كان الذين عثروا على تيـريا ممدّدة ذلك اليوم، هم بعض رجال القرية الذين هرعوا بعد أن وصلهم الخبر متأخراً.
لقد كان ريتون، الذي شهد ظهور الوحش من بعيد، هو من نشر الخبر.
ومنذ ذلك اليوم، ظلت تيـريا ثلاثة أيام كاملة فاقدة للوعي في غرفتها.
أما البارون ويـبين، فاشتدّ غضبه أكثر من أي وقت مضى.
ما تتذكره تيـريا حين فتحت عينيها أخيراً، هو الأجواء المشحونة التي ملأت أرجاء القصر، والحديث المتخافت الذي كانت تتبادله الخادمات فيما بينهن:
“يقولون إن ابن عائلة فورتمان اختفى أيضاً، ثم وُجد البارحة فحسب.”
“لا تذكري ذلك! ألم تري كيف استشاط البارون غضباً، وهو يهدّد بالذهاب إلى فورتمان ليحاسبهم؟! لقد بدا مقتنعاً أن آنستنا اختُطفت!”
“فورتمان؟ هه، سيحاولون إسكات الأمر بالمال كعادتهم. إنهم أغنى بمراحل من آل ويـبين.”
“وماذا نقول! بالنظر إلى تبذير سيدنا، أليس كل ما يجري مجرد وسيلة ليبتزّ منهم شيئاً من المال؟”
آنذاك، لم تفهم تيـريا شيئاً سوى أن إيريك على قيد الحياة، فتنفست الصعداء.
لكنها اليوم، وهي تستعيد الأحداث، باتت تدرك الحقيقة:
لقد كان والدها سعيداً لأنه وجد من يُلقي عليه اللوم. فلو شاع أنه يرفع يده على ابنته، لكان ذلك فضيحة لا تُحمد عقباها.
وفوق هذا، جنى من الحادث مالاً أيضاً. أليس ذلك بالنسبة له أجمل ما يمكن أن يحدث؟
لكن ما جرى لم يكن أبداً ضماناً لسلامة تيـريا.
“هل تعلمين كم خيبتِ ظنّ أبيك؟! من اليوم فصاعداً سيكون عليك حُرّاسٌ أشدّ مراقبة! تذكّري دوماً أن كل ذلك بسببك، لأنك خذلتِ أباك!”
وهكذا انتهت الأيام التي بدت حلماً جميلاً.
وجاء الواقع، أوضح وأقسى، ليقضّ مضجعها.
الخروج؟ أمر محال.
حتى التنزّه في الحديقة لم يُسمح لها به إلا ساعة أو ساعتين، وتحت رقابة مشددة.
أما التعليم المقترن بالعقاب البدني، فقد صار أقسى بكثير مما سبق.
تبدّل كل شيء، إلا أمر واحد:
لقد تغيّرت تيـريا نفسها.
«لم أكن مذنبة.»
هكذا فهمت أخيراً.
لم ترتكب خطأً يستحق كل هذا الألم.
لم يكن من حق أحد أن يجلدها أو يوبخها.
إيريك هو من علّمها ذلك.
لقد غرس في قلبها شيئاً جديداً: أن تحب نفسها أكثر، وأن تحب الآخرين.
وكان أيضاً من منحها حلماً.
“إن أردتِ أن تصبحي سيدة نبيلة، فعليك أن تبدئي بخطواتك!”
“نعم.”
ومن يومها لم تتساءل تيـريا عن سبب سعيها لتصبح سيدة فاضلة.
لقد صارت تتوق لذلك بنفسها، لأنها أرادت أن تكون يوماً ما جديرة بأن تكون عروس إيريك.
السير في نفق مظلم لا نهاية له، يختلف عن السير في طريق تعرف ما الذي ينتظرك في آخره.
مع الوعد بمكافأة، لا مجال للاستسلام.
كانت تجد القوة لتنهض كلما تعثرت.
