ضيوف (5)
حتى الآن، مرتان فقط في حياته التقى إيريك بأشخاص يختلفون عنه جوهريًا في إنسانيتهم.
الأول كان والده “هوفن فورتمان”، والثاني كان صديقه “إلبيرت جراهام”.
والده كان رجلاً باردًا يضحي بكل شيء من أجل المصلحة.
أما “إلبيرت جراهام” فكان على النقيض – شخصًا استثنائيًا يضحي بنفسه من أجل مبادئه.
عندما واجههما، شعر بغرابة ممزوجة بقليل من التوق.
اليوم، شعر بهذا الإحساس مرة ثالثة.
“لا يمكنني الإضرار بالإقطاعية بسبب شعوري بالإهانة. على الأقل، لا ينبغي للقائد فعل ذلك.”
“تيريا ويبين” كانت الشخص الثالث.
كانت امرأة جمعت بين واقعية والده ومثالية صديقه، مما جعلها مألوفة وغير قابلة للفهم في نفس الوقت.
كانت المرأة التي جعلته يدرك على مستوى الغريزة أنه لن يستطيع أن يصبح مثلها أبدًا.
ولهذا، شعر تجاهها بالاحترام.
على عكسه الذي تدحرج في الوحل، كانت نبيلة لدرجة جعلته يتبعها كما يتبع الضوء في الكهف.
لو شبهناها، لكانت كقطعة زجاجية منحوتة.
جميلة لدرجة تجعلك تتساءل: هل ستنكسر؟ هل ستتآكل بفعل العواصف؟
صرير
بينما كان يفكر، خدش الطاولة بخنجره غير الحاد كعادته.
حدق إيريك في الخدوش على الطاولة وهو يسترجع كلماتها.
كلما فعل ذلك، ازداد إحساسه قوة:
يريد مساعدتها.
في أساس هذا الشعور كان هناك تعاطف معها التي تحملت كل شيء بمفردها، أو ربما كره لذاته لأنه جعلها هكذا.
بغض النظر عن السبب، المهم أن مشاعر مختلفة بدأت تنمو بداخله، مختلفة عن تلك التي كانت تدفعه للرحيل.
وببساطة، فكر إيريك:
بدلاً من تحليل أسباب هذه المشاعر، فكر في كيفية التعامل معها.
وهكذا، جاءت الفكرة: “كيف يمكنني مساعدتها؟”
لم يكن إيريك رجلاً يستطيع رسم الصورة الكبيرة.
كل ما يعرفه هو سحق ما أمامه تمامًا حتى لا يتمكن من النهوض مرة أخرى.
بما أنه لا يستطيع أن يصبح مثلها، فكان الحل واضحًا.
كما في قضية عائلة ويبين السابقة، قرر استخدام العنف الأقرب من القانون.
“سيد بوللو، هل يمكنني الدخول؟”
“آه!”
أصوات ارتباك
من داخل الغرفة المخصصة له، سمع ضوضاء.
بعد لحظات، فتح الباب.
“اددخل!”
عرف إيريك سبب الارتعاش في صوته.
عند فتح الباب، ظهر رجل ممتلئ الجسم جالسًا على الكرسي.
كان من الواضح أنه مرتعب.
“أتيت لأحادثك.”
قال إيريك وهو يغلق الباب.
“أو ربما نتبادل التحيات أولاً، بما أننا نعرف بعضنا؟”
كان متأكدًا أن بوللو تعرف عليه، وهذا ليس بدون سبب.
طوال العشاء، كان بوللو يراقبه بحذر، ويتدخل دائمًا في اللحظات التي كان فيها إيريك على وشك الانفجار.
سلوكه الذي أظهر خوفًا واضحًا من العواقب لم يكن ليخطئه أحد.
كما توقع، هز بوللو رأسه بجنون.
ثم…
طق
وقع على ركبتيه.
“أنا آسف لما حدث ذلك اليوم! اليوم كان حادثًا! لم أكن أعلم أنك هنا ولم أقصد إزعاجك! لقد كان حادثًا!”
“ششش.”
وضع إيريك إصبعه على شفتيه، فزادت حدة الفواق الذي أصاب بوللو.
“الضوضاء غير مرغوب فيها… لأي منا.”
طق.. طق..
بينما كان إيريك يتكئ على عصاه، توجه إلى الكرسي الذي كان يجلس عليه بوللو للتو وجلس.
نظر إليه بوللو وهو لا يزال جاثيًا على ركبتيه.
كان هذا المشهد متعمدًا.
فالإحساس بالهيمنة يأتي من مستوى النظر.
على الرغم من شعوره بالأسف لبوللو الذي كان مرتعبًا إلى هذا الحد، إلا أن إيريك كان ينوي استغلال خوفه المكتسب.
