كان حلمًا يقطع فيه الجنود فوق أرض موحلة لزجة ملأها الدم.
رائحة الدماء وأنفاس الجثث المتعفنة امتزجت حتى شلّت حاسّة الشم. آذانه طُنّت من صرخات الجنود. بصره لم ير سوى الأبيض والأسود.
حين كان يلوّح بسيفه بجنون ليمضي قدمًا بصعوبة، كانت نيران السحرة، ووابل سهام الرماة، وطلقات فرقة البنادق، جميعها تُمطر دفعة واحدة فتغرق مجال رؤيته بالسواد القاتم.
كان المشهد أشبه بكائن هائل يفتح فاه على مصراعيه.
إيريك حدّق مذهولًا في ذلك المشهد، وفقط في النهاية، بالكاد…
“هـوآه…!”
استفاق من الحلم.
انتفض من سريره جالسًا وحدّق من حوله.
مكتب صغير وسرير، بدلة فارس مُعلّقة وسيوف زينة على الحائط، كل ذلك يرسم صورة من السكينة.
لم يكن ساحة معركة. بل غرفة هادئة، لا أثر فيها لجلبة الغرب. غرفة طفولته، كما هي في ذاكرته تمامًا.
‘…نعم، لقد عدت إلى مسقط رأسي.’
مدّ إيريك يده متردّدًا.
مع أنه يعلم أنه لا يوجد عدو هنا، إلّا أن توتره لم ينفكّ.
جسده غارق في العرق البارد. قلبه يخفق بجنون، وحواسه المشدودة تلتقط حتى زقزقة الطيور من خلف النافذة.
‘السيف، السيف….’
كان داءً في النفس.
إيريك الذي نشأ في ساحات القتال، وتشبّع بجنونها، ابتُلي بمرضٍ لا يسمح له أن يبتعد عن سيفه ولو لحظة.
طنين خفيف. مع الصوت، التقط خنجرًا من فوق الخزانة بجوار السرير.
ضمّه إلى صدره وأخذ نفسًا عميقًا.
آنذاك فقط، بدأ خفقانه يعود إلى طبيعته.
وفي تلك اللحظة…
– سيدي، هل استيقظت؟
قالها ألديو من وراء الباب.
عند سماع صوته استعاد إيريك إحساسه التام بالواقع.
“…نعم، لقد استيقظت للتو.”
زقزقة العصافير رنّت خفيفة.
—
لقد كان ترفًا زائدًا.
إيريك الذي وصل في ساعة متأخرة جدًا من الليلة الماضية ودخل مباشرة إلى غرفته، شعر بغرابة إزاء صباح القصر.
قال إنه يرغب في الاغتسال بماء بارد، فجاءوه على الفور بوعاء ممتلئ بالماء المثلّج.
وبعد أن اغتسل، وجد ثيابه مُعدّة، ناعمة حتى لم يشعر أنه يرتديها.
في الجبهة لم يكن يرتدي إلا خرَقًا ممزقة من كثرة ما تمزق ثيابه في المعارك، فكان الفرق صارخًا لا محالة.
أحكم إيريك أزرار قميصه وربط عنقه بالعقدة.
نظر في المرآة، فلم يرَ أدنى أثر لكسرة من “شبح السيف كاشا”.
ولسبب ما شعر بغربة فابتسم لنفسه.
‘لا يليق بي هذا.’
يتذكّر أنه كان يُقال له في صغره إن ابتسامته جميلة، لكن الآن تبدو مصطنعة جدًا.
ربما لهذا السبب لم يجد ما يضحكه في ساحة المعركة.
لقد تجمّدت ملامحه كليًا.
حوّل بصره بعيدًا عن المرآة واتكأ على عصاه.
وما إن خرج من الغرفة حتى وجد ألديو بانتظاره.
“لتبدأ بالطعام أولًا.”
“دلّني من فضلك.”
ابتسم ألديو بخفة وأخذ يخطو.
لم يأتِ السؤال إلّا بعد قليل.
“لكن… ماذا جرى لساقك يا سيدي؟”
منذ الأمس ظلّ ينظر إلى ركبته، وكأنه لم يجد الفرصة للسؤال إلا الآن.
تلعثم إيريك قليلًا:
“تدحرجت على منحدر صخري فاصطدمت بركبتي في حجر. لم أكن حذرًا.”
كيف له أن يقول إن رصاصة اخترقت ركبته في ساحة القتال؟
قد يستغرق الأمر وقتًا، لكنه جرح سيشفى في النهاية.
لم يرد أن يُقلق أحدًا بلا داع.
“آه يا إلهي… ما زلت كما أنت، لا تكف عن المصائب.”
“كفّ عن مناداتي بالمشاغب، فهذا يجعلني أشعر وكأني طفل.”
وبين ضحكات وتعليقات مازحة، وجدا نفسيهما أمام قاعة الطعام.
طَق، في اللحظة التي فُتح فيها الباب توقّفت خطوات إيريك.
“هل استيقظت؟”
في قاعة الطعام الصغيرة لم يكن وحده.
امرأة ذات شعر يذكّر بذهب القمح، وعينين مائلتين، وبشرة بيضاء يسطع وسطها شفتان حمراوان بارزتان.
عندها فقط تذكّر إيريك أن تيريا كانت تعيش هنا.
رآها بالأمس لكنه لم يستحضر ذلك… لا بد أن ذهنه كان شاردًا حقًا.
“صباح الخير.”
قالها إيريك بتحفّظ وهو يتجه نحو المائدة.
كان ركبُته تؤلمه بشدّة منذ استيقاظه، وحاول أن يُخفي الأمر بتماسك ملامحه، لكن الأمر لم يفلح.
وما إن جرّ الكرسي وجلس بصعوبة حتى أدرك أن عينيها كانتا تتجهان نحو ركبته.
“آه، لا تشغلي بالك. ليست إصابة خطيرة.”
ما أبشعه أن يعود جريحًا ويبدأ بالتذمّر كالطفل.
غطّى إيريك ركبته بيده ليقطع نظراتها.
“…هكذا إذن.”
قالت تيريا وجلست.
وسرعان ما وُضع الطعام.
بيض، خبز طري، وثلاث شرائح من اللحم المقدّد.
كانت وجبة مألوفة، بسيطة وخفيفة على المعدة، تمامًا كما كان والده يفضّلها.
وكم بدا الأمر ساخرًا أن صاحب هذه الوجبة لم يعُد موجودًا ليشاركهم.
طقطق صوت الملاعق حين تناول إيريك السكين والشوكة.
عندها فقط رفعت تيريا أدواتها.
وأثناء تناوله الطعام، راقب إيريك حركاتها.
كانت غريبة في هدوئها. رغم أنها تستعمل صحونًا زجاجية وأدوات معدنية، لم يصدر أي صوت. حركاتها في تقطيع الطعام ونقله إلى فمها كانت رشيقة.
فتحت فمها قليلًا جدًا، تمضغ في صمت، وتبتلع بلا أن يُسمع لها صوت.
وكان هذا على النقيض التام منه.
في ساحة المعركة اعتاد أن يلتهم مؤونة مغطاة بالتراب، حتى نسي كل آداب المائدة التي كان قد تعلّمها.
وفجأة التقت عيناه بعينيها.
ارتبك إيريك وأسرع يخفض بصره إلى صحنه.
لكن بعد لحظة فَكّر: ‘ولِمَ أشيح بنظري؟’
سعل سعالًا خفيفًا وتجرّأ أن يرفع رأسه.
وإذا بها لا تزال تنظر إليه بثبات.
ابتسم ابتسامة مصطنعة وقال:
“ما الأمر؟”
“…لا شيء. لا شيء إطلاقًا.”
أجابت ثم أنزلت بصرها.
كان طعامًا بالغ الصعوبة.
ومع ذلك، وجد أنه ليس من اللائق أن يجلسا على المائدة ذاتها من دون تبادل أي كلمة، ففتح فمه بتردّد:
“هل ستخرجين اليوم أيضًا لتفقد حقول القمح؟”
“…نعم.”
“هممم، حسنًا.”
انكمشت سبّابتها قليلًا.
‘هل أزعجتها؟’ ندم على أنه فتح الحديث أصلًا.
‘أيها الأحمق.’
