تيـريا التي أغمي عليها فجأة، حملها إيريك بين ذراعيه بلا وعي.
“كّ…!”
ازدادت الحمولة على ركبته فانبعث منها الألم.
لما انعقد جبينه من شدة الوجع، مدّ ريتون يده مذعورًا، غير أن إيريك هزّ رأسه.
“سأحملها على ظهري. تفضّل أنت بالقيادة.”
“أيها القائد! لكن ركبتك…!”
“لا بأس. أسرع بنا.”
عضّ ريتون على أسنانه، ثم اندفع بخطًى متسارعة وقد بدا عليه القلق.
أما إيريك فحملها على كتفه وأخذ يتكئ بعصاه محاولًا أن يوازن خطاه.
تساقط الثلج غلّف الأفق وحجبه شيئًا فشيئًا، فاضطر إلى أن يبذل المزيد من جهده في استكشاف المكان بالمانا.
وفي تلك الأثناء، صرخ ريتون من بعيد:
“أيها القائد! وجدتها!”
كان قد سبقهم بمسافة، وأشار إلى كوخ صغير.
ضيّق إيريك عينيه نحو الموضع.
‘إنه هناك…!’
الكوخ الذي لم يكن موجودًا إلا في ذكرياته ما يزال على حاله.
لم تُشعره جدرانه بأي أثر للحياة، وكأن المعلّم لم يعد إليه ولو لمرة منذ رحيله.
لكن ذلك لم يكن هو الأهم الآن.
مضى إيريك نحو الكوخ وفتح بابه.
كيي―
ارتفع صوت مزعج، وظهر ما بداخل الكوخ.
“كح! كح!”
لوّح ريتون بيده في الغبار المتناثر وهو يسعل.
كما بدا من ردّة فعله، فقد كان الداخل مملوءًا بالغبار الرمادي حتى ضاق التنفس.
“فلنُهوِّ المكان أولًا. أيها الرفاق، أوقدوا النار هناك.”
أمر إيريك الصيادين بإشعال الحطب، ثم مدّد تيـريا على السرير الخشبي.
رغم ثيابها الثقيلة، كانت ترتجف بعجزٍ يثير الشفقة.
‘لماذا…؟’
لماذا خرجت بجسدها العليل هكذا؟
كان يلومها في أعماقه.
—
“سأذهب إلى القرية طلبًا للمساعدة، فليس معلومًا متى سيتوقف هذا الثلج.”
“أعتمد عليك.”
“هيا أيها العمّان، تعالا معي.”
كانوا قد نفضوا الغبار جزئيًا، وأوقدوا النار في الموقد.
أضحى الكوخ أدفأ بوضوح، وبدت تيـريا تنام باستقرارٍ أكبر مما كانت عليه.
خرج ريتون مع الصيادين لطلب المساعدة، وبقي إيريك وحده معها في الكوخ.
تنفّس الصعداء وجلس.
‘أي شقاء هذا…؟’
انفلتت منه ضحكة جافة.
هل كانت المشكلة أنها خرجت معه في رحلة صيد بجسدٍ متهالك؟
لا… لقد كان حادثًا.
أي مصادفة هذه أن يهطل ثلج كثيف تحت سماء صافية؟
هزّ إيريك رأسه، ثم مدّ يديه نحو دفء الحطب.
ملامحه لم تكن طيبة.
‘مأزق حقًّا.’
لم يعد يتأثر بالبرد ولا بالحر منذ زمن بعيد، لذا لم يكن المرض منه يخشى، لكن الركبة… الركبة وحدها هي المشكلة.
أفرط في استعمالها بينما كانت في طور الشفاء، فزاد مدة النقاهة بدل أن ينقصها.
ذلك أمر مقلق، لكنه من ناحية أخرى كان… مطمئنًا.
‘…مطمئن؟’
وما الذي يبعث على الاطمئنان؟
أطلق إيريك تنهيدة قصيرة وهو يمسّد عنقه.
‘لو أن المعلّم سمع بما فعلت، لكان وبّخني بشدّة.’
ذلك الذي علّمه أن العناية بالجسد أهم ما يجب على الفارس أن يحافظ عليه.
ولأنه كان جالسًا في كوخٍ عاش فيه معلّمه، تدفقت ذكرى الرجل أكثر فأكثر.
