كان ذلك أوّل لقاء له مع المدينة بعد عودته إلى مسقط رأسه، حيث واجه الذكريات والروابط القديمة.
وما كان يومًا مجرّد حنين في ذاكرته غدا حقيقةً ماثلة أمامه من جديد.
غير أنّ الوقت لم يرحم إيريك، إذ انساب من بين يديه بلا توقّف.
“اليوم يبدأ مهرجان الحصاد.”
“أجل، لقد رأيت. حقول القمح صارت كأنّها صلعاء، فدهشت حقًّا.”
ضحك إيريك بصوت مرتفع وهو يجيب على كلام تيريا أثناء إفطار الصباح.
الحقول التي كانت تغمر العالم بلونها الذهبي البهي تحوّلت إلى أرض فارغة.
لقد انتهى الحصاد بنجاح، ولم يبقَ إلا أن يفرح الناس.
على الأقل، كان ذلك حال الأهالي.
أمّا تيريا، فلم يكن بوسعها أن تنعم بالراحة.
كان عليها أن تفرز المحاصيل بين ما يُقدَّم للملوك، وما يُطرح للتجارة، وما يُوزَّع على سكان الإقليم.
ثم عليها بعد ذلك أن تنجز الحسابات المعقّدة لإجمالي دخل العام بأسره.
وكما قال آلديو، فإنّها منذ هذه اللحظة ستغرق في عملٍ شاق لا يرحم.
شعر إيريك بالأسى من أجلها، فسألها:
“ألا يوجد شيء أستطيع مساعدتك فيه؟”
“لا، لا شيء.”
“حقًّا؟ حتى فرز الأوراق أستطيع القيام به.”
“ذلك ليس أمرًا ذا فائدة تُذكر.”
كان جوابها حاسمًا.
فهل يُعقل أن يبقى مكتوف اليدين بلا عمل؟ بينما خطر هذا ببال إيريك، قالت:
“هذا العام، يكفي أن تراقب. سأكون أنا المشرفة وسأعلّمك في الوقت ذاته.”
‘آه، إذن قصدها أنّ مساعدتي غير مطلوبة الآن لأنّها ستعلّمني بنفسها.’
ابتسم إيريك ابتسامة متردّدة.
“هممم…”
“لن أعلّمك سوى التصنيفات الكبرى. أمّا التفاصيل الدقيقة، فهي من التعقيد بحيث تحتاج إلى سنوات من التعليم حتى تُلمّ بها.”
رغم أنّ صوتها كان رقيقًا هادئًا، إلّا أنّ وقع كلامها لم يكن هيّنًا.
وكانت عيناها المائلة برفق تزيد من ثقل المسؤولية.
“حسنًا، هذا مناسب. فلنشرع اليوم مباشرةً في العمل على الوثائق.”
“…ألن تستمتعي بمهرجان الحصاد؟”
“يكفيني أن أشارك في إلقاء الخطاب في اليوم الأخير.”
‘هل لمستُ عشّ الدبابير؟’
“…إنّني لست بارعًا في الدراسة.”
“سأتحمّل.”
‘أخطأت… لم يكن عليّ قول ذلك.’
ندم إيريك في قلبه، لكنّ الوقت فات.
حان إذن وقت دفع ثمن لسانه الذي خانَه مرة أخرى.
—
“أرجوكِ، ارحميني.”
“لم أقتلك.”
“لكنّي أكاد أموت.”
“البشر لا يموتون بهذه السهولة.”
‘بل يموتون بسهولة… ضربة سيف واحدة تكفي لتحقيق العدالة للجميع.’
كبح إيريك تلك الكلمات في صدره.
كان المكان هو مكتبها، والزمان صباح اليوم الأخير من المهرجان.
إنّ تعليمها كان أقرب إلى التعذيب.
فبفضل مثابرتها ودقّتها، لم تكن لتنتقل إلى أي درس تالٍ ما لم يتقن الدارس ما قبلَه، وبفضل صبرها العجيب امتدّت الجلسات التعليمية لساعاتٍ طويلة بلا انقطاع.
حتى إنّ إيريك فكّر: ‘لعلّها أبرع في فنون التعذيب من أمهر الجلّادين الذين عرفتهم في حروب الغرب.’
بهذا القدر كان الأمر مروّعًا.
ولذلك كان يتوق بشدّة إلى حلول هذا اليوم بالذات.
“…أليس علينا أن نستعد شيئًا فشيئًا للخطاب؟”
“ما يزال الوقت صباحًا.”
“أل، أليس هناك بروفة أو شيء من هذا القبيل؟”
“لقد أجريتُها مسبقًا.”
“متى… متى فعلتِ ذلك؟”
“يمكنني أن أجزّئ النوم فحسب، فلا بأس في ذلك.”
أجل، بدا أن تيريا مدمنةُ عملٍ بحق.
لكن إيريك لم يستسلم. ما أراده قبل كل شيء هو أن ينجو من هذا الدرس المقيت.
قال متوسّلًا:
“…ما رأيك أن تستريحي قليلًا؟ اليوم آخر أيّام المهرجان، ألا يليق بنا أن نستمتع ولو قليلًا؟”
توقفت حركات تيريا.
ارتجف قلب إيريك رجاءً، متمنّيًا أن يخرج من فمها اعترافٌ بأنّ الراحة لا بأس بها. ولسببٍ ما، لم تخذله السماء هذه المرّة.
“…قصُر نظري إذن. لا بدّ أنّ هذه أوّل مرّة تحضر فيها مهرجانًا منذ عشرة أعوام.”
لم يكن ذلك هو السبب الحقيقي، غير أنّ إيريك هزّ رأسه بجنون، فالمبرّرات كلّما كثُرت كان أفضل.
وبالفعل، آتت أُكُلها.
زفرت تيريا طويلًا وهي ترتّب الأوراق.
“حسنًا، فلنكتفِ بما أخذنا اليوم. قد يكون من الطيّب أن… نخرج قليلًا ونطوف السوق معًا.”
“فكرة عظيمة! يا لها من بهجة! سأذهب لأستعدّ فورًا… لا، بهدوءٍ سأستعدّ.”
قفز إيريك واقفًا وهو يلوّح بعصاه، وغادر المكتب مسرعًا. لذلك لم يرَ تيريا وهي تُطبِق شفتيها وتخفض رأسها.
لقد كان على وجهها حمرةٌ خفيفة.
—
أخيرًا! لقد تحرر من دروسها الخانقة.
يوم واحد من الراحة الكاملة، أليس هذا كافيًا؟
منذ عشر سنوات، لم يعرف سوى مبارزة السيوف. أما الجلوس ساعات يحدّق في بُقع الحبر فوق الأوراق، فذلك لم يكن إلا تعذيبًا يقشعرّ له بدنه.
“سيدي، أسرع وبدّل ملابسك.”
“سأتأنّى قليلًا.”
“هذا ليس تأنّيًا، بل كسل.”
“أتجرؤ على مجادلة سيّدك؟”
“نصيحةٌ صادقة. ثم إنك لا تُحسن التصرّف كسيّدٍ أصلًا، فلست مُخيف البتّة.”
“سأطردك…”
“لن تقدر. فشؤون الخدم عند السيّدة.”
“…”
يا للعجب! لا أحد يقف إلى صفّه.
ربما كان من العبث أن يُدافِع أحدهم عن شخص هرب لعشر سنين، لكن شيئًا من الخيبة ظلّ في صدره.
كان يظنّ أنّ ألديو على الأقل سيتفهّم قلبه…
“سيدي، هذه المرّة لن تفلت.”
قالها ألديو بصرامة.
شعر إيريك وكأنّه عاد صبيًّا صغيرًا يُوبَّخ لطيشه.
وأدرك جيّدًا أنه لا يزال يتصرّف بطيش، لكن إدراك الأمر لا يُخفّف من وَقعه.
تذمّر وهو يبدّل ثيابه.
كانت ثيابًا رسميّة جاهزة.
“سوف تصعدون المنصّة. حتى إن لم تُلقوا خطابًا طويلًا، فلا بدّ من الاهتمام بالهيئة. سأستدعي الخادمات.”
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات