الذكرى (2)
عادةً عندما يُقال “غروب الشمس”، يتبادر إلى الذهن مشهد العالم يكتسي بالظلام ويغرق في الصمت.
لكن ذلك اليوم كان مختلفًا.
“أين السيدة الصغيرة؟!”
“أين السيد الصغير؟!”
أحدث خدم المنزل ضجة في القرية بأكملها بحثًا عن “إيريك” و”تيريا” اللذين لم يعودا إلى المنزل.
بالنسبة لـ”تيريا”، كان الموقف مرعبًا يكاد يجعل قلبها يتوقف، لكن “إيريك” الذي بدا معتادًا على مثل هذه المواقف، قادها بابتسامة مشرقة:
“هيا! سأريكِ مقري السري!”
المكان الذي وصلوا إليه كان تحت جسر حجري عند مدخل القرية.
كانت هناك خيمة صغيرة دافئة، ورغم الظل لم تكن رطبة.
أشعل “إيريك” مصباحًا زيتيًا داخل الخيمة المعزولة تمامًا عن العالم الخارجي.
تحت الضوء المتذبذب، ظهر وجهه المليء بالبراءة دون أي أثر للقلق.
سألته “تيريا” مندهشة:
“ألستَ خائفًا؟”
“من ماذا؟”
“إذا… إذا اكتشفونا سنُعاقب…”
لن يكون الأمر مجرد عقاب عادي.
بالتأكيد سيكون هناك عقاب أقسى بكثير مما سبق، وربما سيتم مراقبتها بشدة حتى لا تتمكن من الخروج مرة أخرى.
عندما سألته إن كان يخاف من ذلك، كان جوابه كما قبل:
“لا بأس! أبي لا يكترث بي!”
لكنها استطاعت أن تلاحظ ظلًا من الحزن خلف كلماته المفعمة بالثقة.
هذا التعبير الحزين على وجه الطفل الذي ظنته دائمًا مشرقًا كان شيئًا جديدًا بالنسبة لـ”تيريا”.
ربما لهذا السبب ازداد فضولها تجاه “إيريك”.
شعرت بالتعاطف والتوحد معه.
أرادت أن تسأله:
كيف هي عائلتك؟ لماذا علاقتك بهم سيئة؟ كيف تتحمل عندما يؤذيك أهلك؟
لكن قبل أن تسأل، بدأ “إيريك” بالحدو:
“يقولون إنني ولدت بأكل أمي.”
ارتجفت أصابع “تيريا”.
تابع “إيريك” حديثه وهو يحدق في المصباح الزيتي:
“كنت كبيرًا جدًا لدرجة أن أمي عانت كثيرًا أثناء ولادتي. حتى أنهم استدعوا طبيبًا من العاصمة، لكنها لم تتحمل في النهاية.”
“…”
“في ذلك اليوم، قالوا إن أبي بكى بشدة. لا أستطيع تخيل ذلك. أبي دائمًا بلا تعابير.”
تمايل ضوء المصباح.
بدا وكأن هذا التمايل يرسم الحزن على وجه “إيريك”.
“نادرًا ما تحدثت مع أبي. لا يحب التحدث معي.”
أمسك “إيريك” بغصن صغير وبدأ يلوح به في الهواء، ثم قال فجأة بابتسامة:
“لهذا سأصبح فارسًا.”
“…فجأة؟”
“ماذا تعنين فجأة؟ ألا تفهمين؟!”
“…؟”
لم تفهم “تيريا”.
لم يكن منطقها الصارم قادرًا على فهم العلاقة بين سوء العلاقة مع الأب وأن يصبح فارسًا.
تنهد “إيريك” وهز رأسه، ثم شرح:
“إذا أصبحت فارسًا قويًا، سأكون مثل الأبطال في القصص! سأنقذ الجميع، وسيحترمني أبي أخيرًا!”
في ذلك الضوء الخافت، بدت عينا “إيريك” تتألقان بإصرار طفولي.
كانت تلك اللحظة الأولى التي رأت فيها “تيريا” حلمًا حقيقيًا في عينيه.
—
الخيمة تحت الجسر – منتصف الليل
بينما كانت “تيريا” تغفو، سمعت صوت “إيريك” الهامس:
“هل تعرفين؟ حتى لو كان أبي لا يحبني…”
“سأجعل العالم كله يحبني يومًا ما!”
في صمت الليل، بدا هذا الوعد وكأنه نذر لطفل صغير لمستقبل مجهول.
“إذا أصبحتُ فارسًا، سأصبح شخصًا أعلى من أبي! وأيضًا سأكون رائعًا! لن يستطيع إهمالي بعدها!”
عقد “إيريك” ذراعيه بفخر مبالغ فيه.
رمشت “تيريا” بعينيها ثم أومأت برأسها:
“…نعم.”
كانت إجابة عابرة لأنها لم تجد ما تقوله، مما جعل “إيريك” ينفجر غاضبًا: “لهذا أكره التحدث مع الفتيات!”
اعتذرت “تيريا” بشكل تلقائي:
“آسفة…”
“ماذا؟ لماذا تعتذرين؟”
“فقط…”
“لا تعتذري بدون سبب! أيتها الغبية! الاعتذار أولاً يجعلهم يستخفون بكِ!”
ظل منطقه غامضًا بالنسبة لها.
لكن على عكس حلمه بأن يصبح فارسًا، كانت هذه الكلمات بالتحديد هي ما احتاجت لسماعه.
فكرة “لا يجب أن تعتذري” كانت غريبة جدًا على “تيريا” في ذلك الوقت.
شعرت بوخز غريب في صدرها، فخفضت رأسها عميقًا. ثم مع احمرار وجهها، أجابت بصوت مرتجف:
“…نعم، إذن لن أعتذر.”
“هذا صحيح! إذا سألك أحدٌ عن خطئك، ارميه بحجر! حينها لن يعيد الكرة!”
“بو-هاها…!”
انفجرت ضاحكة.
ضحكت “تيريا” من أعماق قلبها كما لم تفعل من قبل.
الآن عرفت كم هو ممتع الضحك بصوت عالٍ.
والفتى الذي علمها هذا أصبح أعز إليها قليلاً.
بالطبع، لم يكن هذا شعورًا رومانسيًا بعد.
في ذلك الوقت، كان “إيريك” في نظرها مجرد صبي غريب وممتع، تجعل وقته معها الحياة ممتعة.
لكن هذا التصور تغير – بسخرية – في تلك الليلة نفسها.
مع حلول وقت النوم، كان “إيريك” يهز رأسه نعاسًا.
كان هواء الليل باردًا جدًا مع اقتراب الشتاء.
أخيرًا، استسلم “إيريك” للنوم وأخرج بطانية:
“تعالي هنا، لننام.”
كانت البطانية واحدة، لكنها كبيرة كفاية لطفلين.
احتضن “إيريك” “تيريا” ولفها بالبطانية بداخلها.
تصلبت “تيريا” فجأة.
فربت على ظهرها بلطف قائلاً:
“هكذا ستستغرقين في النوم أسرع. الخادمة كانت تفعل هذا معي أحيانًا.”
لم تسمع “تيريا” بهذا من قبل.
لكن بالتأكيد، شعور يده الدافئة على ظهرها كان مريحًا.
استرخاء جسدها المتوتر أذاب حواجز قلبها أيضًا.
فجأة، تذكرت أحداث اليوم السابق.
ثم…
“اوو…”
انهمرت دموعها.
ربما كان بسبب التباين الشديد:
يد أبيها القاسية التي صفعتها بالأمس…
مقابل يد “إيريك” الناعمة التي تربت عليها الآن بهدوء.
“هووو…”
لم تعرف “تيريا” أن دفء البشر يمكن أن يكون بهذا اللطف.
