لم يجرؤ على إحضار سيفه معه، فاقتصر على عصاه، محاولًا أن يهدّئ الاضطراب الذي يعصف في صدره.
‘سيكون بخير. لا بأس…’
فالوفود القادمة اليوم ليست سوى ضباطٍ من الغرب، أناس لا يتحركون إلا في جبهات الحرب.
وفوق ذلك، هم مجرد ضباط إمداد.
‘احتمال أن يعرفوني ضعيف للغاية.’
ولم يكن ذلك رجاءً فارغًا.
فأيامه في الغرب كـ”كاشا” كانت على خطوط المواجهة الأمامية فقط؛ يقاتل بالسيف، بعيدًا عن الأضواء.
لم يقدّم مقابلةً قط، وكان إذا حاول أحد تصويره كسر آلات التصوير بيديه.
لذا لم يعرف وجهه إلا قلة نادرة من العملاء الذين تعاقدوا معه مباشرة.
ولو أضيف استثناءٌ واحد، فلعله تلك الليلة التي جرّه فيها صديقه إلبيرت غراهام إلى حفلٍ سريّ في قلب الإمبراطورية.
لكن إيريك هز رأسه مطرودًا هذه الفكرة:
‘لا، ذلك مستحيل.’
فالحفل ذاك كان محصورًا بأبناء الطبقة العليا من أشراف الإمبراطورية.
أيُعقل أن يكونوا اليوم ضباط إمدادٍ يتنقلون حتى هذه الأطراف النائية؟
محال.
‘يكفيني أن أتجنب العُملاء. العملاء فقط!’
وأغمض عينيه متشبثًا بأمله.
—
أبطأ القطار الضخم وهو ينفث البخار، وارتجّت النوافذ مع الصفير الحادّ.
‘ها قد وصلنا.’
“فولو” ــ ضابط الإمداد في الفيلق الثالث للإمبراطورية ــ أطلق تنهيدةً متضجرة وأسند ذقنه إلى كفه، فانطوت طبقاته الدهنية.
كان جلوسه وملامحه المكفهرة كافيين ليعلن استياءه العميق.
ولمَ لا؟
ها هو ابن أحد ولاة الإمبراطورية، الابن الثالث لأسرة كُنتية، والمرشح بعد عام واحد للترقية إلى منصب رفيع…
يُرسل إلى قرية متواضعة في أقصى الشرق لشراء القمح.
وما خرج من صدره إلا زفرة كئيبة:
‘تبا لهؤلاء الممالك.’
فالحرب لم تعد سجال استنزاف طويل كما كانت.
بسقوط تشيبور، بدأ المشهد يتحول إلى غارات ونهب، حيث يتسابق الجميع على سلب الموارد.
صار الطعام أعزّ ما يملَك، حتى أقوى الممالك ــ أرمن وديشا ــ تنافست مع الإمبراطورية نفسها على آخر حبة قمح.
ومن أجل أن تحوز الإمبراطورية أكثر مما تفقد، اضطر فولو، بصفته نبيلًا، أن يتولى صفقات كهذه بنفسه.
بوووووووم!
توقّف القطار.
نهض من مقعده، يجر جسده الثقيل نزولًا إلى الرصيف.
وفجأة:
“أنظروا مَن هنا.”
صوت متبجّح، وقح، طعن أذنه.
أدار رأسه بتأفف، وكان يتمنى لو أخطأ، لكنه عرف الصوت حق المعرفة.
“الأرمني المتغطرس جاء حتى هنا.”
فجاءه الرد جافًا:
“وليس للإمبراطورية أن تعيّر أحدًا.”
عينان ضيقتان مع أنف معقوف وجسد نحيل كقشّة؛ ذاك هو ضابط الإمداد من أرمن.
ولم يكن وحده.
“ها نحن نلتقي مجددًا.”
صوت أجشّ، وصاحب هيئة أشبه بالدب، يتقدّم بخطوات تهز الأرض.
إنه ضابط الإمداد من ديشا.
تجمّع الثلاثة في قلب المحطة، يتبادلون النظرات المليئة بالحنق.
لم تكن المرة الأولى؛ فقد تكرر المشهد نفسه عند كل محطةٍ منذ انطلاقهم شرقًا حتى وصلوا ويبين.
لكن هذه المرة، شدّ فولو عزيمته.
‘هنا يجب أن يُحسم الأمر.’
حتى الآن، سجلات المزادات على الحبوب كانت لصالح الإمبراطورية بنسبة أربعة من عشرة فقط، وهو أمر جرح كبرياء “فولو”.
لكن إن نجح في شراء كامل محصول ويبين لصالح الإمبراطورية، فسترتفع النسبة إلى ستة من عشرة.
ومثل هذه النتيجة لم تكن مجرد مكسب رقمي؛ بل إثباتٌ لمكانته كجندي وكابنٍ للإمبراطورية.
صفقة ويبين هذه كانت أهم معاركه.
قال بتهكم:
“يبدو أننا سنعتاد لقاء بعضنا. رجائي أن ترفق بي يوم نلتقي على ساحة القتال؟”
فابتسم الأرمني باستخفاف:
“أراك تفترض هزيمتك سلفًا. يبدو أن انضباط جند أرمن ليس غريبًا إذًا.”
“لم أقصد سوى أن نحتكم إلى نزال نزيه. أما أنتم يا رجال الإمبراطورية، فحدّتكم لا تحتمل.”
زمجر فولو:
“لولا ملح إلمهفا، لكنتم هلكتم منذ زمن بعيد!”
لكن الضابط من ديشا رفع يده ليهدئهما:
“كفى، أنتما الاثنان.”
وكان جسده الضخم وحده كافيًا ليكسر حدّة المشهد.
