لم يكن بوسعها غير ذلك، فقد كان عرضه أشبه بأمر لا يُصدّق، وكذلك هذا اليوم بأكمله.
‘ما الذي يخفيه حقًا؟’ كان سلوكه طوال اليوم دافئًا، وكلماته أشبه بلغةٍ لا توجد إلا في الأحلام.
انعكست ألسنة اللهب المشتعلة على وجهه. عيناه النعستا تحدّقان فيها من بين خصلات شعره البني، فيما ظلّ فمه متماسكًا تحت أنفه المرتفع. والجرح عند أسفل أذنه تراقص مع ظلال النيران الحمراء.
تأملت كل ذلك، فإذا بانقباض يعتصر صدرها ويجعلها تطبق شفتيها.
‘لماذا يترك لي كل هذا المجال؟ لماذا يجعلني أتوقع؟ لماذا يدفعني إلى الطمع أكثر؟’
غمرت قلبها مشاعر تشبه الغصّة، وأسرعت في إخفائها. وما خرج منها لم يكن سوى قلق لم تقصده أصلًا:
“ألَن يجهدك الأمر؟ أخشى أن يتأذى ركبتك. الرقص هو…”
لكنّه قاطعها مبتسمًا:
“لا بأس. فمجرد السير على إيقاع الطبول ببطء أمر أستطيعه.”
فشعرت تيريا بغصّة في حلقها.
كان ذلك الابتسام المريح الهادئ، الذي لم تره من قبل، كمن يقبض على قلبها.
“ألن يكون هذا تجاوزًا؟”
هزّت رأسها نافية.
كانت حركتها متسرّعة، بل عنيدة إلى حدّ بدا جليًّا. فرغم علمها أنّ الأمر قد يضرّه، كانت رغبتها واضحة لا تقبل إنكارًا.
“حسنًا إذن.”
مدّ إيريك يده، فوضعَت يدها فوقها.
انعقدت أصابعهما بخفة، وانسكبت دفء الساعات الماضية من جديد في جسدها.
أطرقت تيريا رأسها، بينما استند هو على عصاه.
طَقطَقَ الصوت تحت وطأة خطوته الأولى.
اقترب منها، فتراجعت خطوة.
‘ربما هو توازنٌ غريب، أن يتحرك جسدي بعكس ما يريده قلبي.’
دوم– دوم–
تردّد دقّ الطبول في جسدها.
‘أم أن هذا صوت قلبي؟’
إن كان كذلك، فهذا أفضل. فالطبول كفيلة أن تخفي خفقانه.
“أعتذر، لا أقدر إلا على هذا القدر من الخطى.”
هزّت رأسها مجددًا.
“الأولوية لصحتك، وهذا طبيعي.”
كانت كلماتها بعيدة عمّا في قلبها.
فالحقيقة أنّها كانت أنانية. أن تتمنى أن يطول هذا المشهد، يداهما متشابكتان وهما يمشيان معًا، كان أنانية صريحة.
لكنّها لم تستطع التوقف.
كادت الابتسامة تتفلت منها، فحبستها عنوة.
وإذ ضاقت ما بين حاجبيها، خشيت أن يُظنّ بها التجهم، فأنزلت رأسها أكثر.
كلما امتدّت خطواتهما، التي لا تكاد تُسمّى رقصًا، ابتعد العالم من حولهما أكثر.
لا صوت الطبول، ولا ضحكات الناس، ولا صرير الحطب المشتعل، ولا حتى همسات الريح.
وفي فراغ ذلك كله، علا صوت عصاه، كأنه يملأ المساحة الناقصة.
ما كان ثمينًا هو أنه عاد الآن، ويشاركها هذه اللحظة.
ابتسامته التي أهداها لها كانت كافية لتشكرها، وخطواته بجوارها كانت كافية لتغمرها بالامتنان، حتى ضاق نفسها.
كان المشهد بأسره أشبه بسراب، حتى إن الخوف تسلل فجأة إلى قلبها.
كان سببُ شدّها على يده واضحًا.
تشابكت أصابع تيريا بين أصابع إيريك.
ازدادت قوّة القبضة، ومع ذلك، لو أنّه حرّك يده قليلًا لانسابت بسهولة.
لكن، ما لم يُحرّكها، فإنهما قد يبقيان متشابكين إلى الأبد.
وإيريك لم يُحرّك يده.
تنفّس طويلًا شيئًا فشيئًا حتى استعاد هدوءه.
حينها فقط استطاعت تيريا أن ترفع رأسها.
كان ينظر إلى موطئ قدميه.
أقلقها ذلك، وكادت أن تقول شيئًا حين…
“قبّلها!!!”
ارتجفا في اللحظة نفسها.
وانطلقت أبصارهما معًا نحو مصدر الصوت.
“قلتُ قبّلهاااــ!”
“…بات، يا رجل.”
كان صاحب المطعم، وصديق إيريك القديم، يترنّح سكرانًا وهو يشير إليهما.
وجهه الغارق في الضحك بدا أسعد إنسان في العالم.
رمقت تيريا إيريك بطرف عينها.
كانت ملامحه متوتّرة على نحو جعل صدرها يضيق.
“يبدو أنّ لعادته مع الشراب وجهًا سيئًا.”
‘كم أكره بات هذه اللحظة.’
لحظةٌ بدت كالحلم انكسرت فجأة لتعود إلى الواقع.
بدأت الأنظار تتجه نحوهما.
تبدّت ابتسامات صغيرة في الوجوه، كأن الناس وجدوا لعبةً مسلّية.
“واااه!”
ارتفعت الهتافات تشجّعهما.
وانقلبت ثرثرة بات السكرى إلى تيّار لا يُمكن ردّه.
أما القبول، فكان أشبه بسخرية.
فالنبلاء مطالبون دائمًا بحفظ وقارهم، ولا يجوز لهم أن يظهروا مظهرًا طائشًا أمام الرعيّة.
إنها وصمة، أعظم من مجرد رقصٍ عابر.
لكن لا شك أنّ ما حدث لم يكن ينبغي أن يحدث. ربما هو أثر الحماس في أجواء المهرجان.
‘إنه حادث لا أكثر، وسيمرّ لو تجاهلناه وعدنا.’
كان ذلك هو الصواب.
مع ذلك…
“…”
حين همّت أن ترفض، تردّدت فجأة.
لا، بل اجتاحها خوف: ‘ماذا لو اعتبر كلامي صدًّا له؟’
رغم علمها أنّه ليس قصده، إلّا أنّ فكرة رفضه لها أرعبتها.
“أنا…”
كادت أن تقول شيئًا، حين…
“أستأذنك.”
حصل ما لا يُصدّق.
هوووب!
جذبها إيريك نحوه.
انحنى، حتى صارت أنفاسه قريبة لدرجة أن أنفيهما يكادان يتلامسان.
ثم توقّف.
فقط خطوةٌ صغيرة إلى الأمام كانت كافية ليلامس شفتَيها، لكنّه بقي على الحافة.
اتّسعت عينا تيريا حتى شعرت كأنهما ستتمزّقان.
“وااااااا!!!”
“إيريك! حقًا يفعلها!!!”
“المشاغب إيريك صار رجلًا بحق!!!”
تجمّدت تيريا كليًا، غير قادرة على استيعاب ما حدث.
لم ترَ سوى وجه إيريك يملأ مجال بصرها.
كان وجهه متورّدًا.
هل بسبب النار؟ أم لسبب آخر؟
“شعرت أنّي لن أستطيع التوقف ما لم أفعل شيئًا… والناس كلهم سكارى، أليس كذلك؟”
تدفّق نفسه دافئًا على وجهها، فأصابها بقشعريرة.
‘آه… إنه يتظاهر فحسب بأنه سيقبّلني.’
‘بهذا الميل، لن يراهما أحد من بعيد.’
كانت تدرك ذلك، وتفهم معنى كلماته، ومع هذا لم يطاوعها جسدها.
كاد عقلها أن يفرغ تمامًا من كل شيء.
“تفهميني، أرجوك.”
لم يكن يُسجَّل في حواسها سوى أنفاسه وابتسامته.
“…اليوم عيدٌ ومهرجان.”
