سادت مائدةُ الإفطار أجواءُ صمتٍ مُحرِج.
كان إيريك يرمي بنظراتٍ متقطّعة نحو تيرِيّا، وملامحُ وجهه متجهّمة.
‘كيف يُعقَل أن تمتلك مثلَ تلك العادات السيئة في النوم… ثم لا تدركينها؟!’
بل والأسوأ أنّها ألقَت باللّوم عليه!
حاول أن يلمّح بعينيه أنّه فهم مقصدها، غير أنّ علاقتهما لم تبلغ بعدُ ذلك القرب الذي يسمحُ بأن يفهما بعضهما بالإشارة.
تيرِيّا، وكأنّ شيئًا لم يكن، أنهت طعامها بوجهها السّاكن المعتاد، لكن أسرع قليلًا من المعتاد.
“سأُعدّ نفسي للخروج. وعلى سيّدي أيضًا أن يتجهّز.”
“…حسنًا.”
عاد كلٌّ منهما إلى غرفته.
وبعد أن ارتدى إيريك ثيابًا بسيطة جاهزة، خرج فلم يرها إلا بعد نحو عشرين دقيقة.
فأدهشه منظرُها قليلًا.
كانت ترتدي فُستانًا رماديًّا للخروج، تعلوه معطف، وفوقه رداءٌ من الفرو.
لباسٌ يليقُ بالخروج في الشتاء، لكن دون المبالغة الأرستقراطيّة المعتادة.
ومكانُهما المقصود اليوم لم يكن أقلَّ من متجرٍ راقٍ للأزياء الفاخرة، يقع في قلب شارعٍ هو الأشدُّ بريقًا بين أحياء النبلاء في العاصمة.
وما عرفه إيريك عن تلك الأماكن أنّ النبلاء يتباهَون فيها بمَن يرتدي أبهى وأفخم الثياب.
أما تيرِيّا، التي ما كانت لتُقارنَ بغيرها في أرستقراطيّتها، فقد بدت مختلفةً عنهم في هذا الجانب.
قالت بهدوء:
“المبالغةُ مكانها المناسب هو قاعةُ الحفل فقط. بل إنّ هناك أيضًا لا ينبغي التزيُّن بما يفوق الحدّ، وإلّا بدا خارجًا عن سياق المناسبة.”
“أشبهُ ما يُقال: ‘جمالُ الاعتدال’.”
“تعبيرٌ في محلّه.”
أومأ إيريك موافقًا، ثم جال بنظره حوله.
كان يبحث عن ألدِيو، لكنّه لم يَرَه.
“عمّن تبحث؟”
“لا أرى ألدِيو. أردتُ أن أخبره قبل أن نخرج.”
“لقد أوصيتُه منذ الصباح بالذهاب لترتيب أمر السرير الجديد. وكان هناك رسائلٌ يحتاج أن يوصلها أيضًا.”
“آه… صحيح.”
تذكّر إيريك كيف أنّها كانت بالأمس شديدة الغضب حين رأت السرير المكسور.
“…فهمت. إذن فلنذهب وحدنا.”
“نعم.”
وانطلق الاثنان خارج القصر.
—
في العاصمة فِردِين، كان هناك شارعٌ خاصّ بالنبلاء، يُعرَف ببساطة باسم “الجادة الأولى”.
كان يضمّ قصورَ أبرز العائلات الأرستقراطية، فنشأ فيه أيضًا حيٌّ تجاريّ يخدمُ حاجاتهم.
وسط الشارع كانت عرباتٌ فاخرة تسير في موكبٍ شبه متّصل.
وعلى جانبي الرصيف، كان النبلاء يسيرون يتلقّون مساعدةَ خدمهم، بينما يدور وكلاءُ البيوت الكبيرة في حركةٍ نشطة لإنجاز المهام.
كان المكان يعجُّ بالحياة.
لكنّ الغرابة التي شعر بها إيريك مردُّها أنّ حياةَ هؤلاء تختلفُ تمامًا عن حياة النبلاء في الغرب.
’ما أهنأهم.’
من ملامحهم وحدها تبيّن له أنّهم يعيشون في رخاءٍ وطمأنينة.
ولمّا صقَل حواسَّه، التقطَ شيئًا من أحاديثهم العابرة:
“يجب أن نرتّب لقاءً مع الكونت نِمْرود في الحفل القادم. أعددتُم قائمةً باهتماماته، أليس كذلك؟”
“إنّه حفلُ ظهور ابنتنا الأوّل! لا مجالَ لأيّ خطأ.”
