في ذاكرة إيريك لم تكن علاقة ظل القمر بالشيء السار.
لم يلتقِ بها سوى ثلاث مرات فقط، لكن تلك اللقاءات لم تجلب له سوى العرقلة، ولذلك لم يستطع أن يحمل لها أي انطباع طيب.
وحتى لو ترك كل ما عدا ذلك جانباً، فحادثة زفاف البيرت غراهام كانت الأشد وطأة.
ذلك الرجل الذي لم يكن يستقر على امرأة، قد عقد العزم أخيراً على أن يعيش مع إحداهن.
ولكي يبارك لصديقه مستقبله المشرق، ترك إيريك حتى أعماله في ساحة المعركة وهرع لحضور الزفاف. لكن يا للعجب، هناك واجه ظل القمر وهي تحاول اغتيال البيرت.
وبعدها أرسلوا اعتذارهم، غير أنه لم يكن موضع ترحيب.
وعلى ذلك السبب الشخصي، جاء اليوم سبب آخر يضاف إليه.
“حقاً أنتم لا تكفون عن إزعاجي في كل صغيرة وكبيرة.”
جلس إيريك على الكرسي مستنداً إلى عصاه، يرمقهم من علٍو.
كانت هيئة انحنائهم دلالة واضحة على الخضوع، لكن هذا لم يجلب له ارتياحاً.
‘أترى الأمر محض صدفة؟ أم أنه مقصود؟’
ظهر من يعرف الصلة بين شبح السيف كاشا وبين إيريك فورتمان.
وكان في نفسه ميل لأن يجزّ رقابهم فوراً ليصمتوا، غير أنّه لم يكن وقتاً مناسباً لذلك، إذ قد يترتب على قتلهم انكشاف المزيد من الأشخاص المرتبطين بالأمر.
بل، وقبل هذا كله، ما الذي جاء بهم حتى هذه الأرض؟
كاد أن يفتح شفتيه ليعرف الجواب حين…
“يا، يا كونت! لقد كان بطلب من الكونت نِمرود!”
صرخ ظل القمر، التي بدا أنها القائدة، بصوت يائس.
ارتفعت حاجبا إيريك.
“نِمرود؟”
إنه والد ذاك الأحمق الذي التقى به في محلّ الخياطة.
والآن يصل به الحال إلى أن يستأجر قتلة؟
سأل إيريك وهو يشعر بالضيق:
“إلى أي حد يعرف هو؟”
“ماذا تقصد بقولك… إلى أي حد؟”
“أعني، إلى أي مدى يعرف عني.”
ارتجف جسد ظل القمر ارتعاشة خفيفة.
ثم اعترفت بصوت مرتجف بكل ما تعرفه.
“ذا، ذلك يعني…”
وخلاصة قولها أنّ الكونت نِمرود لم يفعل ذلك إلا بدافع الحفاظ على شرف عائلته، إذ رأى أن إيريك قد أهان وريثه يوماً، فقرر اغتياله.
كان في الأمر سخف ظاهر، لكن على الأقل لم يظهر أي رابط مع كاشا، وهذا وحده جلب بعض الارتياح لإيريك.
وبالتالي لم يبقَ سوى سؤال واحد ينبغي التفكير فيه:
“إذن عليّ أن أعرف لماذا أنتم الذين دأبتم على العبث في الغرب قد جئتم إلى هنا.”
هل كان الغرض مجرد توسيع أعمالهم؟ هراء لا يُصدق.
إيريك كان يعرف هوية الظل الذي يقف وراء ظل القمر، ذلك الذي يحرّكها دون أن تدري.
فبمزاجها وأسلوبها لم يكن لظل القمر أي سبب كي تمد يدها نحو الشرق.
“اعلموا أنني لا أحب الكذب.”
وحين أطلق إيريك هالته القاتلة، ابتلع قتلة ظل القمر ريقهم اليابس.
ثم بالكاد، مرتجفين من الخوف، تفوّهوا بالجواب:
“ذا، ذلك هو…”
وفي لحظة، غشي البياض عقل إيريك.
—
أنهت تيريا كل استعداداتها ثم نظرت في المرآة.
فستان كحليّ بسيط، شعرها مضفور بلطف وملفوف إلى الخلف، ومسحة خفيفة من الزينة غير المبالغ فيها.
مظهرها لم يختلف عن أي مرة حضرت فيها حفلات البلاط، لكنها في داخلها كانت راضية غاية الرضا.
وكان ذلك طبيعياً.
فحفل الليلة لم يكن كسابقاته، إذ إن إيريك سيحضر معها.
إنها أول حفلة ملكية تحضرها معه، فكيف لا يملأها الشوق والارتعاش؟
ولن يكون الأمر مثل الأعوام التسعة الماضية، حيث لم تفعل سوى مرافقة سيد العائلة السابق، مستغرقةً في حديث التجارة مع كبار الزبائن.
ولن يتكرر مشهد العام الفائت، حين جلست وحدها في ركن القاعة تقضي الساعات ساهية.
بل، حتى لو جلست في ركن هذه المرة، لما كان ذلك مهماً.
فقط وجودها مع إيريك في تلك اللحظة، في ذلك الوقت، سيملأ قلبها بالرضا الغامر.
“سيدتي، الشاب قد أنهى استعداداته.”
