أمان شعر بالارتباك.
فما إن اختفت تيريا والسيدة حتى انقلب وجهه رأسًا على عقب وصار يتصرّف بهذه الوقاحة، حتى إن أمان بدأ يتساءل إن كان قد جمع معلوماته عنه بشكل خاطئ.
‘ألم يقولوا إنه رجل لا يُؤبه له؟’
كانت تلك معلومة وردته من شخص موثوق.
زوج تيريا العائد إلى مقاطعة ويبين… أي ربّ أسرة فورتمان، قيل عنه إنه مجرد جلف لم يتلقَّ أي تعليم نبيل يليق بمقامه.
بل إنّه بلا سند، فيستدعي فرسانًا من المقاطعة المجاورة ليصطادوا له الوحوش.
لكن ما يراه الآن كان شيئًا آخر.
‘ما هذا…؟’
لم يكن يبدو تافهًا على الإطلاق.
والغريزة دائمًا ما تكون أصدق من العقل.
جسد أمان بدأ يتصلّب شيئًا فشيئًا.
كانت نظراته حادة للغاية، حتى إنه لم يستطع أن يخرج برَّدّ معقول.
كان ذلك إحساسًا غريبًا جدًا على أمان الذي عاش كابن أسرة نِمْرود.
غربة… موقف غريب… وخوف غريب ينبعث من خصم غريب.
وكما هي طبيعة البشر، بدأ أمان يُبدي ردود فعل تلقائية.
“تجرؤ!”
“تجرؤ؟”
“أتجهل قدرك وتجرؤ على رفع راية العصيان في وجه نِمْرود!”
لقد كان ثائرًا.
ففي فردين، كانت أسرة نِمْرود تملك من المكانة ما يتيح لها فعل ما تشاء.
أليس نفوذ والده، كونت نِمْرود، يكفي ليُسَنّ قانون جديد في المملكة بأسرها؟
مدّ أمان كتفيه وصاح بصوت مرتفع، لكن صوته كان أجوف.
فالطريدة العاجزة، مهما نفشت ريشها، لا يراها المفترس إلا وليمة دسمة.
ولم يكن لأمان أن يدرك ذلك، فانفجرت صيحاته أكثر:
“أتظن أن ويبين الحقيرة ستحميك؟ تعليم؟ تهذيب؟ أترى نفسك في موضع يسمح لك بمحاسبتي على ذلك!!!”
حتى أشار بأصبعه بعنف وهو يصرخ:
“اعرف قدرك! أنت بارون لمقاطعة ريفية بائسة، فاخفض رأسك! أي أسلوب هذا في الحديث…”
“فُه!”
انفلتت ضحكة ساخرة من بين شفتي إيريك.
لا، بل كانت ضحكة ازدراء.
“كههه…”
كان يهتز حتى كتفيه وهو يضحك، وعلى وجهه تعبير غريب.
“أسلوب الحديث… أسلوب الحديث، تقول…”
مسح ذقنه وهو يتمتم ‘همم’، لكن نظره لم يكن موجّهًا نحو أمان.
كأنما غاص في أفكار أخرى.
وكان ذلك صحيحًا.
“أعذرني إن ضحكت، لقد ذكّرتني بالماضي فجأة.”
جلس إيريك على الأريكة وأسند ظهره.
عندها فقط توقف أمان عن النظر إليه من علٍ.
لكن لم يشعر بأي طمأنينة.
كان أنفاسه تختنق في صدره.
وكأن ركبتيه ستخونانه ويسقط أرضًا.
كان هذا رد فعل طبيعي لانبعاث الهالة التي طالما كبحها إيريك.
“كانت أيامًا قديمة… لعلها خريف عامي السادس عشر…”
بدأ إيريك يحكي عن ماضيه فجأة.
“كنت يومها غِرًّا للغاية. بل وحتى الآن ما زلت هكذا، لكن حينها كنت أسوأ. وفوق ذلك، كنت أعيش في مكان لا يعرف أحدًا يمدّ لك يد العون، فصار طبعي حادًّا قاسيًا، أفلا توافقني؟”
“ماذا…؟”
“كان لساني بذيئًا. أصبّ اللعنات على الكبير والصغير دون تمييز. وفي تلك الفترة، قال لي من كان يشرف عليّ يومها…”
طَرق إيريك الأرض بطرف عصاه، طَرقات متتابعة، وعلى وجهه بدا وكأن لمحة شوق قد برزت.
