انتهى العشاء من دون أن يُضاف إليه أي حديث آخر يتعلق بالموضوع.
فالاعتذار لا يجعل العلاقة تتحسن على الفور.
ظلّ الاثنان غريبين عن بعضهما، وما داما لا يعرفان الكثير عن بعضهما فليس ثمة ما يمكن تبادله من كلام.
عادت الأجواء إلى الحرج، وهكذا انتهت المائدة، ثم انقضى الليل وحلّ صباح اليوم التالي.
“سيدي، هل استيقظت؟”
“قد استيقظت.”
نهض إيريك من سريره وهو يحس ببرودة الجو المتسللة شيئًا فشيئًا.
غسل وجهه غسلًا سريعًا ليستعيد وعيه، فإذا بخاطره تعود تفاصيل ليلة الأمس.
ارتسمت ابتسامة مُرّة على شفتيه.
لكنه شعر أيضًا بانشراح، إذ صار له الآن هدف واضح.
“آه…”
جرّ ساقه المصابة وهو ينهض.
كان قد عزم أن يرحل ما إن يشفى، غير أن ذلك لن يحدث سريعًا.
على الأقل سيمضي الشتاء هنا، وربما امتد به المقام إلى الربيع.
ومهما يكن، فخلال تلك الفترة سيكون لزامًا عليه أن يعين تيريا.
صحيح أن حال جسده لا يسمح بالكثير، لكن أن يقف مكتوف اليدين لم يكن لائقًا أيضًا.
“أدخل.”
فتح ألديو الباب، وخلفه خادمة تحمل طستًا مملوءًا بماء بارد.
“ماء للغسل.”
“شكرًا. يمكنكما الانصراف.”
لم يألف إيريك بعد حياةً يُحضَّر له فيها كل شيء ما إن يفتح عينيه.
أشار بيده إلى الخادمة لتخرج، ثم غسل وجهه.
أيقظه برد الماء إيقاظًا تامًا، وغسل شعره على عجل ثم جففه وبدّل ثيابه.
الآن صار مستعدًا للخروج.
“فلنذهب.”
“نعم، سيدتي بانتظارك.”
“لا بد أنها مشغولة.”
“لكن الاجتماع على المائدة عادةٌ لا تُكسر، كما تعلمون. إنها وصية السيد الراحل.”
ابتسم إيريك ابتسامة خفيفة.
حقًّا، كان والده يصرّ على أن يفطر أفراد الأسرة معًا وجهًا لوجه.
كان مهووسًا بتنظيم جدول حياته، حتى إنه كان يحرم إيريك من الطعام يومًا كاملًا إذا كسر تلك العادة وتخلّف عن الفطور.
يبدو أن هذا التقليد ما زال قائمًا في القصر.
“فلننزل بسرعة، وإلا انقضى النهار ونحن واقفون.”
استند إلى عصاه وخرج من حجرته.
وما إن دخل قاعة الطعام حتى انحنت تيريا انحناءة قصيرة.
“هل نمت بخير؟”
“صباح الخير.”
تلاقت عيناهما لبرهة.
رمشت تيريا بعينيها، فيما تبسّم إيريك ابتسامة محرجة.
كان من العسير عليه أن يتعامل معها كالمعتاد بعد ما جرى بالأمس، لكنه في المقابل لم يجد وجهًا لإظهار تغيرٍ في سلوكه.
قال:
“اجلسي ولنتناول الطعام، لا شك أن بانتظارك أعمالًا كثيرة.”
“نعم.”
كان الإفطار كالمعتاد: لحم مقدد وخبز وبيض.
قائمة تُشبع بلا عبء، وتُخرجهم بسرعة من مأزق الحرج.
بدأوا الطعام على وقع خشخشة الأواني.
وفكر إيريك في أن يتفرغ بعد ذلك للنظر في مسألة تغيير اسم الوريث الشرعي.
لكن عند تلك اللحظة، فتحت تيريا فمها وقالت:
“…قد اقترب موسم الحصاد.”
وأضافت: “سيستغرق إنهاؤه نحو أسبوع.”
“آه، أحقًّا؟”
“نعم.”
تفاجأ إيريك قليلًا من أنها بادرت بفتح الحديث.
رفع رأسه نحوها، فرآها تمضغ طعامها بهدوء.
شعر بضغوط خفية.
‘بماذا عليّ أن أجيب الآن؟’
لا يدري لماذا، لكنه شعر أنه ما دامَت هي من بدأ الحديث، فواجبٌ عليه أن يجيب.
ولو قطع الكلام عند هذا الحد، لظهر بمظهر رجلٍ فظّ.