والداها لم يحتضناها أبدًا.
كل ليلة، كانت “تيريا” قلقة بشأن الغد:
هل ستستطيع فهم الدرس غدًا؟
هل ستتجنب العقاب؟
لكنها لأول مرة…
لم تخف من الغد.
—
بينما كانت “تيريا” على وشك النوم، همس “إيريك”:
“هل تعرفين؟ حتى لو كان العالم كله ضدنا…”
“…سنصبح أقوى من أي شيء!”
في صمت الليل، بدا هذا الوعد كالقسم السري لطفلين فقدا الكثير.
“هييييك…”
“ماذا بكِ؟”
“هييي…”
“ها هي تبكي مجددًا! سيغطي الشعر مؤخرتكِ قريبًا!”
لم تتوقف دموعها عن الانهمار.
رغم تذمر “إيريك”، إلا أنه لم يتوقف عن التربيت على ظهرها.
كانت “تيريا” ممتنة جدًا.
عندما دفنت وجهها في صدره، ازداد الدفء.
دفء جسده تحت الجسر كان أكثر حرارة من غرف القصر الفاخرة!
ربما لهذا…
لم ترَ “تيريا” كابوسًا تلك الليلة.
بل حلمت بمرج أخضر دافئ تحت أشعة الشمس.
عندما استيقظت في الصباح، أدركت سبب هذا الدفء:
لقد احتضنت “إيريك” طوال الليل دون أن تتركه!
فور فتح عينيها، نظرت إلى “إيريك” النائم بجانبها وفهمت:
“أنا لستُ خائفة.”
بوجوده، لم تعد تخشى النوم… ولا الاستيقاظ.
هذا الصبي الصغير…
استطاع أن يكون السور الذي يحميها من كل مخاوف العالم.
رغم أنها مشاعر طفولية، إلا أنها كانت ثمينة.
مشاعر جعلت قلبها يخفق كالطبل.
“لا أريد أن ننفصل.”
“أريد أن نبقى هكذا للأبد.”
تفكير طفولي ساذج…
لكنه جوهر أول حب حقيقي.
رغم أنها عاشت دون “إيريك” من قبل، إلا أنها الآن شعرت أنها لا تستطيع العيش بدونه.
ابتسمت وهي تتحرك قليلاً…
فاستيقظ “إيريك”.
“أوه… هذا خانق.”
فتح عينيه الناعستين وعبس.
كانا قريبين لدرجة أن أنفهما كادا يتلامسان تحت البطانية.
خفق قلب “تيريا” بقوة.
لو لم يتكلم، لبدو كأمير من الحكايات!
“أوه، كم أنتِ قبيحة!”
…لكنه تكلم.
“أبعدي وجهكِ، إنه مخيف.”
“لا.”
“ماذا؟”
“لا. ولن أعتذر!”
في ذلك اليوم، ولد حلم جديد لـ”تيريا”.
ليس مجرد حلم في النوم…
بل أمنية تريد تحقيقها في الواقع:
“أريد أن أنام وأستيقظ مع إيريك كل يوم!”
وعرفت كيف تحقق هذا الحلم:
“أريد أن أتزوجك.”
كما قال والدها ومعلمتها: الزواج يعني العيش معًا دائمًا.
ببراءة الطفولة، وبعد حياة كاملة من الخضوع، عبرت عن رغبتها لأول مرة بصراحة وقحة.
لكن هناك شيء لم تعرفه “تيريا” آنذاك:
“لا أريد. أنتِ قبيحة!”
الزواج يحتاج لموافقة الطرفين!
وأيضًا…
“سأتزوج أجمل فتاة في العالم! (الدو) قال إن الفرسان يتزوجون جميلات!”
في ذلك اليوم، كان “إيريك” البالغ ست سنوات…
أكثر طفل مزعج في الكون!
التعليقات لهذا الفصل " 34"