حين نزلوا من القطار، كان الليل قد غطّى السماء بأكملها.
لكن الفرق عن وِيبين كان وجود أعمدة الإنارة.
ففي وِيبين، يحلّ الظلام الحالك بمجرد غروب الشمس، فلا يجرؤ أحد على الخروج.
أما هنا، فقد كانت المصابيح تضيء على مسافات متباعدة، مما أبقى الناس يتجولون في الخارج حتى في هذا الوقت.
كان المنظر باعثاً على السرور لإيريك.
فالغرب، الذي اعتاده ميداناً رئيسياً له، لم يكن غريباً عن مثل هذه الأضواء الليلية، فشعر بالحنين والأنس معاً.
“لقد استدعيت عربة، تفضلوا.”
قالها ألديو وهو يلحق بهم متأخراً ليقود إيريك وتيريا.
وما إن غادروا المحطة حتى وجدوا عدداً من العربات مصطفة تنتظر الركاب.
اختار ألديو واحدة منها، فصعد إليها إيريك مع تيريا، وهو يلقي نظرة على حالها.
بمجرد أن وطئت قدماها الأرض، بدت تيريا وكأنها استعادت شيئاً من ملامحها المعتادة.
“هل أنت بخير؟” سألها.
“قليلاً من التعب، لا أكثر.”
أجابته بنبرة تخالطها مسحة حرج، ربما لما جرى في القطار.
ضحك إيريك بخفة وهو يبادلها الحديث، ثم انطلقت العربة تجوب شوارع العاصمة.
“هل دأبتِ على زيارة هذا المكان كل عام؟”
“نعم، كنت أزور العاصمة مع سيد العائلة في احتفالات العام الجديد.”
“إذن فالمكان ليس غريباً عنك كثيراً.”
“بدرجة تمكنت معها من حفظ بعض الطرق. لكن، لا أنكر أن الاختلاف الكبير عن وِيبين يجعلني أشعر بالغربة.”
استمر الحديث على هذا النحو نحو عشرين دقيقة حتى وصلوا إلى القصر المقصود.
ابتسم إيريك بسخرية خفيفة:
‘تماماً على ذوق ذلك الرجل.’
كان القصر صغيراً.
بناء من الطوب، بطابقين، أكثر ما يميزه البساطة والنظام لا البهرجة.
فلم يكن يوحي بقصر لأحد النبلاء، بل بدا أشبه ببيت عائلة ثرية من العامة.
أما الداخل، فكان على المنوال ذاته.
الطابق الأول يضم صالة واسعة، وبجوارها غرفة الطعام والمطبخ.
أما الطابق الثاني، ففيه غرفتا نوم، وغرفتا ملابس، ومكتبة صغيرة، لا أكثر.
“لنفرغ أمتعتنا أولاً. نلتقي على العشاء.”
“كما تشاء.”
وبما أن الوقت كان متأخراً، فقد فاتهم تناول العشاء في القطار، فكان لا بد من طعام بسيط في القصر.
فتح إيريك باب غرفته، فاستقبله شعور غريب:
“…كانت غرفة والدي على ما يبدو.”
“نعم، فالبيت لا يضم غرفاً شاغرة.”
قال ألديو باعتذار.
ابتسم إيريك ابتسامة ممزوجة بمرارة.
ظن أنه قد تجاوز مشاعره تجاه والده، لكن رؤيته لآثار وجوده أعادت اضطراب قلبه.
“يكفي نظرة واحدة لأدرك أنها كانت غرفة أبي.”
كانت الغرفة تحتوي فقط على سرير، وخزانة صغيرة للكتب، وحامل ملابس.
رغم أن مساحتها لم تكن صغيرة، فإنها بدت شبه فارغة.
حتى أثاثها كان من الخشب الأسود البسيط.
كان والده يحب هذا النوع من الأثاث المرتب، وكلما دخل الغرفة كان يملأها عبير الخشب.
غادر ألديو الغرفة.
أما إيريك، فأخذ يتفحصها قليلاً، ثم فتح النافذة ليدخل الهواء.
خلع معطفه وعلقه على الحامل، ثم فك ربطة عنقه وأطلق تنهيدة ارتياح.
‘ليت رائحة الخشب تزول قليلاً.’
فهي تثير في نفسه ذكريات قديمة لم يكن سعيداً بعودتها.
-اخرج. لا وقت لدي لأضيعه في اللهو.
كان شعوراً أشبه بسماع تلك الكلمات يتردد في أذنيه.
هذا البناء للغرفة، هذه الرائحة، وذلك الترتيب البارد الخالي من الزينة، كلها أشياء دفعت إيريك إلى استرجاع خواطر ثقيلة.
اقترب من رف الكتب.
‘الكتب ما زالت كما هي إذن.’
الكتب الكلاسيكية التي كان والده يفضلها مصطفة تماماً بالترتيب الذي يتذكره.
تذكر فجأة ذلك الهوس الغريب الذي كان يسيطر على والده، حيث لم يكن يتساهل مع أي خلل في نظام كهذا.
عبث إيريك قليلاً بالرف، ثم توقف.
‘لا توجد يوميات.’
كانت في داخله رغبة أن يعرف السبب… لماذا أوصى والده بكل ثروته له بعد أن صفّى جميع أعماله التجارية.
تمتم بمرارة وهو يحدق في الرف:
“كنتَ تعلم أنني لن أعود أبداً، أليس كذلك؟”
قد يبدو وهماً يخصه وحده، لكن هيكل هذا المنزل بأسره كان يصرخ بتلك الحقيقة.
لو كان والده يظن أنه سيعود يوماً، لاقتنى بيتاً أكبر.
ولو لم يفعل، لترك على الأقل غرفة شاغرة باسمه.
بغضّه الشديد له، إلا أنه عرف، بقرابة الدم، حقيقةً عن ذلك الرجل:
كما كان إيريك عنيداً، فقد كان والده أكثر عناداً.
لم يتوقع عودته مطلقاً.
“مجرد ما يزيد القلب تعقيداً واضطراباً.”
كان بوسعه أن يترك كل هذه التركة لتيـريا التي تحملت العناء بجواره.
مدّ يده ليتحسس الخنجر القصير المخفي بين ملابسه.
عندها فقط شعر بالسكينة تعود إلى صدره.
‘حسناً، هذا مناسب.’
وبما أنه قد وصل إلى العاصمة، فمن الأفضل أن يتقصى أكثر عن مسألة الإرث وكيفية التصرف به.
فالقوانين في المملكة تجعل الميراث حقاً حصرياً للوارث المسمّى، ولتغييره يلزم المرور بإجراءات قانونية معقدة.
ومن ثم، فهو بحاجة إلى من يعينه على هذا.
أما الاعتماد على ألديو أو بقية الخدم، فكان سيشعره بالذنب، إذ أن ذلك معناه أن يُفصح لهم عن نيته بالرحيل مجدداً.
وقف متكئاً على عصاه وهمّ بالخروج.
وما أن فتح الباب حتى التقى بتيـريا التي كانت تخرج من غرفتها في اللحظة نفسها.
كانت ترتدي فستاناً رقيقاً وفوقه شال خفيف.
جسدها بدا أنحف من المعتاد، مما جعل إيريك في حرج، لا يدري أين يثبت بصره.
رآها كثيراً من قبل، لكن في هذا المكان بالذات بدت غريبة عليه.
“…جئتِ إذن. لنذهب.”
“نعم.”
حين وصلا إلى غرفة الطعام، وجدا مائدة بسيطة: خبز، حساء، بيض، وكوب ماء.
وجبة شديدة البساطة تصلح للتناول على عجل.
بينما يلوك قطعة خبز، التفت إيريك نحوها وسأل:
“ما برنامج الغد؟”
“بعد ثلاثة أيام سيُقام الحفل، حتى ذلك الحين سننشغل بالتحضيرات. وأول ما ينبغي فعله هو شراء ثياب جديدة.”
“ثياب؟”
“نعم، سيدي لا يملك لباساً يليق بالحفل.”
عندها تذكر أنه لم يحضر معه سوى بعض البدلات الجاهزة البسيطة التي لا تليق بمثل تلك المناسبات.
في آخر مرة حضر حفلاً في الإمبراطورية، حتى إلبيرت غرايـهام ــ صديقه المعروف بلا مبالاة ــ كان شديد الحرص على ملبسه.
-الحفلات النبيلة مجرد مكان يتربص فيه الناس للعثور على عيب واحد، فلا تمنحهم مادة للقيل والقال.
أدرك إيريك أنه إن أراد ألا يضع تيـريا في موقف محرج، فعليه على الأقل أن يهتم بمظهره.
“حسناً. لدي معرفة لا بأس بها بملابس الحفلات. سأظهر بما لا يثير الخزي.”
“سأختارها أنا.”
“همم؟”
“قلتُ: سأختارها بنفسي.”
نبرتها لم تحتمل نقاشاً، وعيناها ثابتتان على الطعام، وكأنها تسد أي منفذ للجدال.
تساءل إيريك عن سبب تصلبها المفاجئ، لكنه ما لبث أن تذكر أول نزهة لهما في ويبين والملابس الغريبة التي ارتداها حينها… ورد فعلها ورد فعل ألديو آنذاك.
‘…الآن لن يكون بتلك السوء.’
فقد صار يعرف هو نفسه أن تلك الهيئة لا تناسب سوى مهرج.
لكن أي عذر الآن سيكون مثيراً للشفقة.
آثر الاستسلام هذه المرة:
“…أعتمد عليك إذن.”
بعد ذلك لم يجر أي حديث آخر.
انتهت الوجبة بسرعة، ثم عاد إيريك إلى غرفته ليستعد للنوم.
غداً سيبدأ الركض من جديد.
إيريك، وهو يحاول الانشغال بأمر لم يرق له، شعر بحكة في صدره وكأن شيئاً يزعجه.
‘بمجرد أن ينتهي الحفل، سأعود حالاً إلى ويبين.’
فكّر بذلك، ثم هوى بجسده على السرير.
كودانغ!
“أوه!”
انكسر السرير فجأة وانهار تحته.
تدحرج إيريك على الأرض وحدق في السرير بوجه مذهول.
في تلك اللحظة، اندفع ألديو مسرعاً وفتح الباب.
“س، سيدي! ما الذي يحدث هنا…!”
“…أرجل السرير كانت مكسورة.”
أشار إيريك إلى الرجل المكسورة التي ظهرت تحت الغطاء.
كانت هناك آثار واضحة على أنها رُبطت بحبل لإبقاء السرير متماسكاً.
احمرّ وجه ألديو غضباً.
“هؤلاء الأوغاد…!”
كان قد قال إنهم استعانوا بعمال خارجيين للتنظيف.
“سأذهب بنفسي غداً لمحاسبتهم! كيف يجرؤون على عمل رديء كهذا ثم يأخذون مالاً باهظاً مقابله!”
ابتسم إيريك ابتسامة محرجة.
كان قد مضى وقت طويل منذ آخر مرة رأى فيها ألديو ينفجر غضباً على هذا النحو.
“على أي حال، هل تساعدني بترتيب الأمر أولاً؟ لا يمكنني النوم فوق سرير محطّم كهذا.”
وما إن أنهى كلامه حتى ظهرت تيـريا من وراء الباب.
جبينها كان معقوداً.
“…السرير قد تحطّم إذن.”
“آه، لا تشغلي بالك. غداً سأشتري واحداً جديداً.”
“وماذا عن الليلة؟ كيف ستنام؟”
“كيف غير ذلك؟ سأنام على الأرض.”
“…على الأرض؟”
حدّقت به وكأنها لا تصدق ما تسمعه.
وفجأة أدرك إيريك حماقته.
بالنسبة لامرأة نشأت في بيت أرستقراطي، رد فعلها طبيعي تماماً.
“ذ، ذلك… لقد اعتدت النوم على الأرض مراراً في حياتي كرحّال، فلا تقلقي كثيراً…”
“ذاك في الترحال.”
زفرت تيـريا بقوة.
ملامحها دلّت بوضوح على انزعاجها.
“أيها الخادم، قبل أن تذهب لمحاسبة أولئك العمال، مرّ بي أولاً. سأكتب رسالة بنفسي.”
“…نعم، سيدتي.”
ابتلع ألديو ريقه بارتباك.
وكذلك فعل إيريك.
فقد كانت هذه المرة الأولى التي يراها فيها غاضبة، وهيبة الغضب في عينيها جعلت الجو ثقيلاً.
“وأما أنت، يا سيدي…”
“م، ماذا هناك؟”
التقت عيناها بعينيه.
ترددت شفتاها قليلاً، ثم تحركتا ببطء:
“…الليلة، ستنام في غرفتي.”
“…؟”
تجمد وجه إيريك من وقع كلماتها.
ثم استدارت تيـريا بخطوات ثابتة.
“تفضل.”
نظر إيريك إلى ألديو.
ونظر ألديو إلى إيريك.
“؟“
“؟“
وأمال الاثنان رأسيهما معاً… بوجوه غبية متطابقة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "42"