أن ترى من تشاركهم المائدة بالأمس جثثًا باردة اليوم، أن تواجه السيوف ووطأة السهام المنهمرة من كل صوب، أن تسهر الليالي الطوال تشهر سيفك دون توقّف… كل ذلك صار أمرًا اعتياديًا بفظاعة الحرب.
ذلك الوهم بأن الموت قد يتجاوزني وحدي سرعان ما يتحطم مع أوّل قتال.
فالقلق من “متى يحين دوري؟” لا يفارق الجندي ما دام في الجبهة… بل يظلُّ وصمةً ترافقه حتى بعد أن يغادرها.
عشرة أعوامٍ في مثل ذاك المكان كفيلة بأن تُهشم عقل أيّ إنسان، فكيف بإيريك؟
ناهيك عن أنّه لم يكن يقاتل ليحيا، بل ليقترب من الموت، ولهذا بدا حاله أشد بؤسًا من غيره بأضعاف.
والسبب الوحيد الذي أبقاه حيًّا كان واحدًا: أن جسده الفولاذي تغلّب على تآكل روحه.
وحشٌ يندفع إلى قلب صفوف الأعداء وكأنها آخر يومٍ له في الدنيا، لا يتوقف عن ضرب السيف حتى لا يبقى حيٌّ أمامه.
عينان حمراوان كالدم، ما كان ينبغي لأحد أن يواجههما في ساحة الوغى.
كانت الأوصاف التي تُطلق على “شبح السيف كاشا” مرعبةً حدًّا، واحترام الجنود له بلغ حدّ الإيمان.
لكن إن أزحت غطاء الأسطورة، وجدت أنّها لم تُبنَ إلا على تهوّره وقوةٍ عارية وحظٍّ أسود.
كل من خاضوا حرب الهيمنة في غرب القارة التي استمرت عشرين عامًا قالوا إن “شبح السيف كاشا” سيظل شبحًا حتى تنتهي الحرب.
أما إيريك، فما كان ذلك في نظره إلا شائعة سخيفة.
بُددددق!
فأيًّا كان المرء قويًّا، فإنه كائنٌ حيّ، ومصيره أن ينكسر في لحظةٍ ما.
وكذلك كان إيريك.
‘إصابة خطيرة.’
كان ذلك في قلب ساحة معركةٍ حدودية، حيث اضطر إلى صدّ ألف جندي وحده في ظرفٍ يائس.
وكعادته، انتهت المعركة بالنصر، لكن ركبته اليمنى تمزّقت مفصلًا.
ليست إصابةً ميؤوسًا منها، لكنها أيضًا ليست سطحية تسمح بالقتال مجددًا قريبًا.
بل حتى عيش حياةٍ عادية بات مشكوكًا فيه.
سيمضي بعض الوقت أعرجًا لا محالة.
والمرتزقة في جوهرهم مجرد قوةٍ بديلة يمكن استئجارها بالمال.
صحيح أنّ قوة إيريك لم يكن لها مثيل، لكن وقد عجز عن استخدامها، فما عاد يختلف عن سائر المرتزقة.
ومن لا يستأجره، فلن يتيح له فرصة ليمارس فوضاه في الميدان.
لهذا، بعد أربع سنوات تقريبًا، غادر إيريك الخطوط الأمامية.
كان المكان لا يزال أرض حرب، لكنه في الخلف كان بوسعه أن يجلس في حانةٍ ويطالع صحيفة.
بعد أربع سنوات من انغماسه في القتال، وقعت عيناه على كلماتٍ لم تكن شيفرةً عسكرية.
“تلك صحيفة من الشرق؟ أأنت من هناك أصلاً؟”
تجاهل إيريك كلام الساقي.
لا لأنه لم يجد فيه قيمةً للرد، بل لأنّ عقله كان مستغرقًا كليًّا في الصحيفة.
ولِمَ لا؟
فشرق القارة هو مسقط رأسه، المكان الذي وُلد فيه وترعرع.
وبرغم ما مرّ من السنين، بقي حنينه حيًّا لا يزول.