“سأقضي وقتًا منفردًا مع الشابّ جِليان في الحفل! فتأكّدوا أن يكون ردائي جاهزًا في الوقت المناسب.”
أحاديثُ أهلِ عصرٍ مسالم.
أمّا الغرب فكان على النقيض، إذ لم يُسمع في مجالسهم سوى وجوهٍ متجهّمة وأصواتٍ تناقش الحرب بلا انقطاع.
“ندخلُ من هنا.”
“أوه، لقد وصلنا إذن.”
قادته تيرِيّا إلى متجرٍ أنيقٍ يقع في زاويةٍ هادئة من الشارع.
“آه… المكان له طابعٌ مميّز.”
من خلف النوافذ ظهرت دُمى العرض وهي ترتدي أزياءً غايةً في النظافة والترتيب.
ولئن كان ذوقُ إيريك يميل عادةً إلى ما يزدحمُ بالزينة والسلاسل، فإنّه أدرك أن حضور الحفل بمثل تلك الملابس لن يجلب له سوى السخرية.
أما هذا… فكان يُجسِّد الأرستقراطيّة المطلوبة.
“إنّه متجرٌ مختصّ بملابس الرجال. وكان السيّد الراحل ـ والدك ـ يلجأ إليه عادةً كلّما أراد حضور حفلاتٍ أو مناسبات.”
لم يستطع إيريك أن يمنع نفسه من الارتجاف حين ذُكر والده.
‘لا بُدّ أن أغيِّر هذه الأمور شيئًا فشيئًا…’
شعر فجأةً بحرجٍ ثقيل.
‘…على أيّة حال، فهذا بمثابة شهادةِ ضمان.’
ومهما كانت مشاعره، فما دام ذلك ذوقَ أبيه، فهو بالتأكيد ذوقٌ مُعترف به بين النبلاء.
دخل إيريك مع تيرِيّا إلى المتجر.
“مرحبًا بسـ… آه! إنّها البارونة فورتمان!”
“لقد مرّ وقتٌ طويل.”
ارتسمت الدهشة على وجهها.
ابتسم إيريك ابتسامةً متكلَّفة.
‘صحيح… من المستحيل أن لا تكون الشائعات قد سبقَتني.’
ليس بصفته “شبح السيف كاشا”، بل كـ”الابن الضالّ إيريك فورتمان” كانت الأحاديث قد انتشرت في فِردِين.
فالنبلاء، في النهاية، لا يتخلّون عن عادة الخوض في شؤون غيرهم.
فكيف إذا تعلّق الأمر بعائلة فورتمان التي لم تنضمّ إلى الأرستقراطيّة إلا متأخّرًا، وبقصةٍ عائليّةٍ وفّرت لهم الكثير من مادة السخرية؟
شعر إيريك بخزيٍ داخلي، لكن لم يكن أمامه إلا أن يواجه الأمر. فقد جلب هذا التقييم على نفسه.
مدّ يده مُصطنعًا الثقة ليصافحها.
“سمعتُ الكثير عن هذا المكان. جئتُ اليوم أبحث عن لباسٍ للحفل. ورؤيةُ واجهة المتجر كفيلةٌ بأن تُطمئنني إلى مهارتكم.”
كان هذا الأسلوب في الإطراء ممّا تعلّمه من البيرت غراهام.
ولحسن الحظ، ابتسمت المديرة ابتسامةً مشرقة، وقد سُرّت بكلماته.
“يا إلهي! لا داعي لكل هذا المديح.”
وانطلق ضحكها الأنثوي الرنّان، كاشفًا بوضوح عن طبيعتها.
“لنرَ…”
أخذت تتأمّل إيريك من رأسه حتى قدميه، لكنّ الحيرة سرعان ما ظهرت على ملامحها.
سألتها تيرِيّا باستغراب:
“ما الأمر؟”
“بُنيتُه ضخمةٌ جدًّا.”
“وهل يشكّل ذلك مشكلة؟”
“يبدو أنّ الملابس الجاهزة لن تصلح له.”
ارتسم العرق البارد على جبين إيريك.
كان خطرًا متوقّعًا.
فجسده قد تدرّب في ساحات الحرب بلا توقّف.
وفنون السيف والمانا التي مارسها غيّرت حتى تكوين عظامه، فصار جسمه أكبر بكثير من أجسام نبلاء الشرق الذين يعيشون في سلام.
بل إنّ قامته كانت تفوق معظم الناس بمقدار رأسٍ كامل على الأقل.