تفحّص إيريك الكوخ بعينيه.
كل شيء ما يزال كما هو.
سيف التدريب المعلّق على الجدار، الريشة والورق الأصفر فوق المكتب، الموقد، وحتى ذاك السرير الخشبي البسيط.
حين رحل، لم يحمل معه سوى سيفه… لذلك لم يتغيّر شيء.
‘أين يكون الآن يا ترى…؟’
حين هدأ قلبه، انسابت الأفكار إلى مسارب أخرى.
وبمواجهة آثار معلّمه، خطر في بال إيريك فجأة أوّل لقاء جمعه به.
—
لقد مضت ثمانية عشر عامًا على تلك الحادثة.
كان إيريك حينها طفلًا في السادسة، قد ذاع صيته في القرية كصاحب الحوادث والمشاكل. وكان اليوم شتويًّا مثل هذا، تتساقط فيه الثلوج.
مأخوذًا بلعبة الفرسان، قاد أطفال القرية معه نحو الجبل خلف القرية.
صيد الوحوش السحرية.
مجموعة من الأطفال الجهلة أطلقوا على لعبهم اسم مغامرةٍ بحياتهم.
والحق أن هذه لم تكن المرة الأولى؛ طالما تسلّقوا الجبل بحجة صيد الوحوش، ولم يروا فيه خطرًا يُذكر.
أما نصائح الكبار، فكانت لا تزال في نظرهم محض ثرثرة مملة.
أطفالٌ كثيرون لم تعد وجوههم واضحة في ذاكرته، بينهم ريتون وبارت أيضًا.
صعد إيريك مع أصدقائه في صفٍ صغير متراص.
“غرووورر―”
ولكن في ذلك اليوم بالذات، واجهوا وحشًا.
جسدٌ حالك السواد، وعينان مصفرّتان كالذهب الباهت.
توقّفت ذاكرة إيريك عند تلك اللحظة، ولم يتذكّر ما بعدها بوضوح، وكأنها غارقة في ضباب كثيف.
ما يوقنه فقط أنه في ذلك اليوم واجه الوحش، وتلقّى جرحًا غائرًا عند رقبته، ما زال أثره باقٍ أسفل شحمة أذنه حتى الآن.
ومعلّمه… كان الرجل الذي التقى به في ذلك اليوم.
“استفقتَ إذن.”
حين عاد إيريك إلى وعيه، كان ممدّدًا على سرير الكوخ.
رجل ذو شعرٍ أبيض منكوش، ولحية مهملة، وملابس من جلود الحيوانات مرقّعة على عجل، أشبه بقطاع الطرق الذين يسكنون الجبال.
ومع ذلك، كان في صوته المتهدّل نبرة غامضة تبعث على الإحساس بالقوة.
“شجاعة لا بأس بها، أن تقف أمام وحش سحري.”
لقد كان المنقذ الذي خلّصه من بين أنياب الوحش.
وحسب قوله، فإن إيريك كان يتصدّى له بغصنٍ من شجرة، متشبّثًا أمامه.
ولولا أن المعلّم لمح ذلك المشهد، ولولا أن الوحش لم يكتفِ باللعب معه، لكان الصبي قد قضى نحبه في الحال.
وما تلا ذلك ما يزال واضحًا في ذهنه.
كان إيريك قد لفّ عنقه وذقنه بالضمادات، وهو يهمس شاكرًا.
حينها قدّم المعلّم عرضه:
“شـ… شكرًا جزيلًا…”
“لا شكر على شيء. لم أنقذك بلا مقابل.”
“ها؟”
“أيها الصغير، تعلّم السيف على يدي.”
الآن، حين يسترجع الموقف، يراه طريفًا.
“ومن تكون أنت أصلًا؟”
كم كان صبيًا وقحًا!
فأحسّ إيريك وهو يستذكر نفسه قديمًا بالضجر، وبالمقابل ازداد تقديره لصبر المعلّم عليه.
لم يقل الرجل سوى كلمة واحدة…
كلمة واحدة سلبت قلبه:
“فارس.”
عينا المعلّم الذهبيتان اللامعتان ما زالتا ماثلتين في ذاكرته.
