وبنظرة سريعة، بدا أنها أوراق متعلقة بحسابات نهاية العام.
وبما أنها حسابات ختامية، فلا بد أنها خلاصة مجمّعة، لكن مع ذلك تبقى أهميتها بالغة لدرجة أن الكلام عنها تحصيل حاصل.
فجأة تسلّل القلق إلى تيـريا.
لم يكن الأمر أنها لا تثق بإيريك، ولكن إن أخطأ في رقم واحد لعدم براعته بالعمل، فسيصبح إصلاح ذلك أعقد بأضعاف.
وربما يضطرون إلى إعادة العمل نفسه مرات عديدة.
ومع تصاعد القلق أخذ جسد تيـريا يميل شيئًا فشيئًا باتجاه إيريك.
في تلك اللحظة.
“أوه، أُهُه! سأدبّر الأمر بنفسي!”
غطّى إيريك الأوراق بذراعيه.
كان يشبه طفلًا يحاول إخفاء الأطباق عن الآخرين على مائدة الطعام.
مع أنه رجل بالغ، ضخم البنية، وملامحه واضحة وخشنة الطابع، إلا أنّه بدا هكذا لسبب ما.
“…لم أعلّمك بعد الحسابات الختامية.”
“لكنني تعلّمت بعض الأشياء من قبل، وسأجربها بمهارة!”
“هل أنت واثق؟”
كان أسلوبها الذي بدا كأنه يخدش السامع من ذلك النوع الذي اعتادت تيـريا أن تُبديه أثناء التعليم.
من غير أن تعي ذلك، كان في هذه السمة هالة غريبة تجعل الطرف المقابل ينكمش خجلًا أو ضعفًا.
تدفّق العرق البارد من جبين إيريك.
ضيّقت تيـريا عينيها.
“لا بأس إن أجّلت العمل. ولا بأس إن كان بطؤك. لكن الخطأ غير مقبول. هذه أوراق في غاية الأهمية.”
“ذا… ذلك…”
“سألتك إن كنت واثقًا.”
لم يستطع إيريك أن يقول نعم، فاكتفى بهزّ رأسه نافيًا.
ومع ذلك، لم يكن ذلك استسلامًا كاملًا.
“لكن، لا يصلح أن أتركه. سأحاول أولًا، وأسألك فقط عن الأجزاء التي لا أفهمها. زوجتي بحاجة إلى الراحة.”
توقّفت تيـريا فجأة.
‘مرة أخرى…’
إنه يناديني زوجة.
كل تفصيلة كهذه كانت تلمس قلبها وتضعفه، فلا تعود قادرة على مواصلة توبيخه.
تنفست تيـريا الصعداء أخيرًا، وهزّت رأسها.
“…لكن عليك أن تسألني حتمًا عمّا لا تفهمه.”
“مفهوم!”
هزّ إيريك رأسه بقوة وملامحه مفعمة بالثقة.
ثم أعاد بصره إلى الأوراق مباشرة، وقال:
“إذن، هل يمكنني أن أسأل عن شيء واحد فقط أولًا؟”
وبادر إلى طرح سؤاله.
أرادت تيـريا أن تقول الكثير، لكنها كتمت الكلمات في صدرها إذ شعرت بضرورة رفع معنوياته.
لكن، بعد أن أعطته جوابًا واحدًا، سرعان ما لحقه بسؤال آخر بعد خمس دقائق، ثم استمر على هذا المنوال لساعة كاملة، بلغ الأمر بها حدّه.
فقالت أخيرًا:
“بهذا الشكل، دعني أنا أقوم بـ…”
“أوهُه!”
“…”
‘ماذا أفعل مع هذا العنيد الأحمق؟’
غاصت تيـريا في بحر من الأفكار.
—
رغم ما وقع من منغصات، اعتاد إيريك تدريجيًا على العمل بمفرده.
وفي تلك الأيام القليلة، كان جل ما فعلته تيـريا أن تجيب عن أسئلته المتناقصة يومًا بعد يوم، أو تتظاهر بالتطلّع من النافذة فيما تنظر إليه من طرف خفي.
لم يكن بوسعها غير ذلك.
فإيريك منعها من أي عمل آخر.
ومن أمثلة ذلك بعض المواقف:
“أودّ على الأقل أن أقرأ كتابًا…”
“لا يجوز. ألن يؤلمك رأسك حين تنظرين إلى الحروف؟”
طلبت ذلك لأن هوايتها القراءة، لكنه رفض.
“إذن، ماذا عن التطريز…”
“سيستهلك تركيزك، فيؤلمك رأسك.”
حتى التطريز الذي كانت تفعله للتسلية، حرمه عليها.
“فقط أخرج قليلًا لأستنشق الهواء…”
“أتريدين أن يزداد بردك سوءًا؟”
يا له من تفكير عجيب، كيف يمكن أن يتفاقم الزكام بمجرد استنشاق بعض الهواء لدقائق؟ ومع ذلك منعها من ذلك أيضًا.
