العودة (2)
كان جنون ساحة المعركة قاسياً بلا رحمة.
مواجهة جثث باردة لأشخاص تناولت معهم الطعام قبل ساعات،
تحمّل وابل من السيوف والسهام من كل اتجاه،
والقتال لأيام بلا نوم حتى أصبح كل ذلك أمراً عادياً…
“الوهم بأن الموت سيتجاوزك في ساحة المعركة يتبدد في أول معركة.”
ذلك القلق الذي يخيم عليك بأنك قد تموت في أي لحظة –
سيظل رفيقك الأبدي طالما بقيت في الحرب…
بل وحتى بعد مغادرتها.
عشر سنوات من هذا الجحيم.
لا يمكن لعقل إيريك أن يبقى سليماً بعد كل هذا.
خاصةً عندما كان يرفع سيفه طلباً للموت،
فكان يتدمر أسرع بمرات من أولئك الذين يقاتلون من أجل البقاء.
لكن هناك سبب واحد جعله يبقى حياً:
قوة جسده التي تغلبت على تآكل روحه.
“وحش لا يتوقف عن القتل حتى يخلو مجال بصره من أي كائن حي.”
“تلك العيون الحمراء التي لا يجب أن تواجهها أبداً في المعركة.”
كانت الأوصاف التي تُطلق على “شبح السيف كاشا” شريرة للغاية،
وخشيته بين الجنود كانت أقرب إلى نوع من التقديس كأسطورة.
ولكن في الحقيقة،
كانت أسطورته مجرد مزيج من القوة المتهورة…
وحظ أعمى.
“على مدى عشرين عاماً من حرب السيطرة على غرب القارة…”
“كان الجميع يعتقدون أن شبح السيف كاشا شيطان لن يختفي حتى تنتهي الحرب.”
لكن بالنسبة لإيريك، كل هذا كان مجرد خرافة سخيفة.
كررررش—!
حتى الأقوياء لديهم نقطة ضعف.
وإيريك لم يكن استثناءً.
“إصابة خطيرة.”
في وسط ساحة معركة حدودية،
وجد نفسه وحيداً أمام ألف جندي.
رغم أنه انتصر في النهاية كالعادة،
إلا أن ركبته اليمنى قد تقطعت خلال القتال.
لم تكن الإصابة مميتة،
ولكنها كانت كافية لإنهاء حياته القتالية—
بل وحتى جعل المشي عادياً مستحيلاً لفترة طويلة.
“جوهر المرتزقة أنهم قوة قابلة للاستبدال.”
صحيح أن مهارات إيريك كانت فريدة،
ولكن الآن، وهو عاجز…
أصبح مجرد مرتزق عادي.
من سيوظف مقاتلاً لا يستطيع القتال؟
ولهذا السبب،
غادر إيريك خطوط المواجهة الأمامية لأول مرة منذ أربع سنوات.
رغم أن المنطقة الخلفية كانت لا تزال منطقة حرب،
إلا أنها كانت هادئة بدرجة تسمح بقراءة الجريدة في المقهى.
لأول مرة منذ أربع سنوات من الجنون بالقتال…
التقط إيريك شيئاً لم يمسكه منذ زمن:
كلمات ليست شفرات عسكرية.
“إنها جريدة من الشرق. هل أنت من هناك؟”
تجاهل إيريك كلام النادل.
ليس لأنه اعتبره غير جدير بالرد، بل لأنه كان منغمساً تماماً في قراءة الجريدة.
كيف لا؟
الشرق كان موطنه الذي ولد وترعرع فيه.
بعد كل هذه السنوات، ما زال الحنين يطارده.
رغم الفراق المرير، تبقى هناك مشاهد تلاحقه.
حقول القمح الذهبية في “ويبين”، وذكريات الطفولة التي عاشها هناك.
كلما اقترب الإنسان من الموت، زاد تمسكه بالذكريات.
وإيريك، الذي عاش على حافة الموت دائماً، كان يتخبط في هلوسات تلك الأيام.
[حفل الشاي للأميرة إيكليزيا]
نشرت الجريدة صورة للأميرة وهي تبتسم، محاطة بنبيلات يُزينّ حضرتها.
تحتها كانت مقابلة قصيرة عن الحفل.
‘هل هناك أخبار عن ويبين؟’
بينما كان يقلب الصفحات، ضحك إيريك ضحكة مريرة.
مستحيل.
ويبين ليست سوى حقول قمح بلا أهمية حتى في مملكة “فيردن” الشرقية.
هز رأسه مستنكراً تفكيره السخيف.
وفي اللحظة التي قلب فيها الصفحة…
[الذكرى السنوية الأولى لوفاة “هوفين فورتمان”]
تجلّد إيريك في مكانه.
اتسعت عيناه وكادتا تتمزقان، وتوقفت أنفاسه كما لو أن أحداً خنقه.
توقفت عقله للحظة، محاولاً استيعاب هذه المعلومة المفاجئة.
هناك، في زاوية صغيرة من الجريدة، كانت صورة وجه لن ينساه أبداً.
رغم أنها بالأبيض والأسود، ورغم أن التجاعيد كانت أكثر مما يتذكر…
لكنه عرفه فوراً.
والده.
الرجل البارد الذي كرهه إلى أقصى حد…
كان هناك.
بطريقة لم يتوقعها أبداً.
—
الندم الذي شعر به كان قديماً ومتأصلاً.
عندما هرب لأول مرة، كان إيريك لا يزال يحمل ذرة أمل بأن والده سيبحث عنه.
بغض النظر عن تغيير اسمه أو عبوره الحدود، فثروة والده كانت كافية لتجاوز كل هذه العقبات.
الآن يعرف كم كان ذلك التفكير طفولياً.
لكنه كان صغيراً جداً آنذاك.
وقد تشوهت عقليته بسبب أجواء ساحة المعركة، فكان من الطبيعي أن تنحرف مشاعره.
بغض النظر، بسبب عناده أو أي شعور آخر…
مرت السنوات وهو يصارع، حتى أصبح الخجل من نفسه يمنعه من العودة إلى “ويبين”.
حتى بعد أن تصلبت مشاعره تجاه والده، ظل يؤجل العودة، قائلاً لنفسه: “سأعود يوماً ما”.
والآن…
غمرته موجة من الندم والغضب، لكنها بردت بسرعة.
“أنا لست حتى جديراً بهذا.”
كان ذلك سخرية من نفسه.
والغريب…
رغم كل الكره الذي حمله لهذا الرجل، فإن المشاعر التي انتابته عند خبر موته كانت مجرد أسف خفيف.
هل كان هناك حزن؟ لم يكن متأكداً.
لكن هناك شيء واحد كان واضحاً:
لديه الآن سبب للعودة إلى ويبين.
على الرغم من أن والده قد مات منذ عام بالفعل…
وعلى الرغم من وقاحة ظهوره فجأة بعد كل هذا الوقت…
لكنه لم يستطع عدم الذهاب.
صوت صفير البخار—!
صعد إيريك إلى القطار.
قطار بخاري سيوصله إلى الشرق في غضون أسبوع.
بعد سنوات من القتال دون إنفاق، كان لديه ما يكفي من المال لركوب الدرجة الأولى.
هدأت آلام مفصل ركبته اليمنى بمجرد أن جلس.
أطلق زفيراً طويلاً.
المشهد خارج النافذة كان قرمزي اللون.
الخريف.
موسم الحصاد حيث تكون أرض مسقط رأسه “ويبين” في أبهى حُللها.
اشتدّ الحنين.
بوووو—!
بضجيج بخاري قوي، انطلق القطار.
—
أسبوع كامل جالساً يُراقب المشاهد الزائلة.
جسده الذي اعتاد على صخب ساحات القتال دون راحة،
لم يستطع التأقلم مع هذا الهدوء،
فظل يصرخ داخلياً طوال الوقت.
محاولاً تهدئة نفسه،
تقلب على المقعد حتى ذكرته آلام ركبته بوضعه الحالي.
الخبر السار: أن الزمن يتقدم للأمام فقط.
وبمجرد أن تحمّل وثابر، وصل إلى محطة القطار الأخيرة.
“رحلة سعيدة!”
انحنى الموظف الذي كان يقدم له الوجبات طوال الرحلة.
لوح إيريك بيده بإهمال وخرج من المحطة.
“ويبين…”
انفتح أمامه مشمس مسقط رأسه بكامل بهائه.
لم تتغير ولو ذرة منذ عشر سنوات.
الشوارع المغطاة بأوراق الخريف القرمزية كانت هادئة،
والناس يتمشون ببطء يحملون روعة الريف الساحرة.
لا أثر لقسوة ساحات القتال هنا.
وبعيداً قليلاً، امتدت حقول القمح الذهبية بلا نهاية.
رؤية هذا المشهد، شمّ رائحته، رؤية الناس وأجوائهم…
شعر إيريك بوخز في أنفه.
بدأ يمشي متعثراً بعكازته،
رغم الألم الحاد الذي يشبه التمزق،
إلا أن خطواته لم تتباطأ.
مع كل خطوة، تتجسد الذكريات بوضوح كأنها حاضرة.
ظهر أمامه الطريق المؤدي إلى القصر.
قصر عائلة “فورتمان” كان منعزلاً قليلاً عن القرية،
يطل ببهائه المتواضع بين حقول القمح.
توك—
اعتمد على العكاز ليحفظ توازنه.
بدأ إيريك بالسير ببطء بين حقول القمح.
هنا لعب الغميضة مع أطفال القرية.
هنا وبّخته الخادمة لأنّه لوّث ملابسه بالتراب.
هنا كان رئيس الخدم يناديه لتناول العشاء حين يحل الغروب، بدلاً من والده.
وهنا اختبأ بين القمح منتظراً أن يأتي والده للبحث عنه.
كل شيء كان واضحاً كأنه يستطيع لمسه لو مدّ يده.
ثم تجاوزت أفكاره تلك الذكريات،
وتوقفت عند وجه فتاة.
‘كيف عاشت السيدة الصغيرة كل هذه السنوات؟’
“في ساحات القتال الغربية، لم تكن هناك وسيلة لمعرفة كيف تعيش سيدة ويبين…”
“لذا ظل مصيرها مجهولاً بالنسبة لي.”
لن تكون حياتها صعبة..
فتاة بهذا الجمال، لا بد أن أحداً ما قد احتضنها بحياته..
بينما كان يسرح في هذه الأفكار، ظهر القصر أخيراً في مرمى بصره.
صرصر—!
انبعث صوت من حقل القمح على يمينه.
ارتجف إيريك فجأة.
التفت بسرعة نحو مصدر الصوت.
وفي اللحظة التالية…
“…آه.”
خرجت كلمة زفير.
لكنها لم تكن صادرة عن إيريك.
بل عن المرأة التي خرجت من بين سنابل القمح.
صوت بنبرة هادئة لكن واضحة وحاسمة…
تلك كانت سمة الفتاة التي أسرت قلب الفتى إيريك ذات يوم.
نعم..
الفتاة أصبحت امرأة الآن.
ما زالت تحتفظ بذلك الجو الساحر والأنيق،
لكن براءة الماضي قد اختفت،
لم تعد تبدو هشة كما في ذاكرته.
جمالٌ يخطف الأنفاس يحيط بها بهدوء.
حتى مع اتساع عينيها المفاجئ،
فإن زوايا عينيها المنحنية استحوذت على انتباهه.
تحرك شفتيه بذهول، وسأل دون تفكير:
“لماذا…؟”
لماذا ما زلتِ هنا؟
أمام هذا السؤال،
أغلقت “تيريا ويبين” شفتيها للحظة،
ثم أطلقت نفساً عميقاً وهَذَّبت تعابير وجهها.
انخفضت نظراتها نحو الأسفل،
ثم أخيراً خرجت الكلمات:
“لأنني زوجتك. لهذا ما زلت هنا.”
كانت ما تزال زوجته.
على عكس كل توقعاته.
التعليقات لهذا الفصل " 2"