“أنا فارس.”
وهكذا كان أوّل لقاء بينهما.
—
طقطق، طقطق―
تعالت صرخات الحطب في الموقد.
أدار إيريك الحطب بعصًا معدنية، ثم ارتسمت على وجهه ابتسامة وادعة.
‘كان حقًّا رجلًا عجيبًا.’
ومع استحضار ذكرياته مع المعلّم، تبيّن له كم كانت غرابته عظيمة.
أولًا، هويته… فما يزال إيريك حتى اليوم لا يعلم ما الذي كان يفعله في حياته.
ذلك الرجل لم يختلط يومًا بأحد من أهل القرية، بل عاش على سفح الجبل الخطِر، مكتفيًا بالصيد ليواصل حياته.
ولمّا سأله يومًا: “لماذا لا تذهب إلى القرية؟”
كان جوابه: “أنا لا أتعامل إلا مع البشر.”
لكن ذلك لم يكن أغرب ما فيه.
‘والتدرّب معه… كان غريبًا بدوره.’
كان يصف نفسه بأنه فارس، وكان حقًّا ذا باعٍ عميق في فنون السيف، غير أن أسلوب تدريبه ـ كما يراه إيريك الآن ـ كان غريبًا للغاية.
فبعد أن جاب إيريك ساحات القتال، أدرك أن الفارس يحتاج قبل كل شيء إلى جسدٍ قوي ومَنا مصقول ومنضبط.
ولهذا كان لزامًا التمرين البدني الصارم، ثم التهذيب الروحي للتحكّم في المانا.
لكن تدريب المعلّم كان مغايرًا تمامًا.
“افتح عالَم السيف.”
لم يكن يقول أكثر من هذه العبارة، ثم يكتفي بتكرار المبارزات.
بل إن كلمة “مبارزة” تكاد تكون مضحكة.
فما فعله حقًا كان وضع إيريك باستمرار في مواجهة الموت.
“انهض. الإنسان لا يموت بتلك السهولة.”
لم يكن يكفّ عن ترديد هذه الجملة وهو يلوّح بسيفٍ قاطع حادّ.
صحيح أنه علّمه فنونًا لاستعمال المانا، غير أنّها كانت بعيدة كل البعد عن أساليب التهذيب الروحي المعروفة.
حتى اليوم لا يعرف إيريك اسم ذلك الأسلوب، ويكتفي أن يسمّيه ـ كما سمّاه المعلّم ـ “عالم السيف”.
والأغرب من ذلك أنّ هذا التدريب قد أثمر بالفعل.
سيفٌ هجوميّ لا يعرف الدفاع، وفنون مانا عجيبة تستمد قوتها كلما تعاظم القتل المتدفّق من صاحبها.
لم يستطع إيريك إنكار أن بلوغه مرتبة السبعة الأقوياء في القارة وهو في التاسعة عشرة كان بفضل تلك الأمور بدرجة كبيرة.
وبينما يتأمل، خطرت له فكرة.
‘هل لا يزال حيًّا؟’
فقد غادر المعلّم هذا الكوخ يوم بلغ إيريك الثانية عشرة، مكتفيًا بعبارة: “آن أوان الرحيل.”
ومنذئذٍ لم يعرف له أثرًا.
كان رجلًا قويًّا على نحوٍ يصعب تخيّل موته بسيف عدو، لكن في النهاية… كان شيخًا عجوزًا يوم فارقه.
فهل مات من الشيخوخة؟
‘همم… لا، لا أظن ذلك.’
لم يستطع إيريك، مهما تخيّل، أن يرى ذلك الرجل وهو يذوي ويُقهر بالعجز.
فابتسم بمرارة عند هذا الخاطر.
وفجأة، ارتجف جسده.
رفع رأسه بحدة.
واتجهت عيناه نحو جهة القرية.
لقد التقطت شبكة المانا التي نشرها هناك أثرًا غريبًا.
“اللعنة…!”
هبّ إيريك واقفًا.
كان ذلك أثر كائن يغلّفه مانا قوي، من مستوى ذئب الشفرات.
‘ليس واحدًا!’
بل جماعة.
خمسة ذئاب.
اصطفّت في تشكيلٍ دائري يحاصر من في الوسط…
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات