كل إنسان يمرّ بمرحلة طيشٍ في شبابه، مرحلةٍ يجرّ فيها على نفسه المتاعب بتهوّرٍ وصِغَر عقل.
وفولو لم يكن استثناءً؛ فقد كان له ماضٍ مخزٍ، مخجل، بل ومرعب إلى حدّ أنه لم يكن يجرؤ حتى على استدعائه إلى ذاكرته.
كانت تلك الحادثة قبل خمس سنوات.
حينها كان ميزان القوى في القارّة قد تغيّر، فتحوّل “الستّة الكبار” إلى “السبعة الكبار”. أمّا فولو، فكان يومها لا يعرف من الدنيا سوى عاصمة الإمبراطورية، يظنّها الكون بأسره.
كان في قاعةٍ فاخرة، تحضنه الأضواء والشراب.
“آه، يالك من مفاجأة يا نوتيم!”
“أوه، بولد! أهذا لقاؤنا السنويّ من جديد؟”
“إنها وليمة العام، يا صديقي. إن لم نمرح الليلة، فمتى نمرح؟”
“هاها، صدقت!”
لقد كانت تلك الوليمة خاصّة جدًا، لا يحضرها سوى أبناء وبنات الأسر النبيلة من رتبة الكونت فما فوق. لقاءٌ سريّ، منغلق، لا يجرؤ العامة حتى على تخيّل ما يجري فيه.
تبادل للعلاقات، ولقاءات خفيّة، وحفلات ماجنة… هكذا كان الأمر في غالب الأحوال.
طبعًا لم يكن الجميع على تلك الشاكلة.
فقد كان هناك بعض “الشواذ” عن القاعدة: مثل نابغة آل غراهام، أو شوكة العرش في خاصرة القصر.
لكن فولو لم يكن من هؤلاء، بل كان يرى نفسه على صواب وهو يتصيّد شريكةً يسهر معها الليل حتى مطلعه.
وهناك، التقى لأول مرة بـ”شبح السيف كاشا”.
“ها هو قادم… نابغة آل غراهام.”
“ومن هذا الرجل الذي معه؟ أهناك من يعرفه؟”
“علمت أنه جاء بدعوة شخصية من غراهام. يقال إنه أجنبي.”
إلبيرت غراهام… بطل المعارك الذي لم يبلغ الحُلم حين رفع سيفه في ساحة القتال. أصيب بجراح لا تُشفى، حتى صار يجرّ جسده فوق كرسيٍّ متحرّك. اشتهر بلقب “نابغة آل غراهام”، رجل غامض الحضور، يثير الريبة حتى في مثل تلك الولائم.
وإلى جانبه… وقف رجل ذو طلعةٍ بهيّة.
وسيم، ملامحه صافية، لكن قسوته البادية على محيّاه، والعضلات البارزة من تحت سترته، أوحت للوهلة الأولى أنه فارسٌ من ميادين الدماء.
ذلك هو الانطباع الذي كوّنه فولو في لحظته الأولى.
قال ساخرًا وهو يرمقه:
“إنه مراهق لم يخرج بعد من نزقه. أعرف هذه النوعية جيدًا. يظنون أن بؤسهم ومآسيهم تجعلهم مميّزين، فيسيرون وكأنهم أبطال تراجيديا. انظروا كيف يتصنّع الجَو! كأنه مفتون بنفسه!”
فضحك رفيقه:
“هاهاها! يا لك من قاسٍ يا نوتيم!”
“أقول الحق، لا غير.”
“ربما… صدقت.”
لكن حين أعاد التفكير بعد سنوات، أدرك أن ما شعر به لم يكن سوى غيرة.
وربما شيء من الحذر أيضًا.
فمنذ اللحظة التي دخل فيها الرجل، خطف أنظار السيّدات اللواتي كان فولو قد وضع عينه عليهن.
ولم يكن فولو وحده في ذلك؛ كثير من الشبان الذين كانوا يطمحون للتودّد إلى غراهام، أو نازعهم الغضب لالتفات الفتيات إلى الغريب، باتوا يرمقونه بالريبة.
بالنسبة لشبابٍ غارقين في الشهوة، كان ذلك الرجل دخيلًا يهدّد نظامهم الاجتماعيّ نفسه.
ومع ذلك، بدا هو وغراهام وحدهما مطمئنين، تحيط بهما دائرة من الفتيات المتلهفات.
وفي تلك الأجواء المشحونة، همس أحد النبلاء ــ نجل آل بولد:
“أيها النوتيم، جئتُك بخبرٍ مذهل.”
“ما هو؟”
“ذلك الرجل… يقولون إنه مرتزق. رفيق سلاح لغراهام حين كان في الحرب.”
شهق فولو:
“…ليس من النبلاء إذن؟”
“بل قيل إنه بلا جنسية أصلًا.”
“هاااه…!”
وما كان شباب ذلك المجلس بحاجةٍ لأكثر من ذلك.
لقد وجدت غيرتهم المنفذ… وتحولت إلى عداءٍ فجّ.
لقد بدا وكأنّ نقطة ضعفٍ قد انكشفت أخيرًا في ذلك الغريب الذي لم يكن يبدو أنّ شيئًا قادرٌ على النيل منه.
وكان قلب الفتى الطامع لا يقاوم تلك الفكرة:
أن يكشف عيب ذلك الرجل، أن يُجبره على الركوع، أن يثبت تفوّقه عليه، ثم يقطف ثمار نصرٍ مُستحق.
تحرّك فولو بسرعة، يقود معه زمرةً من الشبان صوب الرجل المحاط بالوصيفات.
ابتسم ابتسامةً عريضة، وبسط ذراعيه مصطنعًا الودّ:
“أول مرة أرى وجهك أيها الغريب!”
ردّ الرجل بابتسامةٍ هادئة:
“أوه، يا نوتيم، سررت بلقائك.”
فولو التفت إلى البيرت غراهام الجالس قربه:
“يا لابن آل غراهام، هل أتشرف بمعرفة هذا الرفيق الذي بجانبك؟”
تردّد البيرت، وارتسمت على وجهه ابتسامةٌ حرجة.
وفولو ــ في غفلته وغروره ــ ظنّ ذلك ارتباكًا ناجمًا عن الضعف، بينما لم يكن سوى قلقٍ على طباع كاشا النارية.
لكن كيف له أن يعرف؟ لقد كان يرى في كل تردّدٍ ثغرةً لينهشها.
“من أي بيتٍ شريف جئتَ أيها السيد؟”
فأجابه الرجل ببرود:
“لا بيت لي.”
“هم؟ ماذا تقول؟”
“لا أنتمي إلى أسرة. أنا مجرد مرتزق جال في ساحات الحرب.”
كان صوته يشي بضيقٍ ظاهر.
لكن فولو، وقد استبدّ به النشوة، أحسّ بلذّة جارفة تسري في جسده.
“هاه… مرتزق في وليمةٍ لا يحضرها إلا أبناء النبلاء؟ هذا أمر عجيب…”
وتدخّل بعض الشبان يؤازرونه، مما زاد ثقته بنفسه.
وربما لهذا زلّ لسانه بالعبارة التي لم يكن يجب أن تُقال:
“على مهلكم يا رفاق… قد يكون بلا أبوين. مرتزق، أليس كذلك؟ أو لعلّه…”
ثم قهقه بخبث:
“أو لعلّه ابنٌ عاق فرّ من والديه العاجزين!”
ومن بعدها… ضاع كل شيء في فوضى الذاكرة.
أو لعلّه لم يشأ أن يتذكّر.
كل ما بقي محفورًا في ذهنه هو ذلك الصوت:
ــــــ *تشقق!*
صوت خشبٍ يُشق نصفين.
ثم الألم الذي اجتاح عنقه، كأن شيئًا اقتُلِع منه من الجذور.
“كيااااا!”
صرخات السيدات دوّت في القاعة.
شهقات الذعر من الشبان.
أما فولو، فقد غشيه الذهول.
“ك… ككك…!”
هوى أرضًا لا يدري كيف، يتخبّط بيديه بحثًا عن سندٍ لا وجود له.
لم يعلم أن ما تلقّاه لم يكن سيفًا، بل صفعة. لم يدرك إلا بعد انتهاء الحفل.