قال ألديو وهو يقترب، فما كان من تيريا إلا أن شعرت بارتعاشة صغيرة من الترقّب.
لكن من غير اللائق أن تُظهر مثل تلك المشاعر أمام خادم.
“علمت. فلننهض إذن شيئاً فشيئاً.”
“نعم، وأيضاً…”
“ألم نتفق على أن نكفّ عن هذا الحديث؟”
ارتجف ألديو فجأة.
تيريا تماسكت بصعوبة كي لا يظهر خجلها، وتظاهرت باللامبالاة وهي تتجاوز الأمر.
لا شك أنّ الحديث كان عن السرير.
“ولو كان الوقت قصيراً، فكيف نترك سيد العائلة ينام على سرير رديء؟ إنّ النبيل حتى في ليلة واحدة يجب أن ينشد الراحة.”
حين رأت تيريا أول مرة سرير إيريك مكسوراً، تفاجأت، لكنّها قامت حينها بفعلين عفويين:
الأول أنّها جذبت زوجها إلى سريرها، والثاني أنّها أخّرت عمداً موعد وصول سريره الجديد.
كان ذلك تصرّفاً بلا تفكير، نابعا من غريزة لحظية، وهذا ما جلب لها شيئاً من الخجل.
لكن أليس الأمر كذلك؟ إنهما زوجان.
ولم يكن في نيّتها أي فعل كبير سوى أن يناما معاً على سرير واحد. فكيف يعدّ ذلك طمعاً زائداً؟
وفوق ذلك، لم يحدث بينهما أي شيء شخصي آخر، بل فعلاً ناما فقط.
وربما إنكار وجود بعض الخيبة سيكون كذباً، غير أنّ تيريا كانت تشعر برضا عميق يفوق حاجتها بمجرد ذلك.
على كل حال، كانت العثرة الوحيدة أنّ ألديو، الذي كان يوصل الرسائل، لمح بعض نواياها.
ورغم أنها نجحت في التبرير وإسكاته، إلا أنّه من وقت لآخر بدا كأنه يشعر بالحرج فيُظهر اضطرابه.
“إمم…”
أطرق ألديو رأسه موافقاً، ثم تكلّم وفي صوته شيء من التبرير:
“صحيح، أنتما زوجان. ثم إن الوقت قد حان لوريثٍ…”
“يا كبير الخدم.”
“…نعم، عذراً.”
خفض ألديو رأسه بانكسار.
وشعرت تيريا لسبب ما بشيء من الذنب والارتباك، فقالت بصوت خافت، وكأنها تترك الكلمات تفلت عفواً:
“ذلك الأمر سنشرع فيه حين يحين وقته. فإنتاج وريثٍ واجب على النبيل أيضاً.”
جاء صوتها جافاً رسمياً.
وكان هذا من عادتها السيئة: كلما اشتدّ توترها، أخفت مشاعرها أكثر.
ومع ذلك، بدا أنّ وجه ألديو قد انفرج قليلاً.
‘الوريث.’
كانت تيريا تدرك تماماً أنّ إنجاب طفل لن يكون فرحاً لها وحدها.
لكنّها لم تذكر هذا الأمر صراحة حتى الآن، لأنها لم ترد أن يكون اجتماعها بزوجها لغرض رسمي بحت.
“…حسناً، يمكنك أن تنصرف.”
نهضت تيريا من مكانها.
كفى هواجس.
فإن استسلمت لأفكار عابرة كهذه، فستضيع عليها لحظات جميلة.
ثم توجهت نحو إيريك.
—
“لقد جئتِ.”
حين استقبلها إيريك عند الباب الرئيسي، شعرت تيريا أن قلبها يقفز بقوة.
كان في طلّة المحبوب حين يتأنّق على غير عادته سحرٌ يبعث في النفس رجفة.
بذلته البنية الفاتحة، المشابهة للون شعره، بدت في غاية الاتزان.
ورسمت الزينة البسيطة على وجهه جمالاً متحفّظاً لا يخلّ بالمهابة.
أما جبينه المكشوف بشعره المصفف إلى الخلف، فقد بدا مستوياً جميلاً.
“…فلنبدأ بالتحرّك إذن.”
قالت تيريا وهي تنظر إلى الأرض دون قصد، كأنها وجدت صعوبة في لقاء عينيه.
فأجاب بابتسامة خافتة:
“فلنفعل.”
وكان صوته أعمق من المعتاد.
وحين صعدت العربة وألقت نظرة جانبية عليه، بدا غارقاً في التفكير.
تذكّرت أنه لم يكن يستسيغ حفلات البلاط الملكي، فربما كان متوتراً.
وإن كان الأمر كذلك، فإن دورها كزوجة أن تزيل ذلك التوتر.
فالتفتت نحو النافذة وقالت:
“لن يحدث شيء كبير. فالحفل سينشغل فيه الجميع بنظرهم إلى نبلاء المركز على أي حال.”
“…هكذا هو؟”
“نعم، يكفي أن نقتل بعض الوقت وننصرف.”
“…فهِمت.”
كان جوابه أبطأ مما ينبغي، كأن فكره مشغول بأمر آخر.
وفي تلك اللحظة انتاب تيريا شيء من الخيبة الخفيفة.
ثم تنحنح بصوت خافت، وأتبع قائلاً:
“إنكِ جميلة… اليوم.”
التعليقات لهذا الفصل "49"