كان المكان الذي وصل إليه تلًّا يُطلّ على مقاطعة ويبين بأكملها.
العشب الأخضر ظلّ ممتدًا حتى في هذا الخريف، وكأن الأشجار التي قد تحجب الرؤية قد اقتُلعت عمدًا، فلا يبقى سوى شجيرات صغيرة مُنسّقة على مسافات منتظمة.
وفي وسط ذلك كان شاهد القبر.
『هوفن فورتمان. يرقد هنا.』
نقش قصير.
ابتسم إيريك بسخرية وجلس أمام القبر.
“إنه بالفعل على طريقتك.”
حتى موقع الدفن المطل على الأرض التي بناها بيديه، وحتى التنسيق الأنيق الذي يفوح بالترتيب، وحتى النقش المختصر على الشاهد… كل ذلك يُجسّد شخصية والده كما حفظها في ذاكرته.
ومن طبعه، فلا شك أنه رتّب كل هذه الأمور بنفسه قبل وفاته.
بمجرد النظر إلى شاهد القبر، استطاع إيريك أن يتخيّل لحظات والده الأخيرة.
“لا بد أنك ضايقت البنّائين مجددًا بحبّك للكمال.”
رجل لم يكن يطيق عيبًا ولو صغيرًا. لا بد أن العمّال الذين أعدّوا هذا المدفن قد قاسوا الأمرّين. لُعن كثيرًا، ورغم ذلك تجاهل والده الأمر كعادته.
ولذلك لم يكن غريبًا أن يُلقَّب بـ”عديم الرحمة”.
“لم أتوقّع أن ألتقيك هكذا. اللقاء الذي تخيّلته كان مختلفًا قليلًا.”
تردّد الكلام على شفتيه، ثم تركه يذبل.
كان ضربًا من العبث.
مدّ يده لتمسح الشاهد.
بدا أن الحجر من نوع جيد، فبعد عامٍ كامل بقي أملسَ باردًا.
ومن برودته استحضر إيريك صورة والده:
رجل فذّ رفع بيت فورتمان التجاري، مجرد أسرة تجّار بسيطة، إلى قمة ويبين.
رجل قاسٍ صنع أعداء لا يُحصَون.
رجل عاش وحيدًا، لم يُبدِ ابتسامة حتى لولده.
وبينما كان يستعيد هذه الذكريات، أدرك فجأة:
“لم أعد أحمله في قلبي كما من قبل.”
ذاك الرجل الذي كرهه حتى سالت دموعه دمًا، لم يعد يشعل فيه الغضب عند مواجهته.
كان يظن أن الأمر سببه الانشغال بالحياة والانغماس في ساحات القتال، لكنه اكتشف أن الكراهية قد تلاشت من قبل.
وكان ذلك أمرًا مثيرًا للسخرية.
فحين تُنتزع قشرة الشباب المتهوّر، وحين يُترك الحقد، لا يبقى سوى شعور بالشفقة.
‘كيف كان رحيله؟
وكيف عاش تسعة أعوام من دوني؟’
ظلّ محدّقًا طويلًا في الاسم المنقوش على الشاهد وهو غارق في أفكاره.
“حتى لحظة إغماض عينيه، ظلّ رجلًا عقلانيًا.”
كان ألديو، وقد ترك العربة مربوطَة وجاء.
نظر إليه إيريك.
كان وجه ألديو غارقًا في الذكريات.
“لقد كان مصابًا بمرض في القلب. وقد أخفى الأمر حتى النهاية، فلم يعرفه إلا أنا والطبيب الخاص.”
“هكذا إذن؟”
“ومنذ بدأ يشعر بدنو أجله، انشغل بترتيب شؤونه وتحويل كل ما يملك إلى نقد. وقد نالني من العناء نصيب.”
ضحك ألديو بخفة وهو يتابع.
فانفلت من إيريك ضحك قصير متقطّع.
“أيها الخادم الوفي، ما الذي أعجبك في ذاك الرجل البارد حتى ظللت ملازمًا له؟”
وبالتفكير، كان الأمر حقًا عجيبًا.
