لقد كانَ قد اكتشفَ ذلك الطَّبع أثناءَ عنايتِه بها.
فهي عادةً ما تنامُ منكمشةً كالقِشرة.
ومهما حاولَ أن يُعدِّل لها وضعَها ليكون مستقيمًا، فإنّها لا تلبثُ أقلَّ من عشرِ دقائق حتّى تعودَ إلى وضعيّتِها المُنحنية، ولهذا خطر له أنّ هذه الاستقامةَ قد تكونُ مُزعجةً لها.
“صدقتِ. لقد دُهشتُ فعلًا من كِبرِ هذا السَّرير.”
“لقد اهتمّ السَّيّدُ السَّابقُ بهذا الأمر.”
“…أبي؟”
“نعم.”
استدارَ رأسُ إيريك بسرعة.
نادِرًا ما كانت تيرِيّا تبادرُ بالحديثِ عن علاقتها بوالده.
تملَّكه شعورٌ أثقلَ صدرَهُ أكثر ممّا كان.
سألَ بصوتٍ امتزجَ بالشَّوق:
“هل يمكنكِ أن تُخبِريني المزيدَ عن أبي؟”
فلعلّهُ يُدركُ ما لم يفهمهُ من قبلُ عن مقاصده.
لو قالَ إنَّهُ لا يأملُ بذلك، لكانَ كاذبًا.
في البداية كان يظنّ أنّها وأباه لا يتبادلان أيَّ كلامٍ شخصي، لكن عشرُ سنواتٍ مرّت.
لا بدَّ أنّهُما تحدَّثا ولو قليلًا.
تردَّدت تيرِيّا قليلًا، ثمَّ أجابت بصوتٍ أخفض:
“…قالَ السَّيّدُ السَّابقُ يومًا إنَّهُ إذا عادَ ربُّ العائلة، فلا بُدَّ أن يستعملَ سريرًا واسعًا.”
ارتجفت أطرافُ أصابعِ إيريك.
“أكانَ يظنُّ أنّني سأعود؟ ذاك الرَّجل؟”
“لا أدري. لكنَّ السَّيّدَ السَّابقَ كان دائمًا يحتاطُ لكلِّ الاحتمالات، فلعلَّهُ من طبيعته.”
اشتدَّ اضطرابُه.
في الحقيقة، لو فكَّر بخصالِ والده في حياته، لكانَ كلامُها مقبولًا، لكنَّ تلكَ الوصيّةَ الموروثة أيقظت فيه فكرةً أخرى.
’ألعلَّهُ كانَ ينتظرني؟’
لقد ظنَّ أنّهُ تخلّى منذ زمنٍ عن هذا الأمل، غير أنّهُ اجتاحَهُ مرّةً أخرى.
لعلَّ ملامحَهُ أفصحت عن قلقه، إذ التفتت تيرِيّا من السَّقف إليه، فاضطرّ إلى رسمِ ابتسامةٍ متكلَّفة.
“أها… فهمت.”
حاولَ أن يتظاهرَ بالقوّة.
ولم تُبادِر تيرِيّا بالحديثِ بعدها.
إنّما ظلَّت تُبادله النَّظرَ بصمت، وكان لذلك أثرٌ غريبٌ في طمأنينته.
حقًّا، كم من مرّةٍ يكونُ الصَّمتُ أبلغَ من مائةِ كلمة؟
تذكّرَ هذه المقولة، فأحسَّ بحرجٍ لطيف.
ولم يقتصر الأمرُ على ذلك.
’…خُضراء.’
حتّى في ظلمةِ الغرفةِ، كانت عيناها تشعّان بخُضرةٍ لطيفة.
وشَعرُها الذي ينسدلُ على عنقِها كان ذهبيًّا.
مهما غطَّته الظِّلال، لم يتغيَّر لونه، فبدا ذلك غريبًا في نظره.
ثمَّ انزلقت عيناهُ إلى بشرتِها النّاعمة.
فجأةً، احمرَّ وجههُ كلُّه.
وحمدَ الله أنَّ الأضواءَ مطفأة.
“ح، حانَ وقتُ النَّومِ الآن. طابَ مساؤكِ.”
ما إن قال ذلك وأغمضَ عينيه حتّى شعرَ بتيرِيّا تتحرَّك إلى جانبه.
“…نعم.”
بصوتٍ يكاد يكون همسًا، تلاشت كلماتها، ثم أخذَ تنفُّسها يهدأُ شيئًا فشيئًا.
أمّا إيريك، فلم يكن الأمرُ كذلك.
