واليوم أيضًا، كانا يتشاركان العمل تحت وطأة هذا الحرج.
غير أن إيريك، بطبعه، لم يكن يستسيغ مثل هذه الأجواء الثقيلة، فراح يبحث عن سبيل للخروج منها، وما لبث أن واتته الفرصة.
كانت تيريا قد تسلّمت صحيفة تقرأها.
ليست صحيفة عادية، بل دورية شهرية تنقل أخبار الجبهة الغربية.
“صحيفة الغرب إذن.”
كان في صوت إيريك مسحة ارتياح.
فعدا عن كونها ذريعة لفتح حديث، فإن أخبار الغرب تثير فضوله حقًا.
أومأت تيريا برأسها.
“نعم، فالجبهة الغربية من أكبر شركائنا في التجارة.”
“طبيعي، فليس هناك مكان أكثر احتياجًا للغذاء من هناك.”
إن الحرب تلتهم الطعام التهامًا.
فحين يُستدعى آلاف الرجال البالغين إلى ساحة القتال، فمن يحمل عبء إطعامهم إن لم يكن المؤن القادمة من الخارج؟
ولهذا كانت الجبهة الغربية تعتمد كثيرًا على إمدادات غذائية وافدة.
وكان إيريك يعرف هذا جيدًا، إذ سبق له في أيام مرتزقته أن شارك في حراسة قوافل المؤن.
وهو يسترجع ذكريات الأمس، باغتته تيريا بسؤال:
“…هل سبق أن زرت الغرب؟”
ارتجف إيريك للحظة.
وتداعت على لسانه كلمات تبرير سريعة:
“هاها… مضى عشر سنوات، أليس كذلك؟ هل تتوقعين أنني لم أطأ أي بقعة من القارة طيلة هذه المدة؟”
لم يشأ أن يكشف لها عن ماضيه كمرتزق حرب، فاكتفى بالمراوغة.
ولحسن حظه، لم تُبدِ تيريا شكًّا ظاهرًا.
“هكذا إذن.”
وعادت بعينيها إلى الصحيفة.
فتفرس إيريك في الصفحة الأولى التي بين يديها:
『شهر على اختفاء “شبح السيف كاشا”، ومملكة تشيبور تسقط.』
ارتسمت على فمه ابتسامة مرة.
‘إذن انتهى أمرهم أخيرًا.’
فمملكة تشيبور كانت أضعف الدول المشاركة في حرب الغرب الممتدة لعشرين عامًا، فلم يكن سقوطها مدعاة للدهشة.
لكن ما أثار شيئًا في نفسه أن سقوطها لم يكن بعيدًا تمامًا عن أثره.
إذ كانت تلك المملكة أكثر من استدعاه، وآخر معركة خاضها قبل إصابته واعتزاله كانت دفاعًا عن عاصمتها.
بخلاف سائر الدول، لم تُخرج تشيبور أحد الأقوياء السبعة الذين تتقاسمهم القارة.
ولذلك سدّوا عجزهم العسكري بالاستعانة بالغرباء، وكان إيريك جوهر قوتهم تلك.
فلما خرج هو بالإصابة، لم يكن عجبًا أن تؤول أمورهم إلى الانهيار.
ومع ذلك، لم يشعر لا بالأسف ولا بالذنب.
فما ربطه بهم لم يكن سوى علاقة منفعة متبادلة بين غرباء.
“لقد سقطت تشيبور إذن.”
قالت تيريا.
“إحدى الدول تهاوت بعد عشرين عامًا، فكم يا ترى سيطول أمد الحرب بعد ذلك؟”
‘هل تلقي إليّ طُعمًا للحوار؟’
تساءل إيريك في نفسه، ثم أجابها وهو يهز رأسه:
“قد يحدث العكس.”
“وكيف ذلك؟”
“لأن التوازن قد اختلّ. أتعلمين؟ البرج إذا بدأ بالاهتزاز، تسارع انهياره.”
“…”
لم تبدُ عليها علامات اقتناع، فابتسم إيريك بخفة.