حتى بعد أن كبرت قليلاً، وأدركت أن زواجها من إيريك ضرب من المستحيل، ظلّت تلك الذكرى تساندها.
لقد كان لتلك اللحظات القصيرة معنى يتجاوز حدود الحب الأول.
كانت بالنسبة لها سنداً يمنعها من أن تستسلم، وركيزة تجعلها تصمد.
إيريك هو من عرّفها شعور أن تكون محبوبة.
هو من منحها دفء جسده، وجعلها تصدّق أنه مهما اشتدّ برد الشتاء، فإن الربيع سيعود يوماً.
ولهذا السبب واصلت العيش.
“ستتزوجين من آل فورتمان.”
عاد إليها الربيع.
تماماً كما عاد يوم ظهر في طفولتها على هيئة معجزة.
—
فتحت تيـريا عينيها ببطء.
وأول ما وقعت عليه أنظارها كان موسوعة نباتات مبعثرة أمامها.
هل غفت وهي تقرأ؟
لقد كان حلماً جميلاً على غير العادة، فشعرت بالراحة.
ولم يكن مجرد وهم، إذ إن ثقل جسدها قد زال بالفعل.
وفي تلك اللحظة…
“هل استيقظتِ؟”
رنّ صوت إيريك.
ارتجفت تيـريا ورفعت رأسها.
كان واقفاً عند النافذة، يحدّق بها مبتسماً، وملامحه مطمئنة.
“أذكر أنني أوصيتكِ بالنوم باكراً… ومع ذلك ظللتِ ساهرة حتى وقت متأخر، أليس كذلك؟”
صوته بدا متشدداً، لكن ابتسامته المرحة نزعت عن كلامه أي أثر للغضب.
وفجأة، شعرت تيـريا بغربة.
«إذن… حقاً…»
لقد أصبح أكثر وقاراً من أيام الطفولة.
كان ذلك مظهراً غير مألوف لتيـريا.
لولا بعض اللمحات الطفولية التي تظهر أحياناً، لكانت ربما قد نسيت أنه هو نفسه الفتى الذي أحبّته يوماً.
لا تعلم تيـريا كيف عاش خلال السنوات العشر الماضية، لكنّ تلك الروح الجامحة التي كانت فيه قد انطفأت تماماً.
“زوجتي؟”
“…آه.”
مسّت تيـريا أطراف شعرها بخفة، ثم أجابت بحذر:
“لا بد أنني غفوت مبكراً. لا أذكر أنني قرأت طويلاً.”
“حقاً، لا سبيل لإصلاحك.”
“أعتـ….”
توقفت كلمات تيـريا في منتصفها، ليحلّ مكانها ابتسامة باهتة.
‘لا تعتذري من دون سبب، أيتها الغبية. من يبدأ بالاعتذار يُستَضعَف.’
كيف قفزت إلى ذهنها تلك العبارة أولاً؟
تماسكت تيـريا ومسحت الابتسامة عن وجهها، ثم أغلقت موسوعة النباتات.
كان إيريك يسحب الستائر، وإذا بأشعة شمس شتوية متألقة تغمر الغرفة.
“اليوم جميل. لكنه ساطع بعض الشيء… لا بد أنه بسبب تراكم الثلج.”
“هذه المنطقة هكذا دائماً، أليس كذلك؟ كل فصل يلمع على طريقته. في الربيع تكون الشتلات خضراء، وفي الصيف تزداد خصباً حتى تغدو لامعة، والخريف كله ذهبي، وأما الشتاء فمشعّ بالنقاء.”
ثم حرك شفتيه قليلاً وتابع:
“أظن أنني كنت أفتقد هذا. طيلة فترة غيابي.”
وبعدها التفت إليها.
أن تقلق تيـريا في تلك اللحظة من احتمال أن يكون في عينيها أثر نوم أو بقايا دموع، وسط هذه الجدية الحالمة، كان أمراً يبعث على الحرج.
لكن إيريك، الذي لم يكن له أن يعرف شيئاً مما دار في خاطرها، ابتسم بمكر خفيف وأردف:
“وبما أنني ذكرت الأمر… لقد خطرت لي فكرة البارحة.”
“وما هي؟”
“أليست مناظر ويـبين هادئة لكنها رتيبة أكثر من اللازم؟ والبيت نفسه أشدّ جموداً. هذا القصر قاتم أكثر مما ينبغي.”
طَقطَق بأصابعه على الزجاج.
“فلِمَ لا تزرعين بعض الأزهار في حديقة القصر، مع قدوم الربيع؟”
“أزهار…؟”
“ألستِ تحبين البستنة؟”
اتسعت عينا تيـريا دهشة، وانفرجت شفتاها قليلاً.
خفق قلبها بقوة، حتى شعرت بضيق ممتع ينتشر في كل جسدها.
سألت بعد تردّد:
“…أكنتَ تعلم؟”
“ماذا؟ البستنة؟ أذكر أنني سمعت ذلك وقت زواجنا. لعلني مخطئ؟”
‘أي جرأة هذه، أن تخترقني هكذا فجأة!’
ضغطت تيـريا على لحافها بلا سبب واضح، ثم هزّت رأسها بخفة.
عندها ضحك إيريك بخجل لطيف.
“الحمد لله إذاً، لقد تذكرت جيداً.”
‘جيداً؟ أي كلام هذا…’
“…شكراً.”
كيف تشكره وهو لم يتذكر شيئاً من ذلك اليوم؟
لكن لا حيلة لها، فهو لم يستعد أي شيء مما وقع.
قيل إن عودته من الغياب كانت خالية من أي ذكرى لما جرى، وإن ذلك صعّب على الجميع فهم حقيقة ما وقع.
“لا داعي للشكر.”
“بل هو أمر يستحق الشكر… أن تتذكرني.”
“كفى.”
يا للأسف… أن يبقى ما حدث مجرد ذكرى تخصها وحدها.
لكن الأمر لم يكن سيئاً.
قد يكون شعوراً أنانياً، غير أن تحت شحمة أذنه بقي أثر ذلك اليوم الذي لم يعد يتذكره بعقله.
كان يختلط في قلبها إحساس بالذنب لأنها السبب في تلك الندبة، مع رضا خفي يخجلها الاعتراف به.
لكن ما العمل؟ تلك هي حقيقتها.
وبينما كانت تيـريا تتأمل فيه، مال إيريك برأسه متسائلاً:
“لِمَ تنظرين إليّ هكذا… آه، هذا الجرح تقصدين؟”
مسّ عنقه بيده وقال:
“جرح قديم من الطفولة. كنت ألعب بخشونة، فكنت أُصاب كثيراً.”
ذلك الارتباك في ملامحه فجّر في تيـريا رغبة بالابتسام، لكنها تماسكت وشدّت ملامحها.
ثم أومأت برأسها قائلة:
“نعم، سمعت عن ذلك من قبل.”
“…لا أظن ما سمعتِ كان كلاماً لطيفاً.”
“لا يهمني. على كل حال، أود أن أبدّل ثيابي الآن، فهل يمكن أن تتركني قليلاً؟”
“آه، طبعاً. يبدو أن الحمى قد خفّت كثيراً. سأعود بعد قليل.”
ثم غادر إيريك الغرفة متكئاً على عصاه.
فلما أُغلق الباب، وضعت تيـريا يدها على صدرها.
دقّات قلبها كانت قوية، متلاحقة.
وخطر لها فجأة أنّ نصف حلمها القديم قد تحقق بالفعل؛
فأول ما وقعت عليه عيناها عند الاستيقاظ كان ابتسامته.
مرّ زمن طويل جداً، ومع ذلك ها هي تعيش أخيراً ذلك المشهد.
ويومها يمضي مغموراً بحلاوة ذلك الشعور.
“سيدتي، جلبتُ ماء الغسيل.”
“…حسناً، ادخلي.”
اشتعل وجهها بحرارة محرجة.
كانت بحاجة ماسّة إلى ماء بارد.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات