وكان ردّ إلّيك كما سبق، بوجهٍ مشرق وكأنه يقول أمراً بديهياً:
“هل ثمة مشكلة؟ من جهتنا، أفضل مشترٍ هو الإمبراطورية. أم أن أرمين تستطيع أن تطرح نفس الشروط؟”
لم يكن ذلك ممكناً.
فأرمين، مهما قيل، لم تملك ميزانية تضاهي الإمبراطورية.
ولماذا كانت الإمبراطورية تُسمى إمبراطورية؟ لأنها، حتى بعيداً عن اتساع أراضيها، تمتلك قوة وثروة تضاعف ما لدى أي دولة أخرى.
وبالنهاية، لم يكن بوسع ممثل أرمين إلا أن يقول:
“لكن، لكن هذا سيُدمر السوق! إنه سابقة سيئة! أن يتحمل المشترون تكاليف النقل، فهذا على المدى الطويل سيضر حتى بويبين نفسها، ألا تفهم؟!”
كان في كلامه احتمال قائم.
لكن الجميع هنا أدرك أن حجته مليئة بالثغرات.
فتدخل فولو قائلاً:
“هه! مضحك أن تقلق على انهيار السوق بسبب صفقة واحدة في هذا المكان. التنافس على استيراد القمح ينتهي هنا أصلاً. ثم إننا في زمن حرب. هذا ظرف استثنائي جعل الإمبراطورية تحسم قرارها. فلنجرب السنة القادمة! من سيشتري قمح هذه الإقطاعية حينها؟”
“ألا تفكر أن الحرب ستستمر حتى العام المقبل؟!”
“وهل تستطيع أن تجزم أن الجبهة ستظل راكدة حتى ذلك الحين؟”
“ذلك…!”
لم يكن يملك جواباً.
فالحرب بلغت ذروتها مع سقوط تشيبور، وكل من يفهم أوضاع المعارك كان يعلم.
في أقصى تقدير نصف عام، ونصف الدول المشاركة في الحرب الحالية ستزول.
“هل انتهينا؟”
سأل إلّيك، بينما كان ممثل أرمين لا يقدر سوى على الارتجاف.
شيء ما انكسر داخله.
وفور أن خطرت الفكرة في ذهنه، التفت نحو تيريا:
“سيدتي! ما رأيك؟ أترين هذه الصفقة صائبة؟!”
لقد قال ذلك الصبي الأرعن بنفسه: إن السيدة هي صاحبة القرار في هذه الإقطاعية.
إذن لم يبقَ له سوى أن يتشبث بها.
لكن…
“إن كان هذا هو قرار ربّ الإقطاعية، فواجبي أن أتبعه.”
قالت ذلك وهي مغمضة العينين.
اتسعت عينا ممثل أرمين حتى احمرّت عيناه وتورّدت وجنتاه، والعروق تنتفخ في بياض عينيه من شدّة الانفعال.
“هاه، يبدو أن كل شيء انتهى منذ أن وصلنا. كنت آمل أن أستمتع قليلاً بأجواء هذه القرية الريفية.”
قال فولو ساخراً.
وردّ إلّيك بالسخرية نفسها:
“على أي حال، لم يبقَ وقت قبل أن تتوقف القطارات. لِمَ لا تبقَون الليلة هنا؟”
“أشكرك على كرمك، لكن كجندي في بلدٍ يخوض الحرب لا أستطيع أن أبحث عن راحتي الخاصة. سأغادر بالقطار الأخير.”
كانت الكلمات تتبادل بينهم بسهولة مقيتة.
وكان ممثل أرمين يعرف أنه لا ينبغي أن تنتهي الأمور هكذا… لكن لم يبقَ لديه ورقة يلعبها.
حتى ممثل ديشا أبدى ملامح الاستسلام وأيّد ضمناً ما قيل.
“أمم، يبدو أن معلوماتنا كانت ناقصة. هذه المرة هزيمتنا. لكن الطعام كان شهياً. سنغادر اليوم أيضاً.”
“ماذا تقول!”
“كفى يا أرمين.”
ارتجف ممثل أرمين.
كانت ملامح ممثل ديشا تنضح بالقسوة.
“لا داعي للهيجان. ديشا هي مملكة الفرسان. نحن نُعلِّم أن احترام الشرف والقبول بالهزيمة جزء من سلوك الجندي الحق.”