هذه المرة كان على يقينٍ من صحة رأيه.
“في الحقيقة، كان ينبغي أن تنهار إحدى الممالك قبل خمس سنوات. أفلا تعرفين ما الذي أبقى التوازن حتى الآن؟”
“وما هو؟”
“إنه وجود ‘شبح السيف كاشا’.”
ورغم أن كلماته بدت كمن يمدح نفسه، شعر ببعض الحرج، غير أنّها حقيقة لا مفر منها.
فالسبب الوحيد الذي حال دون سقوط الدول الضعيفة التي شاركت في الحرب، كان وجود شبح السيف كاشا.
أما الأقوياء السبعة، فمهما بلغ ثمن استئجارهم باهظًا، أيُعقل أن تكون قيمتهم أسمى من حياتهم؟
بحسب ما يتذكره إيريك، فإن الممالك الأربع التي لم تُخرِج واحدًا من الأقوياء السبعة، كانت تتنافس في رفع السعر لاستئجاره.
‘وفعليًا، كنت أستحق ذلك الثمن.’
فعدد المرات التي أنقذ فيها دولة من السقوط لا يكفيه عدّ أصابع اليدين.
لذا، فمن الطبيعي أن ينهار توازنهم بزوال وجوده.
وهكذا، كان على يقين: ما دام قد غادر ساحة الحرب، فثلاث ممالك أخرى ـ من تلك التي لم تُخرِج قويًا واحدًا ـ ستلقى نفس المصير بالانهيار.
“…إن كان كلامك صحيحًا يا سيدي، فإحدى الممالك ستسقط في المعركة المقبلة.”
دفعت تيريا بالصفحة التالية من الصحيفة أمامه.
وكان العنوان مكتوبًا بخط عريض:
『اللهب القرمزي إيغريت من بيلديون تعلن نيتها الخروج للقتال.』
فأجاب إيريك دون تردد:
“إن دخلت المعركة فلن يستغرق الأمر أكثر من ثلاثة أيام.”
إيغريت، اللهب القرمزي، ساحرة قتال من الأقوياء السبعة.
لم تواجهه في الحرب سوى مرتين فقط، إذ لم تكن من الذين يكثرون المشاركة في المعارك.
لكن، ما إن تظهر، فلن يوقف تقدمها إلا ظهور قوي من مستواها.
أما دون ذلك، فلن تنتهي المسيرة إلا بسقوط المدينة أمامها.
فهي أفظع آلة حصار عرفها إيريك.
“همم…”
تجعد ما بين حاجبي تيريا.
“مم؟ ما الأمر؟”
“لقد ظهرت حركة لشراء كميات ضخمة من قمح الغرب هذا العام. ظننت أن السبب شدة الحرب لا غير، لكن على هذا النحو، ألا يجدر بنا أن نعيد النظر في سياساتنا؟ يجب أن نختار بعناية الدولة التي سنبيعها.”
‘أوصلت تفكيرها إلى هناك بهذه السرعة؟’
أطلق إيريك شهقة إعجاب خافتة.
ولعله قول غير لائق، لكنها ذكّرته بأبيه في سرعة الحساب والربط.
فقد كانت تنتزع من كل معلومة خارجية النقطة التي تخدم مصلحتها مباشرة.
“على أي حال، يلزم أن نستعد لهذا.”
“هل من أمر يمكنني معاونتك فيه؟”
رفعت تيريا بصرها نحوه مباشرة.
وفي تلك اللحظة شعر إيريك برجفة من حرج مباغت.
فمع أنه كان يظن أن الحوار يسير بسلاسة، فإن مواجهة عينيها فجأة أحرقت صدره بحرارة غريبة.
عندها قالت تيريا:
“هلّا استقبلت ضيفًا لدينا؟”
“ه.. ها؟”
ضيف؟ ما الذي تعنيه فجأة؟
أمال رأسه في حيرة.
“سيأتي شخص من الغرب.”
فشعر إيريك كأن قلبه سقط دفعة واحدة.
—
وكان ملخص ما قالته تيريا كالآتي:
* لم يكن من عادة المسؤولين أن يزوروا ويبين لإبرام عقود شراء القمح. فالمعاملات كانت دومًا تتم عبر القوافل التجارية فقط.
غير أن هذا العام، أعلن بعض المسؤولين نيتهم القدوم شخصيًا إلى ويبين لعقد الصفقات.
إنها إذن إمدادات الجبهة الغربية، قادمة إلى هنا.
ومن ثلاث جهات مختلفة أيضًا.
“تبا…”
لقد كانت ورطة كبرى.
فإن وُجد بينهم من يعرف إيريك، فستنفضح هويته في الحال.
لو أنهم حملوا الخبر إلى ساحة الحرب، لغرقت هذه الأرض الهادئة ـ ويبين ـ في فوضى جرّاء وفود رجال الجيش.
وباسترجاعه لأيامه حين كان يجوب الميدان كمرتزقٍ في الحروب، بدا له أن ذلك الاحتمال يكاد يكون يقينًا.
لا بد إذن من حيلة.
‘أأغيب عن المجلس؟’
ذلك تصرّف غير طبيعي. فما شغله الآن لا يكفي لتبرير غيابه تحديدًا في يوم قدوم مسؤولي الإمداد، وهو ما قد يزرع بذور الشك.
‘تنكّر…؟’
لا، ذلك أشد إثارة للريبة.
جلس إيريك ممسكًا رأسه، غارقًا في التفكير، حتى انبثق في ذهنه خاطر واحد:
‘بل… لماذا لا…؟’
أن يسبق بنفسه فيواجه مسؤولي الإمداد، فيكتم أنفاس من قد يفشي السر.
ولم يكن ذلك أمرًا يستعصي عليه.
فقد خبر مثيله مرارًا في جبهات القتال.
‘الوفود الآتية: من الإمبراطورية، وأرمن، وديشا.’
والحمد لله، ليست دولًا كثيرة الاتصال به.
إن حذر، اجتاز الموقف في هدوء.
خرج إيريك من حجرته ونادى:
“ألديو.”
“نعم؟”
“هل لك أن تعلم متى يصل الضيوف القادمون من الغرب؟”
“نعم، لقد أُبلغنا سلفًا بالموعد…”
“حسنًا. أرسل الموعد إلى غرفتي.”
وبعد أن أنهى أوامره، قصد مكتب تيريا من جديد.
“ألجئت إليّ لأنك نسيت شيئًا؟” سألت.
فأجاب:
“الوفود… سأخرج للقائهم وحدي.”
“…وحدك؟”
“أجل. وحدي.”
“لا يمكن ذلك.”
رفضت في الحال.
واتسعت عينا إيريك.
“ولِمَ…؟”
“أيعقل أن يأتينا زوار من أماكن بعيدة، فلا نستقبلهم بما يليق؟ لا بد من حاشية لا تقل عن عشرة رجال.”
كان كلامها صوابًا، لكنه في نظره خبرٌ سيّئ.
القلق يتعاظم في داخله.
ولذلك، وبلا وعي منه، أمسك يدها فجأة.
ارتجف جسدها للحظة، غير أنه لم يكن في حال يسمح له بالالتفات لذلك.
“أرجوك. ثمة سبب يجعلني مضطرًا إلى ذلك.”
وإن كان لا يملك أن يبوح به.
دام التوتر لحظة قصيرة، ورأى في عينيها ارتباكًا، بل شيئًا من الانقباض لم يدرِ كنهه.
غير أن الأهم هو ما قالته بعد ذلك:
“…إن كنت تصر، فليكن.”
ذلك وحده هو ما عنى إليه.
“شاكر لك!”
عاد إلى غرفته على عجل.
ومن تحت السرير، أخرج سيفه الطويل.
‘فلنجرب.’
احتياطًا.
لمواجهة أي طارئ محتمل.
‘إن هم تعرّفوا علي حقًا…’
فعندها لا مفر من أن يعود في ثوبه القديم، كشبح السيف كاشا.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات