الذكرى (1)
في ذاكرة “تيريا”، كان “إيريك” يمتلك وجهًا مستديرًا مع نظرة شريرة في عينيه. شعره البني كان منتفخًا، وملابسه المصنوعة من قماش فاخر كانت واضحة للعيان.
كان هذا هو الصبي الذي قابلته لأول مرة في حياتها.
“من أين أتيتِ؟ لم أرَ وجهكِ من قبل!”
سؤاله المليء بالفضول كان لطفًا غريبًا لم تعهده “تيريا” من قبل.
على الرغم من إهانته لمظهرها قبل قليل وعدم اكتراثه بذلك، إلا أنها شعرت بانجذاب غريزي نحو هذا الصبي الذي قابلته للتو.
“…من هناك.”
أشارت “تيريا” نحو قصر عائلة “ويبين” خلف التل.
فقال “إيريك”:
“آه! عشّ العالة!”
لم يكن أمامها إلا أن تتفاجأ.
فالكلمات التي خرجت من فمه كانت بذيئة وممنوعة في تعليمها.
“عشّ العا…؟”
“والدي قال لي: هناك يعيش عالة يأكلون موارد الإقطاع!”
<يقصد عاله على المجتمع بس ياكلون ومايعملون شي مفيد>
ضحكته كانت بريئة رغم كل شيء.
لم تكن “تيريا” جاهلة بمعنى كلماته، خاصة أنها قادمة من ذلك القصر. لكنها لاحقًا أدركت أنه كان مجرد طفل مشاغب لا يتردد في قول أي شيء.
لكن في ذلك الوقت، كل شيء عنه كان صادمًا لها.
“على أي حال، تعالي معي.”
“ايه…؟”
“المسعف اليوم غاضب من أمي ولم يأتِ. أنتِ ستكونين المسعفة بدلًا منه!”
شبك!
أمسك “إيريك” بيد “تيريا” بقوة.
نسيت “تيريا” أنها خرجت لطلب المساعدة وتبعته.
بالطبع، لم يكن الأمر سهلًا. ساقها المصابة من الضرب جعلتها تتعرج في مشيها، ووجهها المتورم كان يؤلمها حتى من لمسة الهواء.
أدرك “إيريك” ذلك متأخرًا وعبس.
“ماذا؟ ساقكِ مجروحة؟ كان عليكِ أن تقولي!”
“إنها…”
“تعالي هنا.”
ثم فعل شيئًا أذهلها.
“هييا!”
رفع “إيريك” “تيريا” وحملها بسهولة!
في ذلك الوقت، كان عمره 6 سنوات بينما كانت هي 8.
من الطبيعي أن تكون أكبر منه بكثير قبل البلوغ، لكنه حملها كما لو كانت لا شيء.
وفي تلك اللحظة:
“أوه، أنتِ جريحة وليست مسعفة!”
ابتسم “إيريك” ببراءة.
وجهه المشرق تحت أشعة الشمس كان مليئًا بالثقة.
كان الهواء منعشًا، وحضنه الصغير غريبًا لكنه آمن.
لأول مرة في حياتها…
شعرت بأن أحدًا ما يحتضنها.
دفء شخص آخر كان صادمًا بجماله.
ولذلك، كان رد فعلها خارجًا عن السيطرة.
“هييييك…”
انفجرت في البكاء.
“واو، قبيحة و تبكين؟”
“اوو…”
“لا تبكي، يقولون إذا بكيتِ كثيرًا ستنبت شعرات في مؤخرتك!”
“هييييك… آسفة…”
“آه، من قال لكِ أن تعتذري؟ لا بأس.”
ربت “إيريك” على ظهرها بلطف.
في ذلك اليوم، أدركت “تيريا” شيئًا:
العالم ليس كله مؤلمًا.
كان هناك دفء يمكن أن يلمس قلبها أيضًا.
البكاء لم يكن شيئًا يحتاج للاعتذار عنه.
“اوو…”
في حضن ذلك الصبي الذي ضحك عليها، اختبرت “تيريا” لأول مرة في حياتها شعور المواساة.
ربما لهذا لم تنسَ تلك اللحظة حتى الآن.
—
“أنتِ مسعفة اليوم!”
المكان الذي أخذها إليه “إيريك” كان ساحة صغيرة عند مدخل القرية.
صُدمت “تيريا” عندما رأت كل هؤلاء الأطفال في عمرها – فهي لم تعرف أن “ويبين” كان فيها كل هذا العدد من الصغار!
بالطبع، لم يكونوا مثله.
كان بينهم أطفال قذرون، وآخرون يرتدون ملابس رثة حسب معاييرها، وبعضهم بشعر أشعث.
لم تشعر بالانزعاج من ذلك، لكنها أدركت بوضوح أن “إيريك” كان مختلفًا عنهم.
“يا أنتِ! القبيحة!”
ناداها “إيريك” بهذا الاسم.
في تلك اللحظة، غمرها الخجل.
“…لستُ قبيحة.”
“بلى أنتِ قبيحة! وجهكِ منتفخ كالكعكة! (الديو) أخبرني أن الجميلات وجوههن نحيلة!”
كان وصفها بالقبح أمام الآخرين أمرًا وقحًا.
لكنها لم تستطع إنكار كلماته – حتى هي تعتقد أن وجهها الآن قبيح للغاية.
تحول لون وجهها الأزرق من الكدمات إلى الأحمر خجلاً.
بدأت عيناها تدمعان مرة أخرى.
تنهد “إيريك”:
“أوه، إنها تبكي مجددًا.”
“القائد جعل الفتاة تبكي!”
“هذا هو القائد! نموذج الرجل الشرير!”
هتف الأطفال بسعادة.