دقّات قلبه كانت تتسارع: *دُق، دُق*. وكأنَّ الحرارةَ لا تريدُ أن تغادر جسده.
تمنّى لو ألقى باللِّحاف بعيدًا.
لكن بما أنَّهما يشتركان في لِحافٍ واحد، فإن فعل ذلك سينبِّه تيرِيّا.
ظلَّ متردّدًا لا يعرفُ ما يفعل، حتّى مرَّ وقتٌ لا يُعرَف مقدارُه.
*خَشخَش…*
ارتفعت الأصواتُ الخفيفة، وأصبحَ واضحًا أنّ تيرِيّا تتحرَّك في نومها.
فتحَ إيريك عينيه نصفَ فتحةٍ ونظر إليها.
كانت نائمةً بلا شك.
تقلُّبُها بملامحٍ مُنقبضة دلَّ على أنَّ وضعَ نومها غيرُ مريح.
وبينما كان يراقبها، امتدَّت يدُها تتحسَّس الهواء، تبحثُ عن شيء.
وما هي إلا لحظةٌ حتّى أمسكت بذراعِه.
“هَه…!”
حينها فقط تذكَّر إيريك إحدى عاداتها المنسيّة.
فلها عادةٌ أن تنامَ وهي تعانق شيئًا ما.
أحيانًا كان يدها، وغالبًا وسادة.
وها هي الآن تُقَرِّب جسدها منه شيئًا فشيئًا.
تجمّدَ إيريك في مكانه حابسًا أنفاسه.
“هـم…”
بتمتمةٍ غير واعية، التصقت بذراعِه أكثر.
لقد أصبح الأمرُ خطيرًا.
بكلِّ معنى الكلمة.
“سي… سيّدتي…”
لكن لا جواب.
اقتربَ منها بوجهٍ متوتّر ليتأكّد، فإذا بها غارقةٌ في نومٍ عميقٍ لم يعرف له مثيل.
‘ألعلّ السفرَ بالقطار أنهكها لهذا الحد؟’
استجمعَ قوّته الروحيّة ليتأكّد، لكن كلُّ ما دلّت عليه طاقتها الحيويّة أنّها في سباتٍ عميق.
“إن… إن نِمتِ بهذا الشكل، فماذا عساي أفعل أنا…”
تمتمَ بخفوت، لكنّها لم تستيقظ.
ولم يقف الأمرُ عند هذا الحدّ.
إذ راحت تنكمشُ في نومها، تأخذُ وضعَ “النَّومِ المنحني”.
عندها أدرك إيريك بوضوحٍ أكبر ملمسَ بشرتِها، عبيرَ جسدها، ونَفَسَها الدافئ يتسلّلُ إلى أعماقه فيُربِكه.
انسحبَ قليلًا نحو طرفِ السَّرير، لكن تيرِيّا تبعتهُ والتصقت به أكثر.
لقد جلبَ الكارثةَ بيديه.
كان يكفي أن يدع ذراعَه لها، فإذا به الآن يسلِّمها كامل جسده.
رأسُها مسندٌ إلى ذراعه.
ذراعُه الأخرى ملتفّةٌ حولَ خصرها.
وساقُها معقودةٌ على فخذِه.
‘يا لها من عاداتِ نومٍ سيئة!’
ومع ذلك، فهي تنامُ وحدها في راحةٍ لا مثيل لها، فيزداد غيظُه.
حاولَ أن يتنفّس بعمقٍ علَّهُ يهدأ، لكن صدرَه ظلَّ يضطرب.
بل إنّ همومَه بشأنِ والده، التي كانت تُثقِلُه قبل قليل، تلاشت في تلك اللحظة.
راحت أفكارٌ عشوائيّة تتسلّل إلى رأسه.
‘هل تضعُ العطرَ حتّى عند نومها؟’
‘ولِمَ هذه الرائحةُ الحلوة الغريبة؟ لا أفهم.’
‘حسنًا… كيف كانَت معركةُ تشيبور الدفاعيّة؟’
تلك المعركة التي لم يُرِدْ قطُّ أن يتذكّرها، ها هو يستحضرها الآن ليُلهي عقلَه.
لكن بلا جدوى.
ذكرياتُ الدمِ والموت هناك تتداخلُ الآن مع عبيرٍ حلوٍ يُغطيها.
ملمسُ الأجسادِ الممزَّقة يطغى عليه دفءُ بشرتها.
ولم يتوقّف الأمرُ هنا.
فأنفاسُها المنتظمة، الهادئة، اخترقتْهُ كالرصاص أشدَّ وقعًا.
وكاد يجنُّ من شدّة اضطرابه.