وبرغم الفراق المرّ، ما زال يطارده مشهد حقول القمح الذهبية في ويبين وذكريات طفولته فيها.
والإنسان، كلما اقترب من الموت، عاد إلى ذكرياته ليمضغها.
وإيريك الذي عاش دائمًا على حافة الموت، كان يغرق في أوهام تلك الأيام.
『حفلة شاي للأميرة إكليزيا.』
أظهرت الصحيفة صورةً للأميرة وهي تبتسم ببهاء، تحيط بها بنات النبلاء اللواتي حضرن لإضفاء رونقٍ عليها.
أسفل الصورة وردت مقدمة عن الحفل وبعض المقابلات.
‘ألا توجد أخبار عن ويبين؟’
قلب إيريك الصفحات مبتسمًا بسخرية.
وكيف تكون؟
فويبين ليست سوى حقل قمح بائس حتى داخل مملكة فيردين في الشرق.
كل خطوة كانت تحمل فوق شبكيته صورة من ذكريات طفولته هنا.
وسرعان ما بدا أمامه الطريق المستقيم المؤدي إلى القصر.
قصر آل فورتمان، القابع على مسافة من البلدة، وحيدًا بين حقول القمح، يلقي بهيبته الأنيقة في الأفق.
طَقّ―
غرست العصا في الأرض لتعوّض ساقه الموجوعة.
ثم بدأ إيريك يمشي ببطء بين سنابل القمح.
هناك… حيث كان يلعب مع أطفال القرية لعبة الغمّيضة.
وهناك أيضًا حين وسّخ ثيابه بالتراب فتعرّض لتوبيخ الخادمة.
وعند غروب الشمس، كان كبير الخدم ـ الذي حلّ محلّ والده ـ يعلن حلول وقت العشاء.
بل وحتى الأوقات التي كان يختبئ فيها بين سنابل القمح منتظرًا أن يأتي أبوه باحثًا عنه.
كل ذلك بدا قريبًا منه، كأن مدّ يده يكفي ليلمسه.
وسرعان ما تجاوزت ذاكرته تلك المشاهد لترسم وجه فتاة.
‘تُرى، كيف تعيش الآن يا ابنة ويبين؟’
في ساحات القتال الغربية لم يكن في وسع إيريك أن يعرف شيئًا عن أحوالها.
ولم يظن أنها تعيش في بؤس.
كانت من الجمال بحيث لا بد أن يخطفها أحد الرجال.
راودته هذه الأفكار وهو يتقدّم حتى بان القصر أمام عينيه.
فجأة―
بَسَسَس…!
صدر صوت من حقل القمح على يمينه.
ارتجف جسد إيريك.
دار رأسه بسرعة نحو مصدر الصوت.
ثم جاء الصوت:
“…آه.”
لكنها لم تكن أنفاسه، بل صوت امرأة خرجت من بين السنابل.
رنين صوتها، بنبراته المتساوية وخاتمته الحازمة، كان يحمل السمة عينها التي هزّت قلب إيريك في صباه.
نعم… كانت هي.
لقد غدت الفتاة امرأة.
لا يزال يكتنفها جوّ من الغموض والوقار، لكن نفَس الطفولة قد تلاشى تمامًا، فلم تعد تبدو واهنة كما في الذاكرة.
كانت تحيط بها الآن هالة من جمال خانق يفيض هدوءًا.
وكانت عيناها الواسعتان، بما فيهما من ميلٍ طفيف إلى الأسفل، تجذبان النظر بلا مقاومة.
شفتا إيريك تحرّكتا لا وعيًا، همسًا بلا تفكير:
“لماذا….”
لماذا لا تزالين هنا؟
عندها أطبقت المرأة ـ تيريا ويبن ـ شفتيها لحظة، ثم زفرت طويلًا ورتّبت ملامحها.
خفضت بصرها، ثم نطقت:
“لأنني زوجتك، أعيش هنا.”
لقد كانت ما تزال زوجة إيريك.
على عكس كل ما ظنّه.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 2"