“أنا… أنا…”
“تذكر. أننا نواجه بعضنا بلا أن نسحب سيوفنا الآن… لكن هذه ستكون المرة الأخيرة.”
وكان كلامه صائباً حقاً.
فمع أن جبهات أرمين وديشا متباعدة الآن، إلا أن الحرب حين تتصاعد، لا مفر من أن يلتقوا وجهاً لوجه بالسيوف.
ورغم تلك الظروف، لم يقدم أيّ من الرجلين على قطع عنق الآخر لسببٍ واحد:
فهذا بلد أجنبي، ولا يليق بممثلين لدولهم أن يثيروا الفوضى فيه.
“إذن، يبدو أن الأمر قد حُسم.”
ومع انحدار الموقف إلى ما لا يمكن السيطرة عليه، لم يكن في يد ممثل أرمين شيء يفعله.
لم يستطع إلا أن يصرخ في داخله.
لقد كان خطأً فادحاً.
مثل هذه الصفقة الأحادية الجانب لم تكن مجرد خطأ، بل خطأ جسيم، ومع ذلك لم تُمنح له حتى فرصة التصحيح.
‘مستحيل…!’
لو بقي يتوسّل بين ممثلي الدولتين الآخرين، المتفقين ضمناً على الرحيل حالاً، لكان ذلك أمراً مشيناً.
بل يتجاوز حدود العار ليغدو إساءة مباشرة.
وممثل أرمين، بصفته ممثلاً لدولته، لم يكن ليستطيع أن يتصرف على هذا النحو.
فانحنى برأسه عميقاً.
كانت هزيمة كاملة.
—
بينما كان يراقب ظهور المندوبين الثلاثة المنصرفين، أطلق إلّيك زفرة طويلة.
‘لولا خوفي على تيريا، لقطعت عنق ذلك الهيكل العظمي البشري.’
كان مؤخرة رأس الرجل النحيل كالعصا يثير غيظه بشدة.
لكنه لو استسلم لذلك الشعور، فلن يورّط سوى تيريا.
لذا لجأ إلى الحيلة:
استعمل فولو ليقلب اتجاه الصفقة، ثم استخدم ممثل ديشا ليجعل ذلك الرأي تياراً جارفا.
وبالطبع، كان فولو من تولى التنفيذ.
صحيح أن هذه المناورة كلّفته إرسال عُشر القمح إلى ديشا… لكن على مستوى إقطاعية بورتمن لم يكن لذلك أثر يُذكر.
فالجهة التي ستتحمل تكاليف النقل خارجياً هي الإمبراطورية نفسها.
“سيدي.”
قالت تيريا فجأة.
“هل ما جرى… كان من تدبيرك؟”
ارتجّت عينا إلّيك بعنف.
“هـ… هم؟”
لم يفهم لِمَ عاد السهم فجأة نحو صدره، فأخذه الارتباك.
خفضت تيريا نظرها وأجابت:
“أجل… هكذا هو الأمر إذن.”
كان في كلامها نبرة من يعرف الجواب سلفاً.
شعر إلّيك وكأن قلبه سقط إلى القاع.
“مـ… ماذا تعنين؟ أنا لم….”
“لم أتوقع أن تكون لك صلة بالإمبراطورية.”
‘هل كانت تتنصّت على حديثي مع فولو؟’
شعور بالخطر التف حول جسده.
“ألعلّك خلال تجوالك أقمت صلة بأحد شخصيات الإمبراطورية؟ فليس ثمة تفسير آخر لهذه المودة منهم.”
“آه…!”
“ممثل أرمين كان في ارتباك فلم ينتبه، لكنني لمحت فيكما أثر تواطؤ. وإن كنت مخطئة فأعتذر…”
“صـ… صحيح! لقد التقيت في زيارتي للإمبراطورية بأحد النبلاء هناك، وقويت بيننا صلة!”
شعر عرقاً بارداً ينساب على ظهره.
يا لحسن الحظ! لقد وفّرت عليه عناء اختراع ذريعة.
وعندها قفز إلى ذهنه قول البيرت غراهام:
‘الذين يثقون بذكائهم ينخدعون أحياناً باستنتاجاتهم. فإذا واجهوا موقفاً مباغتاً أو عصياً على الفهم، حاولوا تفسيره بما لديهم من خيوط، فيحوكون منها سبباً ونتيجة. وغالباً ما تكون تلك الاستنتاجات خاطئة. أنا نفسي وقعت في مثل ذلك.’