وجدت تيريا في تلك الكلمات ذريعةً مناسبة، فبدأت تمحو واحدةً تلو الأخرى من تساؤلاتها:
أولًا، محَت كونها مطالبة بوقار النبيلة.
ثانيًا، محَت كون تصرّف الناس معها تصرّفًا غير لائق.
ثالثًا، محَت أنّ ما يحدث مجرد تمثيل.
وأبقت على حقيقة واحدة فقط:
أنه يرسل أنفاسه قريبة من طرف أنفها.
“…نعم.”
وكان ذلك كافيًا.
فاليوم عيدٌ ومهرجان.
—
كان صباح اليوم التالي.
“أيها الأحمق المجنون…”
تمدد إيريك فوق السرير، يخفي وجهه بيديه.
كان شَحم أذنه ظاهرًا وقد احمرّ تمامًا.
لمّا استيقظ الآن فقط، شعر بوعيه يعود إليه.
‘أي حماقة ارتكبتُ؟’
شعورٌ كأنما كان مسحورًا أو مأخوذًا بشيء ما.
طوال اليوم لم يشغل باله سوى تيريا، حتى فقد كل تفكير عقلاني.
قد يتذرّع بذلك، لكن الفعل كان بلا شك تصرّفًا غير لائق.
أليست هي من وُلدت نبيـلة منذ البداية؟
لا شك أن مجرد حضورها المهرجان بين العامة كان ثقيلاً عليها.
أما أن يمسك يدها… حسنًا، قد يُتسامح في ذلك.
لكن أن يطلب منها الرقص، فهذا كان تجاوزًا كبيرًا.
وبالمبالغة قليلًا، فهو أشبه ما يكون بتحرش بامرأة شريفة.
وهو أمر شنيع أصلًا، ومع ذلك… كان عليه أن يتوقف عند ذلك!
‘اليوم عيدٌ ومهرجان.’
لكنّه تمادى.
لقد جذبها نحوه وكاد أن يقبّلها.
هل تراهـا أدركت أن “التمثيل” لم يكن سوى عذرٍ مرتجل؟
لقد انقاد مع الجو، وكاد أن يضع شفتيه على شفتيها، غير أن رأسه برد فجأة، فتوقف عند اللحظة الأخيرة.
لو تأخر ثانية واحدة لربما لم يستطع أن ينظر في وجهها بقية حياته.
‘بات…!’
كل هذا بسببه.
لو لم يسكر ويتلفظ بما تلفظ، لما حدث شيء من ذلك.
ارتجف غيظًا، لكن الندم لم يجدِ.
فالمهرجان الذي خطفه في غفلة قد مضى، وما عاد أمامه الآن إلا مواجهة الواقع.
“سيدي الشاب، أفقتَ؟”
سمع صوت ألديو، فأجاب إيريك:
“…هل يمكنني البقاء في السرير قليلًا؟”
لم يكن يملك الشجاعة ليرى تيريا.
كان يتمنى لو يتناول إفطار هذا الصباح وحده.
“لا يصحّ التباطؤ، يا سيدي. أنت رجلٌ ناضج الآن.”
لكن الخادم الأمين لم يُبدِ أي رحمة، وقالها بحزم وهو يفتح الباب.
شعر إيريك في تلك اللحظة كما لو كان خنزيرًا يُساق إلى المسلخ.
وبعد أن غسل وجهه وبدّل ثيابه، نزل ببطء نحو قاعة الطعام، كأن الطريق قد امتدّ أضعافًا.
كريك—!
حين فُتح باب القاعة، اضطر أن يحبس أنفاسه للحظة.
“…أفقتَ؟”
أومأت تيريا بخفة، كما تفعل دائمًا.
مظهرها بدا عاديًا، كما لو لم يحدث شيء.
وهذا بالذات ضاعف من خجله.
فأحداث الأمس عادت تلوح أمامه واضحة وضوح الشمس:
ملامحها القريبة، لمسة يدها، رائحتها، أنفاسها… كل ذلك غمره دفعةً واحدة.
“إممم…”
صرف بصره نحو النافذة، وصوته يرتجف قليلًا.
“…صباح الخير.”
كان الشتاء قد حلّ بالفعل، لكن جسده هو وحده ظلّ واقفًا في صيفٍ قائظ.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 17"