في أقصى الشرق من البلاد الصغيرة، تقع أكثر الأراضي عزلةً، حيث لا يميّزها سوى تضاريسها المستوية ومناخها المعتدل، حتى إن معظم أهلها يقتاتون من الزراعة، فهي ريفٌ بين الأرياف.
هكذا كانت ويبين، وما من شيء تفتخر به سوى الذهب المتلألئ المتدفق من سنابل القمح.
العالم كان يغلي بصراع بين المحركات البخارية وعلم السحر الخالص، لكن هنا كان الأمر يبدو كأنه حكاية بعيدة لا تمسهم.
ولكي تصل رياح هذا التغيير إلى تلك الأنحاء، فلا بدّ أن يمر وقت أطول.
لم يكن الأمر ليعني له الكثير.
إيريك كان يحدّق من النافذة نحو الحقول التي انشغل الناس فيها بحصاد القمح.
رغم برودة الطقس، كانت حبات العرق تتلألأ على وجوه الفلاحين.
والانحناء الطويل في العمل بدا شاقًّا للغاية.
ومع ذلك، لم يكن المنظر باعثًا على الشفقة وحدها، بل أيضًا على شيء آخر.
“يبدو أنّها سنة وفيرة.”
ذلك لأنّ وجوههم كانت تتلألأ بالفرح.
“نعم، هذا العام وفرة المحصول استثنائية. لم نشهد مثلها منذ قرابة عشر سنين، ولعلها المرة الأولى التي يراها الدوق الشاب في حياته.”
أومأ إيريك برأسه جوابًا على كلام ألديو.
حقًّا، في ذاكرته لم يكن ويبين عامرة بالقمح بهذا الشكل قط.
جميل.
بدأ الغروب يلوّن سنابل القمح بالأحمر المتوهّج، مشهد يختلف تمامًا عن قسوة ساحة المعركة.
وكلما انساب ذلك السكون إلى قلبه، غدا وجهه أكثر لينًا.
وفي تلك اللحظة…
“همم؟”
رأى إيريك تيـريا عند مدخل القصر.
وقد بدا أنها لمحته أيضًا، إذ رفعت بصرها مباشرةً إلى النافذة، ثم حنَت رأسها قليلًا.
ابتسم إيريك ولوّح بيده.
ومجرد أن رآها، قفز إلى ذهنه خاطر:
‘مهرجان الحصاد بات وشيكًا.’
منذ طفولته، لم يشارك في مهرجان حقيقي سوى مرة واحدة، حين رافق إلبيرت غراهام إلى حفل إمبراطوري.
وحين تذكّره، شعر صدره ينقبض، وكأن أنفاسه تنقطع، فهز رأسه لينفض ذلك التوتر.
‘…كلا، لا وجه للمقارنة بين مهرجان ويبين وبين حفلات نبلاء الإمبراطورية.’
فهذا المهرجان كان دومًا ساحة مرح وبهجة، وليس ساحة حربٍ يتبارز فيها النبلاء بألسنتهم وألاعيبهم.
كل ما في الأمر أنه ينبغي له أن يساعد تيـريا لتؤدي خطابها على خير وجه.
“ألديو.”
“نعم.”
“ك… خطابها، كيف تسير التحضيرات له؟”
“هي تكتبه بنفسها، تمامًا كما اعتاد سيد الدار الراحل.”
“صحيح، فهي على دراية بآداب النبلاء، ولا شك أن لها موهبة في الكتابة أيضًا.”
“في الواقع، خطابها العام الماضي كان رائعًا. وقد ساعد كثيرًا على تهدئة الناس في خضم الاضطراب الذي خلّفه رحيل السيد.”
“آه… صدقت، فقد تزامن الأمر إذن.”
تملكه فضول مفاجئ لمعرفة نص ذلك الخطاب.
هل لو سألها ستجيبه؟ نعم، ستفعل بلا ريب… غير أن سؤاله الآن قد يبدو غريبًا قليلًا.
‘كفى. ليس من اللائق أن أبحث في مثل هذه التفاصيل الصغيرة.’
هز رأسه ليطرد الفكرة.
“لنذهب لتناول العشاء. وقد أنهت هي عملها لتوّها.”
“أمرٌ مطاع.”
خرج إيريك من عند النافذة متجهًا نحو قاعة الطعام، حيث نزل ليتناول عشاءه مع تيـريا.
لقد غدا الاثنان الآن يتشاركان العشاء معًا.
—
بعد بضعة أيام، وفي صباح أحد الأيام، قالت تيـريا أثناء تناول الطعام:
“هل يتيسّر لك الخروج برفقتي اليوم؟”
“كَهك!”
فوجئ إيريك بالطلب حتى كاد يختنق، فنفث الماء الذي كان يشربه في مشهدٍ أبعد ما يكون عن التهذيب.
وفور أن استشعر حرج الموقف، أسرع يمسح فمه وهو يحدّق فيها.
لكنها لم تُبدِ أي انزعاج يُذكر…
“مـ… مقصدك عملٌ ما.”
أجاب بتلك العجلة وكأنه يبحث عن عذر.
“الأهالي يزيّنون الساحة استعدادًا لمهرجان الحصاد. ليس ثمة الكثير لتعديله، لكن ينبغي القيام بفحصٍ أمنيٍ احترازي. فخطر ببالي أن ترافقني، كي تتعلم بعض ما يلزم….”
وإذا ببصرها ينحدر إلى ساقه.
“…إن لم يكن ميسورًا، فسأذهب وحدي.”
“كلا. سأرافقك.”
سيكون من الغريب أن يرفض هو ما عرضته بنفسها.
صحيح أنه تصرّف قبل قليل بشكل مُخزٍ، لكن الأمر برمّته لم يكن مرهِقًا كما قد يظن.
فكل ما عليه أن يفعل هو أن يجلس بجانبها ويراقب عملها، أمّا الوقوف لبعض الوقت فتكفيه ساقه السليمة.
“أتظن أنك قادر حقًّا؟”
“لا شيء يمنع.”
في تلك اللحظة، لاحظ إيريك أن المسافة بين حاجبيها اتسعت قليلًا.
فرقٌ طفيف للغاية، لكنه لم يغب عن بصره الحاد.
لقد بدت راضية.
“هذا حسن. فهناك بعض الأمور لا يتيسر تعلّمها إلا في هذه الفترة من العام، ضمن مهام ربّ الدار.”
‘إذن، لهذا السبب.’
ابتسم إيريك ابتسامة خفيفة وقال:
“أشكرك على اهتمامك.”
ولو أنه كاد يقول: على أية حال، ابتداءً من العام المقبل ستعودين أنت للقيام بهذه المهام… لكنه آثر أن يبتلع العبارة، حتى لا يفسد صفو اللحظة.
“إذن، لننطلق بعد الظهر.”
“ألستِ ذاهبة فورًا؟”
“…يلزمني بعض الاستعداد.”
“آه.”
‘حقًّا، لطالما سمعت أنّ استعداد المرأة للخروج يستغرق وقتًا أطول بكثير من الرجل.’
عنف إيريك نفسه على غفلته وأومأ برأسه.
“مفهوم. ناديني حالما تجهزين.”
“حسنًا.”
أجابت، ثم نهضت من مكانها.
وكان على المائدة بقايا طعام.
‘ألم يكن لديها شهية؟’
لم يخطر ببال إيريك أنّ تيـريا نسيت طعامها تمامًا بسبب الترقب لما ينتظرها.
—
أما إيريك، فكان بعيدًا كل البعد عن مفهوم التأنّق.
ففي نظره، وظيفة الثياب أن تستر مواضع الجسد الضرورية، أو أن تقيه شيئًا من برد الحروب الشتوية فحسب.
ولذلك كان ذوقه في الملبس متدنّيًا إلى حدٍّ بائس.
وكانت الكارثة متوقعة.
“سيدي، ما هذا المنظر بحق السماء؟”
“هم؟ ظننت أنني أحسنت الاختيار قليلًا، ما دمت خارجًا لأداء عملٍ رسمي في الدار.”
“يبدو أنّ مفهوم الاختيار الحسن تغيّر من دون علمي إذن.”
كان تنفّس ألديو الممزوج بالتحسّر أمرًا طبيعيًا.
فمشهد إيريك كان قبيحًا إلى درجةٍ لا تُطاق.
في أواخر الخريف، يرتدي قميصًا بلا أكمام، يعلوه رباط عنق وسترة بنية اللون، بينما سرواله يرفرف طرفه كالأشرعة، وأما حذاؤه فكان أبيض اللون ذا رأس حاد كأنه معدّ لقتل أحدهم.
حتى مصدر تلك الثياب يثير الريبة، فهي مظهر مريع، لكنه كان يقف متباهياً بوجهٍ راضٍ، مما جعل مؤخرة عنق ألديو تنقبض غيظًا.
ضغط ألديو على ما بين حاجبيه وقال:
“…من الأفضل أن تبدّل ثيابك.”
“هم؟ أهي رديئة إلى هذا الحد؟ لقد سمعت في أسفاري أنّ مثل هذا الزي يُظهر رجولة الرجل.”
“ومن هذا الأحمق الذي قال ذلك؟”
مرتزق.
كاد إيريك أن يلفظ الكلمة، لكنه ابتلعها.
لقد استلهم هذا اللباس من حديثٍ سمعه وهو في الخامسة عشرة من عمره، حين كان في الغرب. كان المرتزق الذي تفوّه به مولعًا بالنساء، وجمع حوله الجنود ليعطيهم دروسًا في الأناقة.
وكان في الحقيقة رجلاً وسيماً بالفعل.
ولذلك اعتقد إيريك أن مثل هذا الرجل لا بد أن يكون كلامه في الموضة صحيحًا.
‘لكن ذاك الذوق لم ينقذ رقبته.’
فقد انتهى أمره مقطوع الرأس.
وبينما غرق إيريك في ذكرياته…
“عجّل بتبديل ثيابك، فلو رأت السيدة هذا المنظر…”
“هل لي بالدخول؟”
رنّت نبرة تيـريا من خلف الباب.
فتسلل البرد إلى عمود ألديو الفقري.
ولم يكد ينبس بكلمة حتى…
“آه، تفضلي.”
“نعم.”
صرير―
فتح الباب.
أطبق ألديو عينيه بشدّة، فيما ابتسم إيريك بخفّة.
“لقد جئتِ…”
لكن ما إن شرع بالتحية حتى تجمّد لسانه.
وانساق بصره مأخوذًا بها.
كانت ثيابها بسيطة، غير متكلفة، لكنها حمّلته إحساسًا بالغرابة الحادة.
فستان أبيض مستقيم يمتد من العنق حتى ما فوق الكاحلين، وفوق كتفيها شال أزرق داكن يرسم خطوطًا رشيقة.
وقد أظهرت تسريحتها المرفوعة عنقها الرقيق وكاحلها الناعم، ما أضفى عليها أناقةً فاتنة.
كان قوامها موزونًا، ورأسها الصغير زاد من جاذبية النسبة بين جسدها ولباسها.
أما طرفا عينيها المنخفضان ورموشها الطويلة، فقد أسبغا على مظهرها جوًّا غامضًا أشبه بالخيال.
“هـ…”
وقبل أن يواصل كلماته، شعر باختراق بصرها لثيابه.
فخفض رأسه في لحظة.
عندها اجتاحه شعور بارد كما لو أفاق من كابوس.
‘ما الذي يدفعني لارتداء هذا الرداء؟’
تخيّل نفسه يسير إلى جوارها بمثل هذه الهيئة، فارتعد بدنه اشمئزازًا.
وبوجودها، بدا الفرق بينهما صارخًا، حتى انجلت الحقيقة في وعيه.
ولمّا رفع رأسه، وقع بصره على شيء لم يره من قبل…
“…”
حدقتا عيني تيـريا ترتجفان كما لو عصفت بهما زلزلة.
لم يحدث قط أن كشفت مشاعرها بتلك القوة.
فتحت شفتيها وقالت:
“ألعلّك لم تكن راغبًا في الخروج منذ البداية….”
“كلا. إنما كنت أمازح ألديو فحسب. سأبدّل ملابسي حالًا. أعتذر على التأخير.”
انساب الكذب من فمه بسلاسة كالنهر.
ارتسمت على وجه ألديو ملامح حيرة، لكن سرعان ما استحال ذلك إلى ابتسامة.
“لقد كان الأمر مسليًا.”
“حسنٌ إذن.”
رمقه إيريك بنظرة امتنان صامتة.
وفي أعماقه، لم يطلب إلا شيئًا واحدًا:
ألا تكون قد احتقرته بعد أن رأت تلك الهيئة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 13"