مرة أخرى يتفوّه بما لا يلزم.
شعر بضيق في معدته. لو بقي أكثر سيُصاب بعسر هضم.
فالتقط ما تبقّى أمامه من نصف رغيف الخبز وقطعة لحم وبيضة مقلية، ووضعها دفعة واحدة في فمه الواسع.
مسح شفتيه بمنديل على عجل ثم نهض من مكانه.
“نَغن غفبغثس. سُغس مغسغغ هُسغ.”
= “أنا ذاهب. لتستمتعي بطعامك.”
كانت أبسط تحية يومية يمكن أن يقولها.
لكن لا سبيل أن تكون قد وصلت إليها بوضوح. ولم يكن لديه وقت ليفكّر في ذلك أصلًا.
اتكأ إيريك على عصاه وغادر المكان على عجل.
طَق، وما إن أُغلق الباب حتى انفرجت شفتا تيريا.
“…نعم، أتمنى لك يومًا سعيدًا.”
كانت نبرة همس واهنة.
وعند زاوية شفتيها ارتسمت ابتسامة باهتة، بالكاد تُرى، قبل أن تتلاشى بلا أثر.
—
بعد أن أنهى طعامه وخرج، كان القصر في حركة نشطة.
تحت إرشاد ألديو، تبادل إيريك التحية مع الخدم.
بعضهم كانوا وجوهًا يعرفها من ذاكرته، وبعضهم الآخر قد استُبدلوا بغيرهم.
أما أولئك الذين لم يلتقِ بهم منذ زمن طويل فقد استقبلوه بحرارة.
وكان ذلك أمرًا يملؤه امتنانًا عظيمًا.
أي قلب رحبٍ هذا الذي يرحّب بابن عاقٍ غادر من دون كلمة، ولم يحضر حتى جنازة أبيه؟
عانقوه واحدًا تلو الآخر، وكلهم بلا استثناء أبدوا قلقهم على ركبته.
فأجابهم مطمئنًا:
“سيشفى قريبًا.”
لكن أحدًا لم يبدُ مصدّقًا.
‘هل كنتُ حقًا بتلك الدرجة من عدم الموثوقية…؟’
غاص إيريك في استرجاع الماضي، لكنه سرعان ما أقرّ بالحقيقة.
فلو سُئل أهل ويبين عن أكبر مشاغب بينهم، لكان اسم “إيريك فورتمان” جواب الجميع بلا استثناء. فلا مفر من الاعتراف بتلك الحقيقة.
رئيسة الخدم، التي كانت تضحك وهي ترى عجزه عن الرد، سألت بعد ذلك:
“آه يا إلهي… إذن يا سيدي! لقد عدت نهائيًا هذه المرة، أليس كذلك؟”
“هاها…”
ابتسم إيريك بخجل.
لم يكن قد حسم موقفه بعد.
فإصابته في الركبة ستبقيه هنا لبعض الوقت، لكن… بأي وجه يمكنه أن يتصرّف وكأنه سيّد هذا المكان الآن؟
عودته إلى ويبين لم تكن سوى نتيجة الحنين وصدفة تداخلت فيها ظروف شتّى.
في اليوم الذي أصيب فيه واضطر لمغادرة ساحة القتال، كان قد مرّ على حانة، وهناك سمع بنبأ وفاة والده.
لكن من ذا الذي قد يصدّق قصة كهذه؟
والقصر يسير على ما يرام من دونه. فما حاجته لإقحام نفسه وإثارة المتاعب؟
الأرجح أنه سيرحل قريبًا.
“سيدي؟”
“همم، لندع هذا الحديث لوقت لاحق. عندي مكان يجب أن أزوره.”
خلف ضحكات رئيسة الخدم الوَدودة، التفت إيريك إلى ألديو وقال:
“فلننطلق إذن.”
“حسنًا، تفضل إلى العربة.”
كانت أمامه عربة صغيرة تكفي لشخص واحد.
تحسّس إيريك الخنجر المخبأ في صدره، عادة اعتادها كلما اضطرب قلبه.
ثم، طَق، وهو يستند إلى الأرض، بدأ يخطو بعرج نحو العربة.
وكان مقصده: مثوى والده الأخير.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 4"