فهل يُعقل أن تُصدر راحة اليد صوتًا يشقّ الأجواء كالبرق؟
غير أنّ كلماته بقيت راسخة، تطعن قلب فولو كلما استعاد المشهد:
“ما أخفّ لسانك. خسارة… لو كنّا في ساحة القتال لانتزعتُ رأسك بيدي.”
ذلك الصوت البارد، المتسلّل، ظلّ يطارد سمعه حتى بعد خمس سنوات.
وعندما عرف أن اسمه “كاشا”، وأنه هو نفسه الوحش الذي أضيف اسمه حديثًا إلى لائحة جبابرة القارة، كاد قلبه يتوقف.
ظلّ شهرًا كاملًا حبيس غرفته، يتوجّس أن يظهر كاشا فجأة ليقتله.
وفي النهاية أقنع نفسه بالنسيان. أقنعها أنّه لن يلتقيه أبدًا.
لكنه لم ينجُ حقًا.
ظلّ ظلّه جاثمًا على صدره، حتى قاده خوفه إلى اختيار مسارٍ لا بطوليّة فيه: أن يعمل كضابط تموين، بعيدًا عن ساحة المجد والدماء.
‘وكنتُ أحسب أن كل ذلك انتهى…!’
أنهى فولو استرجاع ذكرياته ثم ارتعش جسده بينما كان يرمق ظهر كاشا… أو إيريك فورتمان، الجالس في المقصورة الأمامية للعربة.
ظنّ أنّه إن أصبح ضابطًا سيُبعده ذلك عن خطوط الجبهة، ولن يلتقِ به مجدّدًا.
فلماذا إذن يظهر الآن كالسيد الطائش العائد إلى قصر باروني ريفي وحقير؟
“آه، رائحة السماد.”
“ما باليد حيلة؛ إنه ريف.”
‘يا هؤلاء المجانين!’
تذمّر ضباط الإمداد من أرمن وديشا بوقاحة، غير مدركين للموضوع.
شعر فولو بقشعريرة تسري في عموده الفقري.
فكّر للحظة أن عليه أن يُنقذهم — أن يَسحبهم من فم ذلك الوحش المرعب.
تعلّق به إحساس إنساني؛ لم يتبدّد شعور أن عليهم النجاة.
لكن صوت ضحكٍ خافتٍ تلاشى في الهواء، ومعه انكسر شيءٌ في صدره.
انخفض رأس فولو، وكسحت عرقات باردة جبينه.
“هل أنت بخير، السير فولو؟”
سأل ضابط أرمن.
هزّ فولو رأسه بجنون.
“أب- أب- أنا بخيـر!”
لم يكن مسموحًا له أن يَبدو غير بخير؛ فربما لم يتعرّف عليه ذلك الرجل بعد، وحُقًّا بقيتَ هناك فرصة.
‘أرجوك…’ تضرّع في صدره.
تمنى أن ينسى الجميع أمره.
لكنّ العالم لا يستجيب للدعاء وحده.
إيريك يعرفه — يعرفه جيدًا، لكنه على الأقل لم يكن الآن في حالة الحدة ذاتها كما قبل خمس سنوات.
بل على العكس تمامًا.
—
‘تبا، لماذا هو هنا؟’
جلس إيريك في المقصورة الأمامية للعربة يتأمل المنظر، وكان قلبه يخفق بجنون.
كيف اختار القدر خصمًا قديمًا من بين كل أهل القارة وأرسله إلى هذا الركن الريفي النائي؟
روّاد القلق والتسرع تسلّلوا إلى صدره.
ماذا لو كشف أمره؟ ماذا لو عاد فولو إلى جزيرة القانون وأبلغ عن مآثر شبح السيف كاشا؟
الأفكار لم تغادره. فتساءل وهو يغمض عينيه بشدة:
‘أين تركت السيف؟’
في هذا الموقف، لا سبيل سوى الابتزاز.
وإن لم تنجح هذه الخطة… فربما لا بد من محو الأدلة.
لم يدفن إنسانًا منذ زمنٍ طويل.
قبضت يد إيريك بقوة، وإرادته تشدّ العزم.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 20"