عضّ فولو على أسنانه.
‘لنرَ إلى متى ستبقون متعالين.’
فهنا، في المحطة الأخيرة من رحلتهم، كان يملك وقتًا كافيًا ليتهيأ.
ثم إن لديه أفضلية لا يملكها خصماه؛ فقد حصل من جهاز المخابرات الإمبراطوري على كل صغيرة وكبيرة عن هذه الديار.
‘صحيح أن الأرض تُسمى ويبين، لكن اليد العليا بيد آل فورتمان. الصفقة ستكون معهم بلا ريب.’
عائلة نبيلة لم يمضِ على صعودها سوى عشر سنوات، وفوق ذلك مات ربّها منذ عام واحد.
الخلافات الداخلية إذًا أمر لا مفر منه.
وها هو عنصر يزيد الطين بلّة:
‘سمعتُ أن الابن الهارب عاد بعد عشر سنوات.’
فتفسير ذلك في نظر فولو سهل: وريث طائش عاد ليطالب بميراثه، فيما الزوجة التي حكمت القصر لعقد كامل ترفض أن تُسلب سلطتها.
نزاع على “من يكون سيد الدار”.
وهو نزاع مألوف في بيوت الأشراف.
فولو لمح منفذًا واضحًا:
‘أقف إلى جانب الابن. ألوّح له بمقعد السيد، وأنتزع بالمقابل كامل محصول القمح.’
ومتى ما احتج إلى السند، فما خلفه إلا اسم الإمبراطورية، وهو كفيل بأن يُخضع أي بارونية متواضعة في أقصى الشرق.
لم يمضِ على عودة الوريث سوى شهر واحد؛ فلن يملك الأرمنيون ولا الديشانيون مثل هذه المعلومات.
إذًا هو وحده، فولو، من سيقود هذه الصفقة.
ارتسمت على وجهه ابتسامة ثقة، وانساب رخاوة في صوته:
“هيا بنا إذًا، لا داعي للمماطلة. لا بد أن الموفدين بانتظارنا.”
قهقه الأرمني النحيل:
“ها؟ لن يكونوا سوى خدمٍ من قصر بارونٍ ريفي.”
لم يجد فولو بأسًا في كلامه، لكنه اكتفى بنظرةٍ دونية له، ساخرًا في سره:
‘غبي مغرور… سنرى كم يدوم صلفك.’
وبحركة متعالية، ألقى معطفه خلفه فرفرف في الهواء، وشق طريقه إلى بوابة المحطة.
وهناك، انكشف المشهد: قرية ساكنة تعبق برائحة السماد، بيوت متقادمة توحي كأنها تأخرت مئة عام عن العاصمة.
حينها ارتفعت كتفاه بثقة؛
‘هؤلاء البسطاء لن يملِكوا إلا أن يحني رؤوسهم أمامنا.’
بدا أن الضابطين الآخرين من أرمن وديشا قد راودتهما الأفكار نفسها، إذ ارتسمت على وجهيهما ملامح التكبر والازدراء.
وفجأة، جاءهم صوت هادئ:
“ألعلّكم أنتم الضيوف القادمون من الغرب؟”
التفتت الرؤوس الثلاثة معًا. فإذا برجلٍ يتوكأ على عصا، يجرّ ساقه العرجاء.
شَعره بنيّ، وعيناه وديعتان، وأنفه مستقيم يمنحه مظهرًا حسنًا. ابتسامته المشرقة كانت مفعمة بالود، وملابسه الأنيقة دلّت بوضوح أنه ليس من عامة الفلاحين.
غير أن فولو لم يقوَ على أن يبادل تلك الملامح الودودة بابتسامة.
فقد قال الرجل:
“أنا إيريك فورتمان، القائم مقام سيّد ويبين.”
ففي لحظة، انطفأ ما كان على وجه فولو من ثقة، وابيضّت سحنته.
أصاب أصابعه بردٌ مفاجئ، وارتجفت عيناه كما لو أصابتها زلزلة.
‘إ… إيريك فورتمان؟’
هل هذا الرجل هو ذاك الفتى الأرعن الذي هرب منذ زمن؟
لا، لم يكن الأمر كذلك.
بل كان على يقين قاطع أن هذا الاسم ما هو إلا كذبة.
‘لـ… لماذا…؟’
كيف يمكن أن يكون هو بالذات من يقف أمامه الآن؟
وقطع صمته صوت الأرمني:
“أنا أوغيل، ضابط الإمداد عن أرمن. أترانا لن نجد استقبالًا آخر؟”
ثم قال ضابط ديشا، مائل الرأس احترامًا:
“أنا تِمت، ضابط الإمداد عن ديشا. يشرفني لقاء سيّد ويبين.”
لكن فولو لم يستطع أن ينطق بكلمة.
ذاكرته المثقلة بالخوف الموروث كانت تضرب رأسه بعاصفة من الذعر.
‘أرجوك…!’
أرجوك ألا تتذكرني.
أرجوك انسَ كل ما يخصني.
توسّله في داخله كان بعمق توقه إلى الحياة نفسها.
حتى إن الأجدر به ــ لو أراد النجاة ــ أن يدير ظهره ويهرب من هذا المكان فورًا.
غير أن ذلك لم يكن ممكنًا؛ فالقطار قد غادر منذ لحظة.
ثم حدث ما خشاه:
حين اتجهت أنظار سيّد فورتمان…
لا، بل أنظار “شبح السيف كاشا” نحوه مباشرة،
وقال بابتسامة آخذة في التلاشي:
“هل لي أن أسمع اسمك…؟”
وحينها، رأى فولو بعينيه كيف تلاشت حرارة الابتسامة من ملامح إيريك كما يذوب الثلج تحت شمس الظهيرة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 19"