في كل لحظة يتذكّرها، كان ألديو إلى جانب والده، يعاونه، ويُصلح ما يُهمل، ويعتني حتى به هو، إيريك.
وبسبب ذلك لم يتزوّج ألديو حتى الآن، ولم يكن له إخوة أو عائلة. عاش كأنه قطعة من أثاث القصر.
كان لا بد أن والده لعب دورًا في ذلك، لكن ألديو لم يُبدُ أنه يمانع.
“لقد منحني مالًا وافيًا. وهل ثمة سبب آخر غير هذا؟”
أجاب وهو يرفع كتفيه ببرود، حتى بدا ساخرًا قليلًا.
ضحك إيريك مجددًا ضحكة قصيرة.
“لكنّك لم تسألني.”
“مم؟”
“عن ميراث سيّدي. ألم أقل إن كل ما كان لديه حُوّل إلى نقد؟”
حين عقد إيريك حاجبيه بدهشة، ابتسم ألديو.
“كل تلك النقود قد آلت إرثًا إليك يا سيدي.”
ارتعشَت أطراف أصابعه فجأة.
توجّه بصره نحو شاهد القبر، وعلى وجهه ارتسمت دهشة غامرة.
“هذا الرجل؟”
“نعم، هكذا أوصى سيّدي.”
ما هزّ إيريك حقًا لم يكن الفرح بل الارتباك.
فلم يستوعب البتّة لماذا يترك والده الميراث له.
أليس كذلك؟ لو أراد أن يُظهر شوقًا لرآه بنفسه، ولو شعر بندم لترك اعتذارًا لا أموالًا.
فتح إيريك شفتيه مشدوهًا، ثم تلعثم وهو يسأل:
“…هل ترك وصية مكتوبة؟”
لعلّه دوّن مقصده في كلمات… لكن:
“ذلك ليس من طبعه. لم يكتب سوى تعليمات تخص الميراث. إن شئت أطلعك عليها…”
كما توقع، والده لم يكن يومًا رجلًا يكشف دواخله.
زفر إيريك تنهيدة ضجر، وعيناه تترقّبان ألديو وكأنهما تتوسلان جوابًا. لكن ألديو لم يفعل سوى أن هزّ رأسه.
“لا أعرف ما كان في قلبه. في ذلك وحده كان أبرد ما يكون.”
أطبق إيريك شفتيه بإحكام.
أي باعث كان وراء ذلك القرار؟ أبٌ لم يترك إلا حيرة متجددة حتى بعد موته.
“وماذا ستفعل بالإرث؟”
لم يُجب إيريك.
عاد إلى ذهنه قلق قديم لم يخطر له منذ صباه.
أطلق نفسًا طويلًا مؤجلًا الجواب، فاكتفى ألديو بأن خفَض رأسه.
“خذ وقتك بالتفكير.”
هزّ إيريك رأسه موافقًا.
—
وعاد من هناك محمّلًا بالاضطراب فقط.
كان يتأمل المشهد بشرود حين خطرت له فجأة تساؤلات نسيها.
“…على ذكر ذلك.”
“مم؟”
“الـ…”
توقّف الكلام في حلقه.
بدت له كلمة ‘الزوجة’ فجأة محرجة، فابتلعها وأكمل متردّدًا:
“…لماذا لا تزال تلك السيدة في القصر؟ بما أني غادرت، كان ينبغي أن يُفسخ الزواج.”
لم يأتِ الجواب مباشرة.
قاد ألديو العربة في صمت طويل، ثم تكلّم أخيرًا:
“لقد كان زواجًا سياسيًا. صفقة مموّهة على هيئة زواج.”
كان صوته مشوبًا بالمرارة.
“…هل يكفي ذلك سببًا؟”
“يكفي. على ما يبدو لم أذكر لكم شيئًا من قبل.”
“وما هو؟”
“أسرة فورتمان قد أصبحت بيتًا بارونيًا وراثيًا.”
اتّسعت عينا إيريك من الذهول.
التفت إليه ألديو بحذر وهو يردف:
“لقد حصل سيّدي على لقب نبيل. وبانتقال الميراث، ينتقل اللقب إليك كذلك. ولعلك تتذكّر….”
حينها فقط تذكّر إيريك ما نسيه.
كلمات سمعها يوم عقد زواجه.
“…بيت ويبين كان فقيرًا.”
نعم، كان بيت ويبين من الفقر بحيث لم يجد بُدًّا من المصاهرة ببيت تجّار كفورتمان.
وفي صفقة الزواج تلك، حيث كانت تيريا ويبين هي الرهن، أخذوا المال.
أما اللقب، فكان الثمن المقابل.
فهم إيريك تلك العِلّة.
“ألا تزال رهينة إذن….”
شعر بحرقة خفيفة في صدره.
ولو دقّق المرء في الأمر لوجدها شفقة.
غير أنّ ما لم يفهمه هو سبب بقائها في القصر حتى بعد مرور عام كامل على وفاة والده.
فهو، الوريث، لم يظهر بعد. وكان يمكن لتيريا، لو شاءت، أن تتسلّم الميراث بصفتها الوصيّة وتعود به إلى أسرتها. فما الذي جعلها لا تفعل؟
وحين سأل عن ذلك، جاءه الجواب:
“كان ذلك اختيار السيّدة.”
“…هي من أرادت ذلك؟”
“نعم.”
“أتدري السبب؟”
“ليست كثيرة الكلام. والحقّ، يؤسفني أن أقول إننا لم نصبح مقرّبين قط.”
قال ألديو معتذرًا بنبرة متحسّرة.
لكن إيريك أدرك الأمر.
وكيف لا؟ فلها هالة رفيعة تصعّب على المرء الاقتراب منها.
وفوق ذلك، فإنها متى سُئلت أجابت بجواب قصير يقطع سبل الحوار، فما كان للخادم أن يُكرهها على بسط الحديث.
ابتسم إيريك ابتسامة متحرّجة.
“هممم، امرأة عصيّة إذن.”
“إنها زوجتك يا سيدي.”
“إنها غريبة تمامًا عني. لم أرَ وجهها إلا مرة واحدة.”
“الجميع يكون الأمر كذلك في البداية.”
قالها ألديو مازحًا، غير أن الأمر عند إيريك كان حقًا معضلة.
فقط هذا الصباح، شعر بالحرج في مائدة الطعام حتى أنه حشر اللقمة في فمه ثم فرّ هاربًا.
فكيف يُفترض به أن يواجهها وجهًا لوجه؟
ومع تصاعد الإحراج، حكّ عنقه بتوتر.
وأثناء تبادلهما الحديث، كان القصر قد بدا أمامهما.
“تفضّل بالدخول أولًا. سأرتّب أمر العربة وألحق بك.”
“حسنًا.”
ابتعد ألديو.
وما إن وطئت عصا إيريك أرض القصر ودخل حتى صادف لقاءً لم يكن في الحسبان.
“…آه، لقد عدتَ؟”
“نعم.”
إنها تيريا.
كانت تضع قبعة قشّ وكأنها عادت للتو من حقل القمح، تحمل في ذراعيها بضع سنابل.
وثيابها بسيطة إلى حدٍّ قد يوهم المرء أنها مجرّد عاملة، غير أن تلك الهالة المهيبة جعلتها نبيلة حتى في هيئة فلاحة.
‘آه، أي حرج هذا وكيف أتصرف؟’
ارتسمت على شفتي إيريك ابتسامة متكلّفة بلا وعي.
“ذاك، هممم….”
“تفضّل بالكلام.”
“أندخل؟”
حدّقت تيريا في وجهه مليًّا، ثم هزّت رأسها موافقة.
“نعم.”
وما لبث إيريك أن لام نفسه.
‘أأصرّ على إطالة هذا الحرج بلساني؟ تبًّا لهذا الفم اللعين.’
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 5"