‘فلأنَمْ إذن…’
أغمضَ عينيه بقوّة، وضبطَ تنفّسه قدرَ ما استطاع، وبدأ نضالًا طويلًا مع نفسه ليدخلَ في النوم.
والنتيجة؟ نجح.
رغم الضِّيق، فقد غلبه النعاس أخيرًا.
وفي تلك الليلة…
لم يرَ إيريك كوابيس.
بلَى، لو سُمِّيَ كابوسًا لكان كابوسًا هو الآخر.
فكلّما رأى حلمًا، لم يَخْلُ مرّةً من التَّجوال وسطَ أهوالِ ساحات القتال.
غير أنّه هذه المرّة لم يجد نفسه في ميدان حرب، بل في أحشاءِ وحشٍ هُلاميّ، يتخبَّط داخله.
كان كابوسًا… ناعمًا على نحوٍ غريب.
—
تيرِيّا أفاقت وهي تشعرُ براحةٍ عجيبة تغمرُ جسدَها.
وما لبثت أن تصلَّبت في مكانها.
“أووه…”
أمامَ أنفِها مباشرةً، كان وجهُ إيريك الشاحب يتأوّه وهو يتململ.
وذراعاها مُلتفَّتان على جسده القويّ، بينما وجدت نفسَها معه ملتصقَين في زاويةِ السرير.
أوَّلُ ما خطر لها: ’أهذا حُلم؟’
فالمنظرُ كان شديدَ الوقع على الحواسِّ، حتى بدا مستحيلًا أن يكون واقعًا.
لكنّ الإحساسَ كان حيًّا، واضحًا… حيًّا إلى حدٍّ لا يمكن أن يكون وهمًا.
احتاجت وقتًا لتفهم ما الذي حدث.
ولِمَ استيقظت وهي على هذه الحال.
ثم انتهت إلى استنتاجٍ واحد:
’إنّ لربّ العائلةِ عاداتِ نومٍ سيئة.’
لا بدَّ أنّه هو من جذبها إليه واحتضنها أثناء نومه.
هكذا فقط يمكن تقبّل الأمر.
وإلّا فإنَّ الخجلَ وحده كفيلٌ بأن يجعلها تتمنّى الموتَ شنقًا في مكانها.
وها هي ذراعه الأخرى أيضًا مطوَّقةٌ حول كتفها!
اشتعلَ وجهُها بحُمرةٍ كالشمندر، وصار تنفُّسها مضطربًا كموجٍ في بحرٍ هائج.
ومع ذلك لم تجرؤ على التحرّك.
بل لعلّها… لم ترغب أن تتحرّك.
كان المشهدُ مألوفًا على نحوٍ غريب.
رغم الخجلِ الذي غمرَها، ارتسمت في ذهنها ذكرى الطفولة.
ذاك اليوم تحت الخيمة بجوار الجسر، حين قضت معه ليلةً كاملة… كان أوّل ما رأته عند استيقاظها صورةً كهذه.
تملّكها شعورٌ بالسرور والخَفَقان.
توترَ جسدُها بلا داعٍ، وقلبُها أخذ يذوبُ كغُزَل البنْدُق المبتلِّ بالماء.
وبينما كانت تحدِّق فيه مأخوذةً بمظهره وهو يتأوّه في نومه، لم تستطع منعَ نفسها من الابتسام.
“أوه!”
فجأةً فتح إيريك عينيه.
واحد… اثنان… ثلاثة…
“أهك!”
*طَخ!*
قفزَ كسمكةٍ حيّةٍ تتخبَّط، وسقط من السرير على الأرض.
أما تيرِيّا، فثبتت على حافّة السرير بصعوبة، وقلبُها هوى في صدرها.
لقد رآها… وهي تتأمّله وهو نائم!
كان في ذلك من الخجل ما يكفي ليحرق وجهها كلّه.
سارعت بالنهوض، رتّبت ثيابها، وحاولت أن تُخفي اضطراب ملامحها.
أدارت وجهها بعيدًا عنه، ثم تمتمت بتبرير:
“…لم أستطع الإفلات. يبدو أنّ سيّدي يملك عاداتِ نومٍ سيئة.”
فكيف لها أن تعترف: ‘لقد كنتُ مسحورةً بوجهك’؟
الملاذ الوحيد… أن تُلقي باللوم عليه.
وفي المقابل، كان وجهُ إيريك يعجُّ بالذهول والغيظ والإنكار.
“…عاداتُ نومٍ، تقولين؟”
لكن تيرِيّا، وهي تديرُ رأسَها، لم تُدرِك ما بان على مُحيّاه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "43"