تذكّر إيريك مقاساتٍ كان قد قاسها بمساعدة البيرت قبل حضوره إحدى حفلات الإمبراطوريّة.
“أظنّ أنّ طولي كان حوالي 184 سنتيمترًا. أمّا سائر المقاسات…”
“لا. لا، لا.”
“ماذا؟”
“لا بُدّ أن نقيسها مباشرة. إن اختلفت الأرقام عمّا تتذكّره، فستكون مشكلة.”
وقد لمع بريقٌ في عيني المديرة.
كان شغفًا غريبًا، أقرب إلى حماسة الحِرَفيّ المتفاني.
التفت إيريك إلى تيرِيّا.
فأومأت قائلة:
“اذهبْ وقِس ما يلزم. جدولنا في هذا الصباح لا يتضمّن غير هذا الأمر، فخذ وقتك.”
وجلست هي على الأريكة، فيما بدا إيريك متردّدًا.
‘هُم…’
لم يكن ارتياحه كبيرًا لفكرة كشف جسده أمام الآخرين.
أو بالأحرى:
‘لن يكون حسنًا إن كانت هذه المرأة ثرثارة.’
فإظهار هذا الجسد للعيان كـ”إيريك فورتمان” أمرٌ بالغ الإحراج.
—
قادَته المديرة “سيرِي” إلى غرفة العمل.
“تفضّل بالوقوف هنا. آه، هل تخلع سترتك؟ فقياس الطول وحده لا يكفي.”
كان في كلامها بعضُ المبرّر.
لكنّ الهدفَ الحقيقيّ لسيري كان فضولًا مهنيًا وحماسًا دفينًا.
‘جميل!’
لم تكن تقصدُ وجهه.
بل جسدَ إيريك فورتمان، ذلك الابنُ الضالّ، اتّخذ في أعينها شكلَ هيكلٍ عظميٍّ مثاليٍّ إلى حدٍّ يثير الإلهام.
حتى من فوق الملابس كان جسده يُلهِمُها.
راودها رغبةٌ في خلعه عن جسده.
لم تستطع سيري أن تتخلّى عن رغبتها في معاينةِ شكلِ العضلات المنقوشة على ذلك الجسد بدقّة.
لا عجبَ أن عينيها لمعَتا بلمعانٍ خاطف.
لو بدا إيريك بعضُ الخوف، فلا شيء يمنعُ سيري من المضيّ قُدمًا.
“أم…”
“نعم؟”
“…أيمكنك أن تُعطيني وعدًا واحدًا أولًا؟”
“أفضّل لو لا تنتشرُ شائعاتٌ حول جسدي. لا أظنّ أنّكَ سترغبين في أن تنقلي ذلكَ للآخرين.”
ما السرُّ المخجل الذي يدفعه لطلبِ هذا من الآن؟
لكنّ الأمر لم يكن هزليًا.
“ليس عندي الجرأةُ لأفضحَ عوراتِ النبلاءِ بين الناس. لو فعلتُ ذلك لما بقيت في هذا العمل ثلاثين سنة.”
ربّما لا تعرفُ سيري طبعَ النبلاءِ كفايةً.
فلما قالت ذلك تهدّأ إيريك وشرع بهدوءٍ في خلعِ سترته.
ابتلعَت سيري ريقها بصوتٍ جافّ.
ومع اختفاءِ المعطفِ وتفكيكِ ربطةِ العنق بدأ الدّفءُ يدبّ في المكان، ومع فتحِ أزرارِ القميص انفتحت أمامها خطوطُ العضلات وكأنَّ في رأسها ألعابُ ناريةٍ تنفجر.
ثمّ،
“…ما هذا؟”
ما إن كُشفَ القميصُ كليًا حتى تجمّدت سيري فجأةً.
“أرجوكِ، احفظي السرّ مجددًا.”
خطرت في ذهنها فكرةٌ مفاجئة: ‘هل تعرّض للتعذيب؟’
كان جسدُ إيريك مُنتنحًا بآثارٍ بشعةٍ في مواضع عدّة.
بخيالها لم تكن قادرةً أن تفهم كيف بقي هذا الإنسان على قيد الحياة وهو محمّل بهذا القدر من الندوب.
انتابها خوفٌ شديد.
لقد بدا له أنه عاش حياةً غير عادية جليّةً على الجسد.
وأوصتها غريزتها: ‘لو انتشر هذا الخبر… ربما يلحق بك إيريك فورتمان ويُمزّقُ عنقَك.’
بدأت أطرافُ أصابعِ سيري ترتعش.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "44"