—–
ارتعد بوللو كالورقة في مهب الريح وهو ينحني برأسه.
في النهاية، حدث ما كان يخشاه.
النظرات من فوق كانت لاذعة. وصوته كان حادًا لدرجة أنه ذكّره بحفل ذلك المساء قبل خمس سنوات.
“لم آتِ إلى هنا بسبب ضغينة شخصية ضدك. بصراحة، أنا أيضًا مسؤول عن سوء تصرفي ذلك اليوم.”
“ه-هذا…”
“بالطبع ليس لدي نية للاعتذار. ليس لدي سبب ليغفر لك إذلالي.”
تصلب بوللو في مكانه.
لكن ما جاء بعد ذلك كان مفاجئًا:
“لذا دعونا ننسى ضغائننا ونفكر في الحاضر. لنحاول جعل اليوم مفيدًا للطرفين.”
رفع بوللو رأسه ببطء.
أضاف إيريك بوجه بارد كالثلج:
“كما تعلم، أنا لست صبورًا. لا أتحمل الإهانة الموجهة إليّ جيدًا، ولا تلك الموجهة لما هو ملكي. اليوم كان مثالًا على ذلك.”
“ن-نعم…”
“سلوك مسؤول إمدادات أرمن لم يكن مقبولًا. لكنني لا أستطيع التصرف مباشرة. إذا كشفت هويتي، فسوف يختل هدوء هذه الأرض، أليس كذلك؟”
كان محقًا.
هذه هي قيمة اسم “شبح السيف كاشا”.
كاشا هو الاسم الذي يمكنه تغيير مسار حرب الغرب الحالية.
مجرد وجوده كان كافياً لوقف سقوط الدول وتغيير موازين القوى في ساحة المعركة – فهو بمثابة سلاح استراتيجي.
ماذا سيحدث إذا عُرف أنه هنا؟
ستأتي قوى تسعى لتجنيده، وآخرون يحملون ضغينة ضده.
الأولون سيكونون متعجرفين، والآخرون وحشيون.
ستستخدم القوى التي تسعى لتجنيده نفوذها السياسي للضغط على ويبين.
أما أولئك الذين يريدون الانتقام، فسوف يهاجمون بلا اكتراث بحياتهم، محاولين إيذاء كل ما يخصه.
وبوللو يعرف أن كاشا ليس من النوع الذي يتحمل مثل هذه الأمور.
من الواضح أن هذه الأرض ستصبح بحرًا من الدماء بمجرد الكشف عن هوية كاشا.
ستنمو محاصيل القمح في العام القادم مغذاة بالدماء.
“لا أريد أن يزعجوني أثناء راحتي. أريد أن أمضي وقتًا هادئًا، وهذا يجعل الأمر صعبًا.”
في غضون ذلك، أصبح من المؤكد أنه لم يغادر ساحة المعركة تمامًا.
من الواضح أنه كان في إجازة بسبب إصابته، كما يتضح من عصاه.
“لذا دعونا نتفق على هذا.”
مال إيريك بجسمه للأمام.
كلما اقترب، انكمش بوللو أكثر.
عندما رفع عينيه، رأى ابتسامة إيريك الباردة تنعكس في عينيه.
“يجب أن تساعدني. بالطبع ليس مجانًا. أقترح صفقة عادلة.”
مد يده.
“ألم تأتِ إلى هنا لشراء القمح؟ سأعطيك سعرًا معقولًا. في المقابل، استمع إلى طلبي.”
ارتجف جسد بوللو ارتعاشة خفيفة.
العرض الذي تلاه كان مقترحًا لا يضره بأي شكل.
—–
في قصر عائلة فورتمان ، كانت هناك غرفة استقبال مخصصة للضيوف الخارجيين.
من وجهة نظر إيريك، كانت هذه الغرفة الوحيدة في القصر المليئة بالزخارف الفاخرة،
أما بالنسبة لتيريا، فهي المكان الذي يعكس بشكل مناسب هيبة النبلاء.
هناك، جلس خمسة أشخاص اليوم:
زوجا فورتمان ومسؤولو الإمدادات الثلاثة من الغرب.
“لنبدأ الحديث عن الصفقة.”
قالت تيريا.
“كمية القمح المعروضة للبيع هي كما أبلغناكم مسبقًا. الحصاد هذا العام كان وفيرًا بشكل خاص. لدينا شرط واحد: هل يمكن الشراء بالجملة؟”
من وجهة نظر تيريا، كان البيع بالجملة هو الطريقة الأكثر ربحًا.
فإن تقسيم البيع على جهات مختلفة كان يعني متاعب لوجستية كبيرة.
<لوجستية تعني كل ما يتعلق بتنسيق وتنظيم الموارد، الأشخاص، المعدات، أو المعلومات، لضمان تنفيذ عملية أو خطة بكفاءة.>
رغم التطور الحاصل في العالم، إلا أن نقل القمح من هذه القرية النائية إلى الغرب ما زال يتطلب عربات.
أي أنه يجب التعاقد مع شركات نقل، مما يعني تكاليف شحن باهظة.
وهذه التكاليف كانت تزداد بشكل كبير عند البيع لجهات متعددة في مواقع مختلفة.
“إقطاعيتنا ليست غنية بما يكفي، لذا نرجو تفهمكم لهذا الخيار الضروري.”
بعد أن أنهت كلامها بمحاولة عدم الإساءة لمشاعر أي طرف،
تفحصت تيريا تعابير وجوه مسؤولي الإمدادات.
‘ديشا خارج المنافسة.’
بدا الارتباك واضحًا على وجهه بالفعل.
لا بد أنه أنفق الكثير بالفعل في الإقطاعيات السابقة.
لا حاجة حتى للنظر إليه.
حتى لو حاول المضي قدمًا في الصفقة، فستواجه عملية البيع صعوبات.
ثم التفتت إلى أرمن:
“أنتم تبخلون علينا كثيرًا!”
علت شفتيه ابتسامة بغيضة.
أخفقت تيريا في نفسها.
نظراته المثيرة للاشمئزاز ولهجته المتكلفة أثارتا غضبها.
هذا النوع من الرجال لم يكن نادرًا.
أخفقت مشاعرها أكثر في الأعماق.
‘على أي حال، لن أراه مرة أخرى.’
لم يكن هناك سبب للاستجابة لنظراته الشخصية.
الآن هو وقت إتمام الصفقة.
خاصة أنها هي من أخبرت إيريك بضرورة التحمل،
فكيف ستبدو إذا أظهرت تغيرًا في مشاعرها الآن؟
المسافة بينهما كانت تقل تدريجيًا.
لم تكن تيريا تريد أن تعيد توسيع هذه المسافة التي تجرأت على تقليصها.
حوّلت نظرها فورًا:
‘أما الإمبراطورية…’
لم تستطع فهم الموقف.
منذ ظهوره الأول، كان يبدو غير مرتاح،
والآن ازداد هذا الشعور.
بل كان هناك شيء مختلف.
في البداية بدا قلقًا، أما الآن فكأنه ينتظر شيئًا ما.
‘ما الذي يخطط له بالضبط؟’
في تلك اللحظة بالذات…
“أنا… أستطيع الشراء بالكامل. وسأضيف شرطًا إضافيًا.”
رفع بوللو، مسؤول إمدادات الإمبراطورية، يده.
“سنحل مشكلة تمويل النقل بأنفسنا.”
“مهلًا!”
صوت ارتطام
ضرب مسؤول إمدادات أرمن ذراع الكرسي بقبضته.
سخر منه مسؤول الإمبراطورية بـ”همف!”
“هل لديك مشكلة؟ أنا أشتريه بسعره العادل.”
“بالطبع لدي مشكلة! إذا فعلت ذلك، سعر القمح سوف…”
ما هذا الذي يحدث؟
سيطر الذهول على تيريا.
كان العرض الإمبراطوري غير منطقي إلى حد بعيد.
ففي زمن الحرب، رغم أهمية تأمين المؤن، إلا أن الأموال المطلوبة للمجهود الحربي ضخمة بدرجة فلكية.
أن تتحمل الإمبراطورية تكاليف نقل القمح من ويبين في أقصى الشرق إلى الإمبراطورية في الغرب؟
هذا ليس قرارًا يمكن لمسؤول إمدادات عادي اتخاذه.
لكن مسؤول الإمبراطورية بدو واثقًا جدًا.
“هل جاء بهذا الوعد من البداية؟”
لكن هذا مستبعد، فقد إتخذت قرار البيع بالجملة هذا الصباح فقط.
لا يمكن أن تكون القيادة الإمبراطورية قد علمت بهذا الخبر بعد.
المعلومات المتاحة غير كافية.
إذا كان هذا خداعًا لإقصاء المنافسين، فسيتسبب في مشاكل لاحقًا.
وإذا كان جادًا، فهذه مشكلة أخرى.
أن تنفق كل هذا المال فقط لشراء القمح؟
هذا خطأ لن يقع فيه حتى المبتدئون في الإدارة.
يجب افتراض أن لديهم مخططًا خفيًا يتجاوز مجرد شراء القمح.
“ما هو…”
ما هذا المخطط الخفي؟
في لحظة التفكير هذه…
“إذن يجب أن نبيع للإمبراطورية. أليس كذلك يا عزيزتي؟”
قال إيريك وهو يبتسم ابتسامة عريضة.
تجمد الجو في الغرفة.
التعليقات لهذا الفصل " 22"