“‘الكلام هو وعاء الإنسان. فمهما تضمره نفسك، اجعل لسانك دائمًا مؤدبًا. فبقدر ما يكون لسانك مؤدبًا، يكبر وعاؤك’.”
“…”
“ومنذ تلك اللحظة بدأت أغيّر أسلوبي. كنت أظن أن أسلوب الشيوخ هو الأكثر تهذيبًا، فاعتدته رويدًا رويدًا، حتى صار عادةً لا شعورية. ولهذا أجدني حتى الآن أتكلم بلسان العجائز دون أن أشعر.”
لم يفهم أمان مغزى كلامه.
ظل مقتنعًا أن إيريك إنما يهينه ويسخر منه، ولم يستطع أن يتخلّص من ذلك الشعور.
وما إن همّ بتحريك شفتيه ليرد، حتى قاطعه:
“على كل، المهم أنني صرت شخصًا قادرًا على التظاهر بالتهذيب في الظاهر، أليس هذا ما يَعنينا؟”
التقت نظراته بنظرات أمان.
وكأنها ازدادت حُمرة عن ذي قبل.
“لكن… يبدو أن أصل الإنسان لا يتغير كثيرًا.”
لمّا انتهت كلماته، دوّى صداها في أذن أمان.
“فأحيانًا ينساب الطبع الحقيقي للخارج. ولذا لا ينبغي الوثوق بكلام الإنسان كثيرًا.”
وووش―
انقلبت الدنيا في عيني أمان.
قعقع!
اصطدم رأسه بالأرض بعنف، وبعد لحظة فقط أدرك أنه ارتطم بها بكل جسده.
“أواه!”
الألم الذي انفجر في جمجمته كان لا يوصف.
لم يسبق له أن ذاق عذابًا كهذا من قبل، فارتبك أشد الارتباك.
راحت عيناه تدوران باحثتين عن السبب، ولمح حينها عصا إيريك وقد عُلّقت على كتفه.
عندها فقط شعر بوخز في كاحله.
لقد هوى إيريك بعصاه على كاحله فأسقطه أرضًا.
“ه-هذا…”
“كبح الشتائم ليس بالأمر اليسير. أليس عليَّ أن أُعامِل حتى من لا يشبهون البشر معاملة بشر؟ يبدو أنني لا أملك هذه السجية.”
عاد أمان يرفع بصره نحوه، لكن هذه المرة من وضع أكثر إذلالًا.
فقد صار يجرّ جسده على الأرض وهو يرفع رأسه ليتأمله.
وفي تلك اللحظة…
“أظن أن هذا المستوى هو المناسب لنظراتنا المتقابلة.”
ابتسم إيريك ابتسامة باردة وهو ينطق بذلك.
“ولِمَ ترفع بصرك إليَّ؟ أتجهل قدرك؟”
طرق!
ارتكز رأس عصاه على جبين أمان.
لقد كان ذلك مهينًا للغاية.
ومع ذلك لم يستطع المقاومة.
فالهالة التي بثّها إيريك كانت مختلفة تمامًا عن كل ما عرفه أمان من قبل.
حتى والده، الذي طالما خافه، لم يكن بهذا القدر من الرعب.
انخفض بصره تلقائيًا.
غير أنّ كبرياءه العجيب جعل فمه يلهث بكلمات، رغم ارتجافه:
“أتظن أنك ستفلت من… هذا؟”
“وماذا ستفعل إذن؟”
ضغط إيريك بعصاه على جبهته، وعدّل زاويتها حتى يلتقي نظره بعينيه.
كان باردًا… وهادئًا… وفي الوقت ذاته شرسًا.
“أتراك ستهرع إلى ذلك الكونت العظيم شاكياً تطلب منه أن يعاقبني؟ أو لعلّك ستستأجر فارسًا لتطلب منّي المبارزة؟ أو ربما… ستختار أن تواجهني بنفسك؟ أما أنا، فأحبّذ الخيار الأخير كثيرًا. هذا مجال خبرتي. وأعدك أنني سأُبقيك حيًّا.”
من أين ينبع هذا اليقين؟
هل هو من جسده الضخم؟ أم من قوته التي أسقطت أمان بعصاه بسهولة؟
أيًّا كان السبب، لم يكن بوسع أمان في تلك اللحظة سوى الارتجاف خجلًا وإذلالًا.
وكان ذلك طبيعيًا.
فكيف يُقارن ابنُ نبيلٍ من دولة شرقية ضعيفة برجل يُلقّب بمالك ساحة المعركة، وأحد أقوى سبعة على القارة؟
حتى مكانته ونسبه لم يغنيا عنه شيئًا.
فلو كان الحديث عن “إدوارد الذهب” لربما نفعه ذلك، لكن “كاشا المبارز” لم يكن من أولئك الذين يرهبون السلطة أو المكانة.
كل من عرفه في الغرب أجمعوا بلا استثناء:
ذلك الرجل يمتلك أشدّ طبع وحشي يمكن لإنسان أن يحمله، وهو أبعد ما يكون عن أي سلطة أو جاه دنيوي.
بلغة دارجة، كان يُقال عنه إنه مجنون يلوّح بالسيف أولًا كلما ضايقه شيء.
“ترى، هل بقي بيننا ما يستحق أن يُقال؟ في الحقيقة، ما أريده أبعد ما يكون عن مجرد حوار.”
طَرق، طَرق.
أخذ إيريك ينقر برأس عصاه على رأس أمان وهو يتكلم:
“انصرف. ابذل جهدك وفكّر مليًّا في طريقة تردّ بها هذه الإهانة. سأنتظر بفرح. ما عليك سوى أن تحفظ شيئًا واحدًا.”
وفجأة…
“كغَهك…!”
شعر أمان أن عنقه يُعتصر.
كان ذلك أثرًا محسوسًا للهالة القاتلة وقد تجسدت، لكن معارف أمان لم تسعفه لفهم ما يحدث.
لم يدرك سوى أن جسده كله يرتجف وأن أنفاسه تُسحق في صدره.
فانفجر داخله خوف صافٍ.
“ما دامت أفعالك لا تمس زوجتي، فبوسعك أن تجرب معي كل ما تشاء.”
نطق إيريك كلماته بوضوح كأنه يغرسها في ذهنه.
وكانت نافذة جدًا.
فروح أمان الهشّة، غير المتمرّسة، راحت تترنح وتدمع عيناه حتى خرج منه إقرار مذلّ متقطّع.
“كخْه…هَه…”
بدأ أمان يزحف نحو باب محلّ الخياط وهو يرتجف.
لم يكلف إيريك نفسه أن يمنعه.
بل اكتفى بمراقبة الأثر الذي يتركه خلفه.
“حقًا إنك كالقوقع… تجرّ جسدك وتترك إفرازاتك حيث تمر.”
لقد تبوّل أمان على نفسه.
ولوّح له إيريك بيده مودّعًا:
“سنلتقي في الحفل. وأنا، صدقًا، سأنتظر بهجةً أن تأتي بردّك.”
طَق!
انفتح باب المحل، فاندفع أمان هاربًا دون أن يلتفت خلفه.
—
أطلق إيريك زفرة طويلة وهو يحدّق بالباب الذي خرج منه أمان.
‘ما العمل الآن؟’
كان قد تهوّر في اندفاعه، وتساءل إن كان قد بالغ في القسوة.
لكن الندم لم يطل.
‘وإن حدث، فالتفاهم مع الكونت كفيل بحلّه.’
ومن أسلوب أمان نِمْرود في الكلام، ازداد يقين إيريك بأن والده، كونت نِمْرود، رجل ذو سطوة عظيمة.
وكان إيريك يعرف سمة مشتركة في أمثال هؤلاء:
إنهم يغلّبون مصلحة أنفسهم وعائلاتهم على هيبة أبنائهم.
فإن أراد الكونت، كان إيريك على استعداد لأن يبرم عقدًا يلوّح فيه بسيفه لصالحه.
‘لا مزيد من التفكير… الأمر محسوم.’
ما دام قد تجاوز الحدّ بالفعل، فالتفكير في المخرج لاحقًا لا يضر.
وفوق ذلك، لم يكن ثمّة ما يخيفه مهما دبر أمان نِمْرود من حيل.
وبينما كان ينتظر عودة تيريا، علم أخيرًا لماذا تكبّد أمان مشقّة المجيء إلى هنا ليغازلها.
“…كنتُ في صغري قد خُطبت رسميًا للسيد من ويبين. لكن رُفض الأمر من جهتهم، كما أن ظروف ويبين لم تكن حسنة، فانتهى كل شيء.”
ما إن سمع إيريك هذا الكلام حتى تبخّر ما بقي في صدره من ندم.
“هكذا إذن؟”
لقد شعر باشمئزاز شديد.
بل كان إحساسًا مفاجئًا أدهشه هو نفسه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "46"