هكذا كانت براعة تيريا سبباً في سقوطها في فخ الاستنتاج.
ومهما يكن، فقد كان هذا في صالح إلّيك.
“لعلني أقدّم لك تعريفاً في المرة القادمة.”
“مم، نعم. فلندخل إلى الداخل الآن.”
“كما تشائين.”
استدارت تيريا أولاً نحو القصر، فتنفّس إلّيك الصعداء.
‘لقد انتهى الأمر.’
نجا من خطر انكشاف هويته.
ولن يمر بمثل هذا الموقف ثانيةً في المستقبل القريب.
وما إن انزاح التوتر حتى شعر بتراخي جسده.
ربّت على ركبته المؤلمة أكثر من المعتاد اليوم، ثم تبعها إلى داخل القصر.
—
أما فولو فقد عاد إلى عاصمة إمبراطورية ماهير.
مدينة الحديد والبخار، والأرض العظيمة التي يليق أن تُدعى قلب القارة.
أمام مهابة تلك القلعة الهائلة، بدت مناظر ويبين أكثر ريفية وبدائية.
غرق فولو لحظة في تلك الأفكار، ثم سرعان ما أخرج من جيبه ورقة صغيرة.
‘هل سينجح هذا حقاً؟’
ابتلع ريقه الجاف.
كانت الورقة رسالة كُتبت على عجل فوق قصاصة مزّقتها كاشا.
والمكان الذي ستُسلّم إليه لم يكن سوى قصر آل غراهام، والمستلم هو البيرت غراهام نفسه.
بشيء من التوجس وصل فولو إلى قصر آل غراهام.
“بأي شأن جئتَ تزورنا؟”
“أنا فولو، الابن الثالث لكونت نوتيم. جئت لأقابل اللورد البيرت.”
“هل لك موعد مسبق؟”
“في الحقيقة لا، غير أن الأمر… عاجل.”
‘يبدو أن الأمر لن يُقبل.’
فكر هكذا، غير أن المجيب أردف:
“هُمم، تفضل بالمتابعة. ليس لديه ارتباطات اليوم، فسأبلغه على أية حال.”
تفاجأ فولو من سهولة اللقاء.
أليس البيرت غراهام، وإن كان ولداً غير شرعي، واحداً من أعظم النوابغ في العاصمة، حتى إنه يُعدّ من الثلاثة الأوائل بينهم؟
ومع ذلك، كان لقاؤه يُحسم بطلب عابر كهذا.
حتى بدا له أن كل ما يجري ليس سوى مزحة رتّبها كاشا بالتواطؤ مع البيرت غراهام.
ثم جاءه الصوت من غرفة الاستقبال المغلقة:
“زائر؟ ومن آل نوتيم أيضاً؟”
“هُمم… لا بأس، مناسب. كنت أشعر بالملل، وهذا يسلّيني. أدخلوه.”
كان الصوت الرقيق صافياً كما كان قبل خمس سنوات.
وانقبض جسد فولو فجأة حين تذكّر ما وقع في حفلة ذلك العام.
كريك―
انفتح الباب.
“آه، سيد نوتيم الشاب… أو بالأحرى، حضرة الممّون.”
خلف الباب جلس رجل على كرسي متحرك.
وبسبب أشعة الشمس المنهمرة من النافذة خلفه، لم تتضح ملامحه بدقة.
لم يرَ فولو سوى خصلات الشعر البلاتيني الباهرة، والعينين الذهبيتين كأنهما صُبّ فيهما المعدن المذاب، إضافة إلى هيئة محايدة تثير الارتباك.
“ما الذي جاء بك إلى هنا؟”
ابتلع فولو ريقه مرة أخرى.
“مر زمن طويل يا سيدي. جئت لا لشيء سوى لأسلّم لك رسالة أوكِل إليّ حملها.”
وهكذا وصلت رسالة كاشا إلى البيرت غراهام.
وبينما كان فولو يترقب انتهاء الأمر ليعود سريعاً، لم يستوعب الكثير من التفاصيل.
كل ما التقطه وسط توتره هو ضحكة مجلجلة:
“كهاهاها!”
“إذن هذا الرفيق… بينما كنت أتساءل أين اختفى، إذا به يستمتع بالراحة في هذا الركن القصي!”
حين رفع فولو رأسه، رأى ابتسامة شقية، طفولية الملامح، ترتسم على شفتي ذلك الرجل الجميل الغامض.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات