“إذن، سأدعكما وتنسحب.”
انحنى ألديو بانحناءة رسمية ثم غادر.
بقيت عينا إيريك مثبتة على الكدمات التي غطّت جسد ريتون.
ولعلّه شعر بنظراته، فابتسم ابتسامة ماكرة وقال:
“آه؟ هذا؟ كما توقعت، لم تخسر لمستك يا قائد! جسدي كلّه يئنّ من الألم وكأنني سأموت!”
قهقه ضاحكًا بلا أدنى ظلّ في صوته، وهذا ما جعل شعور الذنب في قلب إيريك يثقل أكثر.
“حقًّا، لا عذر لي. كنت متعجّلًا أكثر مما ينبغي في ذلك الموقف…”
“ماذا تقول! بين الأصدقاء يجوز حتى هذا النوع من الطلبات. بل أعاد إليّ ذكريات الماضي الجميلة.”
ابتسم إيريك ابتسامة باهتة، مدركًا تمامًا ما يقصده.
“قائد! اضربني مرة واحدة فقط! أبدأ من اليوم تدريب التحمّل!”
“حسنًا!”
“آااخ! ضربتني بقوة مفرطة!”
“أوه، معذرة.”
منذ القدم، كانا يقتسمان حلم الفروسية.
إيريك كان يتمنى أن يصبح فارسًا يرفع سيفه عاليًا في مقدمة المعركة، أما ريتون فكان يحلم بأن يكون فارسًا صلبًا يصمد خلف درعه أمام الأسوار.
ولهذا كثيرًا ما كانا يحوّلان ما يشبه المبارزات إلى تدريب يتّسم بالضرب المبرّح، فيخرج ريتون غارقًا بالكدمات، ويعود سيف التدريب الخشبي لإيريك ملوّثًا بآثار الدم.
“…همم، تذكّر تلك الأيام يجعلني أشعر بالذنب أكثر.”
“أما أنا فقد استفدت كثيرًا. بفضلك، عندما كنت تحت التدريب لم أشعر بألم ضربات القادة عليّ، فما كانوا يتقنون الضرب كما تفعل أنت.”
كان تهوينه للأمر سببًا لمزيد من الامتنان، لكن الأعظم من ذلك أنه… لم يسأله شيئًا.
“أراك لا تسألني شيئًا.”
“هم؟”
“أعني عن سيفي… عن ما فعلته طوال عشر سنوات… أو عن سبب إخفائي لقوتي.”
لو كان الموقف معكوسًا، لكان إيريك قد ألحّ بلا هوادة حتى يسمع الحقيقة، وربما كان قد عبّر عن ضيقه من كتمان صديقه لأمر جلل كهذا.
أما ريتون، فعلى الرغم من أن الفضول ينهش قلبه، لم يسأل، وظلّ يعامله ببشاشة وابتسامة.
“ألا تنوي السؤال؟”
كان إيريك على استعداد لأن يكشف كل شيء له وحده، لو أنه طلب.
لكن ريتون، وقد مسح ملامح المزاح عن وجهه، ابتسم بهدوء وقال:
“لا، لن أسأل.”
اتسعت عينا إيريك بدهشة.
تابع ريتون:
“إن كان القائد يخفي شيئًا، فلا بدّ من وجود سبب. وأنا أؤمن أن على الرجال احترام أسرار بعضهم.”
في تلك اللحظة شعر إيريك بغصّة حارّة تعلو صدره.
“تذكر يوم كنا في التاسعة؟ عندما جئت ووجنتك متورّمة.”
“…أذكره.”
“حينها أيضًا، أخفيت الأمر. قلت إنك ضربت أحد أبناء النبلاء من القرية المجاورة حتى الموت، بينما الحقيقة أنك تلقيت صفعة من والدك. ولم نسألك شيئًا. أظننا لم نعرف الحقيقة حتى بلغنا الثانية عشرة، أليس كذلك؟”
“…نعم، كان كذلك.”
تغيّر صوت إيريك وهو يجيب، وكأنه يخنق مشاعره.
ضحك ريتون ملء صوته:
“لست أنا وحدي. الكل يعرف. القائد لا يشارك الآخرين بالأمور التي لا يطيق تحمّلها. لذلك نحن لا نسأل. نحن ننتظر فحسب.”
‘هكذا إذن…’
أدرك إيريك فجأة أن ما هدّأ حدّة عزيمته ليس أجواء ويبين الوادعة، بل… الإنسان.