هز “إيريك” كتفيه، ثم اقترب منها ومسح دموعها بمنديله بعنف.
“لا تبكي. حقًا تريدين أن ينبت شعر في مؤخرتكِ؟”
“هيييك…”
“توقفي! الآن – انفخري!”
انفخي!
نفخت “تيريا” أنفها في المنديل.
رمى “إيريك” المنديل على الأرض بلا مبالاة.
“على أي حال، كوني لطيفة معهم. إذا جرح أحدهم، عالجيه، حسنًا؟”
كان يُزعجها ويُضحكها ويتصرف بوقاحة…
لكن بطريقة ما، لم تستطع كرهه.
تذكرت “تيريك” كيف حملها “إيريك” بسهولة وهو يضحك، فأومأت برأسها خجلاً.
—
كان ذلك اليوم هو اليوم الذي تعلمت فيه “تيريا” معنى اللعب.
أو بالأحرى، اليوم الذي أدركت فيه ما هو اللعب الحقيقي.
قبل ذلك، كل ما عرفته كان “لعبًا” لأغراض تعليمية:
كتابة قصائد بكلمات محددة، أو تنظيف فناجين الشاي… إلخ.
لذا، كل شيء كان جديدًا عليها.
“يا مسعفة! عالجي الجريح!”
جلس “إيريك” أمامها مرتديًا عباءة حمراء وحاملًا سيفًا خشبيًا صغيرًا يناسب حجمه.
لقد كانوا يتدربون على القتال بالسيوف الخشبية ويتدحرجون على الأرض قبل قليل.
بينما كانت “تيريا” تشاهدهم فقط، حدقت فيه بذهول.
“هيا! هنا المكان الذي يجب علاجه!”
كشف “إيريك” عن ساعده.
في تلك اللحظة، لم تستطع إلا أن تصاب بالصدمة.
“هذا قذر…”
“يا غبية! الجروح دائمًا ما تكون قذرة!”
ضحك “إيريك” بعفوية وهو يلوح بذراعه المغطى بالطين أمام “تيريا”، التي انحشرت للخلف ممتعضة.
“هيا! امسحيه بهذا القماش!”
حتى لو مسحته بخرقة قذرة، سيزداد اتساخًا فقط…
رغم تفكيرها هذا، أمسكت “تيريا” بالخرقة وبدأت تمسح ذراعه.
بالطبع لم يصبح الذراع نظيفًا، فقط اختفى الطين.
هل ستعاقب الآن؟
لكن فجأة…
“أحسنتِ! يا مسعفة!”
بدا “إيريك” راضيًا تمامًا وهو يهز رأسه مبتسمًا “اممم! جيد!”
ثم…
” أنتِ رائعة !”
مرر يده على شعرها برفق.
اتسعت عينا “تيريا” كالأرنب المصعوق.
“هكذا تعالجين جروحي عندما أُصاب! فهمتِ؟”
رغم بساطة كلماته، إلا أنها اخترقت أعماق قلبها.
لم تكن تعلم كم كانت تتوق لتقدير الآخرين.
في حياتها، كانت العقوبات تأتي أولاً، ثم ربما – فقط ربما – يأتي المدح.
‘اللعب…’
أدركت حينها: هذه هي المتعة الحقيقية.
المتعة التي لا مكان فيها للعقاب.
—
كان اليوم كالحلم.
وككل الأحلام، حان وقت الاستيقاظ.
“يا قائد! أراك غدًا!”
“وداعًا يا مسعفة القبيحة!”
وقت الغروب.
السماء احمرت، والهواء أصبح أبرد قليلاً.
بدأت الساحة التي كانت تعج بالضحكات تفرغ رويدًا رويدًا.
“ستذهبين أيضًا؟”
سألها “إيريك”.
لكنها لم تستطع الإجابة.
كيف لها أن تعود؟ لقد تهربت من الدرس طوال اليوم دون إذن.
ليس هذا فقط.
بعد العقاب القاسي بالأمس، ماذا ينتظرها اليوم؟
جالت في ذهنها يد والدها الضخمة التي حجبت رؤيتها أثناء ضربها، فارتعش جسدها.
أصبح رأسها خاليًا، وأنفاسها قصيرة متقطعة.
“ما بكِ؟”
عبس “إيريك” وهو يفحص وجهها.
انكمشت “تيريا”:
“لا شيء…”
“كلا! تعالي هنا.”
أمسك بيدها بقوة ورفع وجهها بيده الأخرى ليفحصه.
أخيرًا صاح:
“آه! فهمت!”
“…؟”
“لا تريدين العودة للمنزل!”
رفعت “تيريا” رأسها فجأة.
كيف عرف؟
بدون كلمة واحدة، قرأ أفكارها كالساحر!
ابتسم “إيريك” ببراءة وهو يقول:
“إذن! لنلعب أكثر!”
“لكن… قائد؟”
“أتهرب اليوم أيضًا؟”
هز الطفلان الباقيان – “ريتون” و”بارت” – رؤوسهما رافضين.
“أوه، جبناء! هيا بنا يا قبيحة.”
لم تستطع “تيريا” تصديق جرأته.
لكن مع ذلك، غمرها شعور غريب: الراحة.
الهروب؟ هل يعني ألا تعود للمنزل اليوم؟
هل يعني ذلك أنها لن تُعاقب؟
رغم خوفها المتلاشي، سألته بقلق:
“أليس هذا… خطرًا؟”
“ماذا؟ الهروب؟”
لو فكرت الآن، ربما تذكرت كلماته بوضوح:
“لا تقلقي، أبي لا يكترث بي أصلًا.”
في تلك اللحظة، شعرت بالتضامن معه.
التعليقات لهذا الفصل " 33"