العناية بمريض (2)
لم يكن “إيريك” الوحيد الذي اندهش.
ففي ذلك اللقاء المفاجئ، غمر الارتباكُ كيانَ “تيريا” بالكامل.
“إذن… سأذهب الآن!”
في خضمّ ذلك، ربما شعرت الخادمة بالذنب لكونها كانت تتحدث بالسوء عن “إيريك” قبل قليل، فهرعت مبتعدة بسرعة.
لم يستطع أيٌّ منهما الاهتمام بها.
ففي لحظة مواجهة بعضهما، غمرتهما مشاعرُ من الحيرة، والارتياح، والخفقان، وإحساسٌ غامضٌ معقدٌ في مكان ما من أعماقهما — كلُّ ذلك أثقلَ عليهما.
وكانت “تيريا” أكثر تأثرًا.
“بالطبع! السيد كان قلقًا جدًا عليكِ! كان يأتي يوميًا ليرعاكِ ثم يذهب!”
ها هو الشخص الذي كان قلقًا عليها إلى هذا الحدّ أثناء غيابها في سباتها، يقف الآن أمام عينيها.
ازدادت شكوكها عمقًا.
ما السبب في هذا اللطف المفاجئ بعد كل هذا الوقت منذ رحيله؟
… بل، ما الذي يدور في قلبه الآن؟
كانت “تيريا” مهووسةً بمعرفة ذلك.
“… أتيتَ؟”
عندما سألتْ بصوتٍ خافت، جاء الرد:
“لقد استيقظتِ أخيرًا.”
أطبَق “إيريك” شفتيه بشدة.
اتّجهت زاويتا عينيه إلى الأسفل، وظهر عليه الارتياح.
لكن هذا التعبير لم يدم طويلًا.
“لقد استيقظتِ متأخرةً جدًا.”
“ماذا…؟”
أصبحت نظرة “إيريك” حادة.
رغم أن قلقه لا يزال ظاهرًا، إلا أن غضبًا أيضًا احتوى نظراته.
اقترب منها معتمدًا على عصاه.
أحكمت “تيريا” قبضة يدها في حيرة.
ثم فجأة، سألها “إيريك” دون مقدمات:
“لماذا فعلتِ ذلك؟”
“… ماذا تقصد؟”
“لماذا لم تخبريني بأنكِ لستِ بخير؟”
الحقيقة أنها لم تكن تتوقع أن يصل الأمر إلى هذا الحد.
ففي أوقات انشغالها، كانت “تيريا” معتادةً على تحمُّل وعكات صحية بسيطة.
خاصةً بعد وفاة رب العائلة السابق، “هوفن بورتمان”، فقد أصبح الأمر أكثر اعتادًا.
خلال العام الماضي، كانت أيام تعبها أكثر من أيام راحتها.
ولأنها اعتادت هذا الوضع، ظنّت أن الأمر هذه المرة سيكون كالسابق دون مشكلة.
هل تخبره بالحقيقة كلها؟
لا، سيبدو كأنها تبرير.
شعرت “تيريا” فجأةً بالظلم.
لقد ذهبت فقط بدافع القلق عليه، فلماذا تُوبَّخ الآن؟
ألا يمكنه أن يفهم مشاعرها قليلًا؟
صحيح أنها لم تشرح أسبابها مسبقًا، لكن ألم يكن من الممكن أن يفسر الأمر بشكل إيجابي؟
كانت مشاعرًا طفولية.
كان ينبغي عليها الشعور بالخجل، لكن “تيريا” لم تستطع التخلص من هذا الإحساس بسهولة.
ربما كان سبب ذلك أنها لم تتعافَ تمامًا بعد.
وانطلقت كلماتها مدفوعةً بمشاعرها:
“كنتُ بخير… حتى لحظة الصعود.”
فوجئت “تيريا” نفسَها بحدّتها.
لم تكن تتوقع أن يخرج منها هذا النبرة الجافة.
وبطبيعة الحال، نظرت إلى رد فعل “إيريك”.
ازدادت تعابير وجهه قسوة.
في اللحظة التي شعرت فيها وكأن قلبها سيسقط، وأوشكت أن تقدم اعتذارًا، قال فجأة:
“أنا أهتمُّ بجسدي…”
“كنتُ قلقًا.”
ووقف صامتًا.
توقفت “تيريا” عن الحركة.
تثبتت عيناها في “إيريك”.
شكت في أذنيها، فنظرت إليه متسائلةً إن كانت قد سمعت جيدًا، فوجدت القلق يتعمق فوق غضبه.
لا بد أنها لم تخطئ السمع.
“قلق؟”
عليَّ؟ هو؟
بدأت تستوعب مغزى كلماته.
هل قلقه نابعٌ من كونهما زوجين رسميًا فقط؟ أم لأنه يحتاجها للعمل فمرضها يعيق ذلك؟ أم…
“… لا، لا أريد افتراض شيء.”
كانت “تيريا” تعلم جيدًا أن التوقعات غالبًا ما تتحول إلى خيبة أمل أكبر.
فكل الأحداث الكبيرة في حياتها سارت بهذا الشكل.
يمكن تسميته “رهابًا مُتعلَّمًا”.
كانت تعرف جيدًا شعورَ الذبول عندما تنهار التوقعات.
ما استطاعت قوله كان اعتذارًا:
“… آسفة لإزعاجك بقلقي.”
“لم أقل ذلك لأسمع اعتذارًا.”
جلس “إيريك” على حافة السرير.
احتوت يداه قبضتها.
“انظري إليّ.”
ارتجفت “تيريا”.
كانت عيناها تتجهان إلى أطراف أصابعه، لكنها رفعت رأسها عند سماع كلماته.
كانت تعابيره قد لانت، لكن وجهه بقي جادًا.
خشونة كفّه على ظهر يدها أحدثت إحساسًا غريبًا.
المسافة بينهما، التي تكاد تسمح له باحتضانها إذا مدّ ذراعه، جعلت صدرها ينقبض.
ارتفعت حرارتها.
“ليس هذا ما عناه.”
“عليكِ أن تعتني بنفسك أكثر، سيدتي. بعد مراقبتك لأيام، وجدت جسدك ضعيفًا جدًا.”
استمر في الكلام، لكن كلمة واحدة علقت في أذنيها:
“سيدتي.”
كلمة كان يستخدمها فقط أمام الآخرين، لكنه نطقها الآن بينهما وحدهما.
هل من الوقاحة أن تُعطيها معنى؟
لا، ليست وقاحة.
“بمثل هذا الجسد المتعب، لا عجب أن تنهضي. ثقي بالآخرين قليلًا. في هذه القصر، هناك الكثيرون مستعدون لمساعدتك.”
شعرت “تيريا” بأن “إيريك” قاسٍ.
“لماذا…؟”
لماذا يقول ذلك؟
لماذا يربك مشاعرها بهذه الكلمات؟
لماذا يجعلها تواصل التمني؟
“هل تسمعينني؟”
كان التحكم بتعابير وجهها صعبًا.
حركته بانحناء جسده لمستواها نقرت جذور مشاعرها العميقة.
أومأت برأسها بصعوبة.
“… نعم.”
“أحسنتِ. إذن، بصفتي ربَّ العائلة، سأقول لكِ هذا.”
انغرست أصابع “إيريك” بين أصابعها بقوة.
“ممنوع مغادرة هذا السرير حتى تتعافي تمامًا. سأراقبك بنفسي، فلا تفكري حتى في العمل.”
“لكن العمل…”
“سأحضر الأوراق هنا وأنجزها بنفسي.”
كان موقفه حازمًا، كأنه لن يتراجع.
بصراحة، شعرت بقلق.
رغم ذلك، امتلأت بسعادة لا يمكن إخفاؤها.
وجود شخص يمكنها الاعتماد عليه كان يعني لها الكثير.
“لم تتغير… في هذه الناحية.”
أطبقت “تيريا” شفتيها قليلًا.
“ماذا؟ إذا كنتِ مريضة، فعليكِ إخباري، أيتها الغبية! تعالي هنا! سأعالج حتى وجهكِ القبيح!”
دفءُ شخص يتذمر لكنه يحتضن جراحها كان لا يزال فيه.
شعرت “تيريا” بالارتياح والسعادة.
“أجيبي. هل تعدينني بالبقاء في مكانكِ؟”
خجلت من إظهار تعابير وجهها، فأمالت رأسها تمامًا كما فعلت في ذاك اليوم، وأجابت:
“… نعم.”
امتلأ قلب “تيريا” بأمنيةٍ صادقة:
“إذا كان اللطف الذي أشعر به الآن وهمًا… فاجعله وهمًا لا ينكسر حتى يوم مماتي.”
—
لم يبدأ “إيريك” بالارتجاف خجلاً إلا بعد خروجه من غرفتها.
“يا للوقاحة! لقد تجرأت على كل ما هو مخجل!”
لقد قابلها فجأةً وهي مستيقظة أثناء زيارته المعتادة للاطمئنان عليها، فتصرف بعاطفية مفرطة.
اختلط قلقه السابق وغضبه، فتدخل في شؤونها دون حق.
كان وقحًا بشكل يُقشعر له الأبدان.
فعليًا، كان من الطبيعي أن يكون هو أحد أسباب مجيئها إلى جبل الثلج، لكنه لم يفكر حتى في ذلك وأفرغ مشاعره بشكل أحادي الجانب.
لحسن الحظ، لم تبدُ “تيريا” منزعجةً كثيرًا، لكن بما أنه لا سبيل له لمعرفة ما يدور في داخلها، تضاعف خجله.
في تلك اللحظة…
“سيدي، إلى أين أنت ذاهب؟”
ظهر “ألديو” من طرف الممر.
حاول “إيريك” تهدئة تعابير وجهه بسرعة وأجاب:
“آه… سآخذ بعض الأوراق من مكتبي للحظة.”
“همم؟ ألن تعمل هناك؟”
“سأعمل في غرفة السيدة. إذا تركتها وحدها، ستصر على العمل مرة أخرى.”
“لا يمكنني إنكار ذلك.”
ضحك “ألديو” بخبث وقال:
“عُد إلى السيدة، سأجهز كل شيء بنفسي.”
“همم؟ أتستطيع ذلك؟”
“أليس استخدامي أفضل من ذهابك وإيابك بتلك الساق المؤلمة؟ لقد سمعت أن جرحك قد التهب مجددًا بعد رحلتك إلى جبل الثلج…”
أظهر “ألديو” تعبيرًا مستاءً.
لم يكن لدى “إيريك” ما يقوله.
فالحقيقة أنه تسبب بجرح نفسه بسبب حماقة، مما أدى إلى تفاقم إصابته.
في النهاية، كل ما استطاع فعله هو خفض رأسه بخضوع.
“سأفعل ذلك.”
عاد “إيريك” إلى غرفة نوم “تيريا” كجندي منهزم.
كان “ألديو” قد انتهى من التحضيرات بينما كان “إيريك” و”تيريا” يتبادلان نظرات محرجة وهي مستلقية على السرير.
أحضر “ألديو” مع خادمتين طاولة صغيرة وكرسيًا ومجموعة من الأوراق بجانب السرير.
ولم يكن ذلك كل شيء. فقد ملأ الغرفة برائحة الشاي الدافئ الذي أحضره لـ”تيريا”، والقهوة لـ”إيريك”، قبل أن يغادر راضيًا.
تنهد “إيريك” أخيرًا وأرخى كتفيه.
“ألديو حقًا… شخص متطرف.”
“أعتقد أنه رئيس خدم ممتاز.”
أجابت “تيريا” ثم حولت نظرها نحو كومة الأوراق.
ضيق “إيريك” عينيه وحجب رؤيتها بيده.
“لا تنظري حتى إليها.”
“… هل ستكون بخير؟”
“أستطيع فعل هذا الكمية. بما أنكِ معلمتي، أتعرفين ذلك أليس كذلك؟ هل أبدو كشخص لا يستطيع التعامل مع الأوراق؟”
“…”
سكتت “تيريا”.
تساءل “إيريك” كيف يجب أن يفسر هذا الصمت.
لكن كلما فكر أكثر، كلما اتجه الاستنتاج نحو اتجاه غير مفيد له.
في النهاية، سعل “إيريك” وكأن شيئًا لم يكن وأمسك بالأوراق.
“انظري جيدًا. مثل هذه الأوراق البسيطة يمكن إنهاؤها في لحظة…”
لكن بمجرد أن رأى عنوان المستند، ارتعشت حدقتاه كما لو أن زلزالًا ضربه.
[تقرير نهاية العام للإقطاعية.]
من البداية، اصطدم بحائط ضخم.
الأرقام.
تلك السلاسل المرعبة التي تخيفه أكثر من مواجهة جيش من الآلاف.
حالما رآها، شعر وكأن عقله يغيب.
كان شعورًا كما لو أن الأرقام قفزت من الورقة وخنقته.
التفت نحو “تيريا”.
أمالت رأسها وسألت:
“ألا تريد مساعدتي؟”
كلمات حلوة كهمسات الشيطان.
استغرق “إيريك” حوالي 3 دقائق من التردد قبل أن يجيب:
“… سأحاول وحدي.”
كان “إيريك” شديد الاعتزاز بنفسه.
التعليقات لهذا الفصل " 31"