“سأبقى أشجّعك بصمت حتى يحين اليوم الذي تشعر فيه أن ما مررت به لم يعد يؤلمك. حينها، أخبرني بكل شيء. اجعلها قصة بطولية تضخّمها كيفما شئت!”
كان إنسانًا، لا صفقة تجارية ولا رباطًا هشًّا بخيوط المال، بل صديقًا صادقًا يقوم على الثقة.
إنسانية نسيها إيريك طويلًا، فإذا بها تعود وتطرق قلبه، فتجعله ضعيفًا.
شعر بحرارة تتصاعد في عينيه.
“أه، لا تبكِ! هذا محرج بين الرجال. ثم إن البكاء لا يليق بك، بل يشوّه صورتك.”
ومع ضحكات ريتون المجلجلة، عضّ إيريك على شفتيه كي يكتم دمعه، ثم انفجر هو الآخر بضحكة صافية.
“سأضع ذلك في الحسبان.”
“يا رجل، حتى طريقتك في الكلام صارت كالعجائز!”
“سأقصّ عليك تلك الحكاية في وقت لاحق.”
“سأكون بانتظارها.”
أجاب ريتون هكذا، ثم نهض من مكانه.
“عليّ أن أذهب الآن. حين أعود إلى غيديون، قد لا أرجع إلى هنا لوقت طويل، فالعمل متراكم عندي هناك.”
“لماذا لا تبقى قليلًا بعد؟”
“الوداع كلما طال، ازداد وقعه. ثم إن هذا ليس لقاؤنا الأخير، أليس كذلك؟ في المرة المقبلة حين أزورك، سنلتقي مجددًا.”
ارتجفت أصابع إيريك للحظة.
ذلك الحديث العفوي عن ’المرة المقبلة‘ أيقظ في داخله تردّدًا أعمق كان ساكنًا فيه منذ زمن.
ولكي يخفي ذلك، أجبر نفسه على رسم ابتسامة.
فجأة، ارتسمت على وجه ريتون ابتسامة ماكرة، ثم قال بنبرة خبيثة:
“همم، بحلول ذلك الوقت… هل سأتمكّن من رؤية ابن أخي الصغير؟”
“ابن أخيك؟”
“طبعًا. ابن القائد هو بمنزلة ابن أخ لي.”
واحد… اثنان… ثلاثة.
بعد أن عدّ حتى الثلاثة بالتمام، فقط حينها أدرك إيريك ما عناه صديقه.
احمرّ وجهه كبركان مشتعل.
“ما، ما الذي تقوله!”
“ولمَ تصرخ هكذا؟ ألستَ الآن من النبلاء؟ أما آن الأوان لتفكر في وريث؟”
سأله ريتون بجدّية مملوءة بالبراءة، فيما بقي إيريك يفتح فمه ويغلقه كمن يتلعثم بلا جدوى.
’وارث؟ أيعني ذلك أنه… أنا وتيريا…‘
تفكيره جمح بعيدًا، فغطّى وجهه بيديه في محاولة ليكبح الخيال المندفع في اتجاهات محرجة.
لكن ريتون، غير واعٍ لما يفعل، استمر في هذيانه:
“أما قلت لي في الماضي إنك ستنجب عشرة أطفال وتؤسس ’فيلق فرسان إيريك‘؟”
“متى قلتُ مثل هذا الكلام؟!”
“كنا في العاشرة. أي قبل أربعة عشر عامًا.”
“تلك كانت ترّهات طفل لا يدرك شيئًا.”
تنهد إيريك بعمق، وجهه متوهّج من شدّة الحرج، كأن الحرارة تأبى أن تهدأ.
“ولماذا تستحضر حتى سخافات طفولتي؟”
“ولِم لا؟ تبدوان لي متقاربَين جدًا. ألم تترك واحدًا من ذئاب النصل في حالٍ جيدة لتصنع منه شيئًا تهديه لزوجتك؟”
كان ذلك صحيحًا.
ففي جبال الجليد، تعمّد أن يصطاد أحد الذئاب بطريقة نظيفة ليبقي جلده صالحًا للاستعمال، وقد فعل ذلك لأنه لاحظ رداء تيريا البالي.
لكن الأمر لم يتجاوز ذلك.
لم يشأ أن يضيف على الفعل أي معنى أبعد.
التعليقات لهذا الفصل "30"