاها كاشا، لكنه لظنّها طفلة صغيرة، ركل مؤخرّتها حتى فقدت الوعي.
ومنذ ذلك الحين اشتعلت العداوة بينهما.
وكانت النتيجة أن إيغريت اندفعت بنفسها إلى حصار عاصمة تشيبور، متعهدة بأن تسحق كل ما حماه كاشا.
تلك الحادثة كانت منذ فترة قصيرة فقط.
أعادته إلى الحاضر كلماتها المفاجئة:
“لكن، ألا تعرف أخبار ذلك الوغد كاشا بعد؟ ها؟ ألم أقل لك أن تتحرى عنه؟”
قالت بلهجة تهديدية.
إدوارد، في تلك اللحظة، تخيّل كاشا وهو يتسكع بهدوء في مقاطعة ويبين.
‘إنه يعيش بسلام مع زوجته ويضحك ملء فمه.’
لكنه لم يستطع النطق بذلك.
لو علمت هذه المرأة سيئة الطبع بالحقيقة، لشبت نار الحرب في الشرق خلال لحظة.
“أما أنا… فما زلت أتحرى… هاهاها.”
“تبا لك، عديم الفائدة.”
راحت إيغريت تقضم أظافرها بعصبية.
أما إدوارد فأطبق فمه بصمت، مرددًا في نفسه:
‘أيّ نوع من التعلق المرضي هذا؟’
مجرد ركلة على المؤخرة جعلتها تضمر كل هذا الغيظ؟
‘لهذا السبب لا ينفع من نشأ مدللًا.’
ظل إدوارد يردد مرارًا تلك الأفكار في داخله، مدركًا أنه لا يليق به قولها بصوت عالٍ، لا سيما أمام مساهمة كبرى تملك 10% من أسهم شركته.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "55"