أدركت تيـريا أخيرًا أمرًا لم تنتبه إليه من قبل.
إن إيريك يعتبرها شيئًا هشًّا، كقطعة زجاجية مزخرفة يمكن أن تتحطم عند أدنى لمسة.
صحيح أن الاهتمام جميل، لكن أن تُعامَل دائمًا كمن يحتاج للرعاية لم يكن أمرًا مرحّبًا به.
بل هي نفسها تتصرف أحيانًا كطفلة، فكيف له أن ينظر إليها على أنها كذلك؟
الكثير من الكلمات خطرت ببال تيـريا تعليقًا على تصرفات إيريك، لكنها في النهاية لم تقل شيئًا.
فالأمر لم يكن كله سيئًا على أي حال.
مثل هذه اللحظة بالذات على سبيل المثال.
“يبدو أن حرارتك بدأت تنخفض أخيرًا.”
كان يضع كفّه على جبينها.
وكان يبتسم لها من مسافة قريبة.
ابتسامة كهذه كانت يومًا ما في عداد الأحلام، بل اعتبرتها أمرًا لن يحدث أبدًا، وها هو الآن يتحقق بالفعل، يغمرها شعور بالهناء يتسرب بهدوء في كيانها.
وفي كل مرة تلتقي فيها نظراتها بعينيه البنيتين الدافئتين المنعكستين عليها، كان وخز حاد يخترق صدرها.
عندها كانت تيـريا تبذل جهدًا كبيرًا لتثبيت ملامحها حتى لا تذوب مفضوحة.
وحين تظل يده موضوعة على جبينها، تبقى تعاني من ذلك الارتباك المؤلم، وفي الوقت نفسه تدعو في سرّها ألا تنتهي هذه اللحظة.
ازدواجية كهذه جعلتها تضحك ساخرًة من غبائها.
ومع ذلك، فكلما طال الوقت الذي تمضيه برفقته، ازداد رضاها.
“كيف حالك الآن؟”
“أظن أنني صرت قادرة على العمل.”
“لا، هذا غير ممكن.”
“لكنني…”
“ارتاحي.”
اتسعت ابتسامته أكثر.
ثم خرج من بين شفتيه كلام حلو المذاق.
“لم أشعر يومًا بقدر ما أشعر الآن بمدى ما عانته زوجتي. وهناك شعور بالذنب يثقل صدري. لذلك أفعل هذا. فلتعتبرينه اعتذارًا على طريقتي.”
كانت هناك أسئلة تتململ على لسانها.
‘هل هو شعور بالذنب فقط؟
أما هناك عاطفة أخرى تجاهي؟
لماذا تبتسم لي بهذه الدفء؟’
راحت تصوغ الأسئلة في عقلها ثم تمسحها واحدًا واحدًا.
وبدلاً من البوح بتلك الكلمات المخجلة، خرجت منها جملة متماسكة بعض الشيء:
“إذن، اسمح لي على الأقل بقراءة كتاب.”
“همم… لا بأس، شرط ألا يكون شيئًا صعبًا. ماذا تريدين أن تقرئي؟”
“في الرف الثاني من الأعلى، هناك كتاب ذو غلاف بني. أرجو أن تُحضره لي.”
أخرج إيريك الكتاب.
“إنه موسوعة للنباتات.”
“نعم.”
أخذت تيـريا الكتاب ومسحت بيدها غلافه.
لقد مضى أكثر من ثمانية عشر عامًا وهي تطالعه، فباتت صفحاته مشبعة بأثر أناملها.
“همم، لكن لا تُطيلِ النظر فيه. آن أوان النوم تقريبًا.”
وكما قال، فقد بدأت الظلمة تزحف من خلف النافذة.
أومأت تيـريا برأسها وأجابت:
“ادخل ونام، سأقرأ قليلًا فقط قبل أن أنام.”
“حسنًا. نلتقِ غدًا.”
وما إن خرج إيريك من الغرفة، حتى فتحت تيـريا الكتاب.
أينما فتحت الصفحات، لم يكن ثمة ما تجهله، لذا تقلّبت أوراقه بين أصابعها بسهولة ودون تردد.
ولو سألها أحد: لِمَ تقرئين كتابًا تعرفين كل ما فيه؟ لكان جوابها واحدًا:
لم تكن تقرأه لتستوعب المحتوى، بل لتستعيد ذكرى اللحظة الأولى التي قرأته فيها.
“إن جهلت فادرس!”
غاصت تدريجيًا في أعماق ذكرياتها.
—
لم يكن في حياتها أي شيء يُسمى بالخير.
كانت حتى الآن مليئة في معظمها بما تكره.
لكن تيـريا في عمر الثامنة لم تكن تعرف حتى سبب وجودها حيّة، إذ كانت تعيش غارقة في بؤس لا يُطاق.
والسبب واحد.
عالمها الصغير “ويبين” كان مكانًا حادًّا قاسيًا.
ولو طُلب منها أن تستحضر صورة تلك الحقبة من ويبين، فلن يخطر ببالها سوى شيء واحد.
صفعة!
“ألستِ قادرة حتى على هذا؟!”
العقاب البدني.
“لقد أمرتُكِ أن تحفظيه لليوم. يا آنسة ويبين، هل هذا حقًا كل ما استطعتِ بذله؟!”
كانت تيـريا تتذكر “ويبين” في تلك الحقبة بالعقوبات البدنية.
“مدّي ساقيك!”
“…نعم.”
منذ أن صارت قادرة على المشي بمفردها، بدأت تيـريا تتلقى دروسًا في الآداب.
وكانت المعلمة كونتيسة مشهورة في هذا المجال، وقد دفع والداها مبلغًا كبيرًا ليستقدماها، وكانا يريدان من تيـريا أن تبرّر هذا الثمن.
ما زالت تيـريا تذكر كلمات والدها:
“تحلّي بوقار النبلاء. وإن أردتِ الزواج من عائلة جيدة، فلا ينبغي أبدًا أن تُؤخذ عليكِ هفوة.”
لكن تيـريا لم تفهم لماذا يجب أن تتزوج من عائلة جيدة.
لم تفهم لماذا لا ينبغي أن تفتح فمها على وسعه أثناء تناول الطعام، ولم تفهم لماذا عليها أن تهتم بخطوات مشيها، ولا لماذا لا ينبغي أن ترفع صوتها.
لقد نشأت على سماع مثل هذه الأقوال منذ صغرها البالغ، فظنت أنها أمور طبيعية.
ولم تدرك أن تلك الأيام كانت ضربًا من سوء المعاملة إلا بعد أن كبرت، فكيف كان حال تيـريا الطفلة إذن؟ النتيجة واضحة.
“أعتذر…”
كان عليها دائمًا أن تعتذر.
تعتذر لأنها لوّثت شفتيها بالطعام، وتعتذر لأنها ركضت، وتعتذر لأنها غلبها النعاس صباحًا، أو لأنها لم تنم مباشرة في الليل.
وفي ذلك اليوم، لم تكن الحال مختلفة.
فقد عجزت تيـريا عن مجاراة دروس الكونتيسة في الآداب، فنالت عقابًا بضرب ساقيها.
لكن ما كان مختلفًا في ذلك اليوم هو أن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد.
“تقدّم آنسة ويبين بطيء للغاية.”
شكت الكونتيسة إلى والديها من بطء تقدمها مقارنةً بأقرانها، فجرحت بذلك كبرياءهما.
وكان الحظ العاثر أن والديها كانا في حالة سُكر، ومع ذلك لم يجرؤا على الاعتراض على الكونتيسة، إذ كانا يملكان من ضحالة النفس ما يمنعهما من ذلك.
لكن الحادثة وقعت بعد مغادرتها.
“حتى هذا لا تستطيعين! ونحن نستثمر كل هذا من أجلك!!!”
صفعة!
كانت تلك أول مرة، في عمر الثامنة، تتلقى تيـريا صفعة على وجهها.
ولم تكن واحدة أو اثنتين.
مما تتذكره وحده، نالت ما يزيد على عشر ضربات.
“لماذا! لماذا لا تفهمين مشاعرنا!”
كانت الصفعات غليظة، والصوت زاجرًا، والجسد الضخم مهيمنًا ومرعبًا.
وكعادتها، لم يكن أمام تيـريا إلا الاعتذار.
“أعتذر!”
لكن حتى مع بكائها وتمسّكها بهما، لم يتوقف بطش أيديهما.
في تلك الليلة، تورّم وجه تيـريا حتى لم يعد له شكل، وأمضت الليل في عذاب وخوف.
ولعل ذلك كان السبب.
إذ كسرت الأمر الصارم بعدم مغادرة القصر، وتسللت خارجه خلسة.
ربما رغبت أن تطلب المساعدة من أحد.
“هـ…هـه…”
خرجت تيـريا من القصر وهي تعرج بساقيها المتورمتين من أثر العصا، ووجهها مزرَق متورم كالكعكة المنتفخة، تبكي وهي تسير في الطريق.
وكان إيريك هو الفتى الذي التقت به في ذلك اليوم تحديدًا.
“ما هذا؟ أي طفلة قبيحة هذه؟”
أما الآن فهي تعيش يومها مثقلة بمشاعر حب جارف تجاهه،
لكن في الحقيقة…
“واو… أيمكن للإنسان أن يبدو هكذا فعلًا؟”
حين تتذكر ذلك اللقاء الأول، فلا شك أن الانطباع الأول عن إيريك كان الأسوأ على الإطلاق.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "32"