انحدرت حبات عرقٍ بارد من جبينه.
“هـم…”
الحصاد، نعم.
تعلّق ذهنه بالكلمة، فإذا به لا يفعل سوى استدعاء الذكريات.
“…لقد أعادني ذلك إلى الماضي.”
“أيّ شيء تعني؟”
“حين يحلّ موسم الحصاد، يجتمع الكبار جميعًا في الحقول، أليس كذلك؟ فيجتمع الصغار معًا أيضًا… وماذا عساهُم أن يفعلوا؟ كانوا يلهون بما لا يجرؤون على فعله أمام أعين الكبار عادة.”
قال “لهو” لكنه في الحقيقة كان يقصد مغامرات خطيرة.
كانوا يستكشفون التلال الخلفية حيث تكثر الوحوش، أو يخرجون خارج حدود المقاطعة ليمثلوا حروبًا وهمية.
والآن إذ يستعيد ذلك الماضي، تعجّب كيف أنهم خرجوا أحياء من تلك الحماقات.
“إذن كنتم مشاغبين.”
ارتجف قلب إيريك.
كلمات صاحبة المطعم –التي كانت تصرخ كلما رأت أولئك الصبية: “أيها المشاغبون!”– عادت إلى ذاكرته فجأة.
فأطرق رأسه إلى الأسفل، ولشدّة حرجِه لم يجد ما يقوله، فاكتفى بالإسراع في تناول طعامه.
لكنّ تيريا بدا عليها التردّد.
لا سبيل لوصف حالتها أفضل من قول إنّها كانت تُقلّب الطعام في طبقها وتشيح ببصرها نحوه عبثًا.
“…هل عندك ما تودّين قوله؟”
“آه.”
شُدّت أصابعها على السكين، ثم تحرّكت شفتاها ببطء قبل أن تنطق:
“هل… هل لي أن أطلب منك أمرًا واحدًا؟”
تساءل إيريك في نفسه ما عساه يكون هذا الطلب الذي تحتاط له كثيرًا.
ومع ذلك أجاب وقد بدا على وجهه شيء من الفضول:
“تفضّلي. ما دامت في حدود استطاعتي فسأبذل غاية الجهد.”
“يتعلّق الأمر بمهرجان الحصاد.”
“مهرجان الحصاد….”
ارتسمت صور قديمة في ذاكرته.
كان مهرجان ويبين يمتد أربعة أيام، بدءًا من نهاية موسم الحصاد.
تُوزّع فيه الخمور والحبوب تكريمًا للفلاحين الذين عملوا طوال العام.
وكان من يتولّى أمره دومًا أبوه.
لم تكن تلك أجمل ذكرياته.
ففي أيام المهرجان كان أبوه يغيب عن البيت أكثر من أي وقت آخر.
“هل ثمة مشكلة في المهرجان؟”
“إن شئت فقل إنها مشكلة. فالمهرجان ما زال تحت رعاية أسرة فورتمان. وفي الليلة الأخيرة يجب أن يُلقي ربّ الأسرة كلمة أمام الجميع.”
“نعم، أذكر شيئًا من ذلك.”
“العام الماضي، بعد وفاة السيد الراحل، كنتُ أنا من قام بذلك الدور. غير أن هذا العام…”
حينها فقط أدرك إيريك مرادها.
“أتريدين أن أتولى إلقاء الكلمة؟”
“…نعم.”
توقّف كلّ ما في يدها.
فكر إيريك قليلًا.
هل من الصواب أن يقوم بدور ربّ الأسرة وهو قد حسم أمره على الرحيل؟ أليس الأولى أن تظلّ هي القائمة على ذلك؟
كلّما أعاد النظر وجد نفسه يميل إلى ذلك الرأي.
لكن، أن يرفض طلبها هكذا لم يكن يستسيغه قلبه.
“هـم…”
ألا يمكن أن يكون ثمة حلّ وسط؟
أخذ يفتّش في ذهنه حتى خطر له طريق.
“ما رأيك لو نفعل هذا؟”
“ماذا تعنون؟”
“في الحقيقة، لا أثق بنفسي في أمر الخطب. غير أني أعلم أنّه من الغريب ألا يظهر أحد آل فورتمان في مثل ذلك المقام. لذلك، لتقومي أنتِ بإلقاء الخطاب، وأقف أنا بجانبك.”
كان حلًّا معقولًا.
فبهذا قد يترك انطباعًا بأنّ السلطة الفعلية في يد تيريا، وفي الوقت نفسه لا يردّ طلبها بالكلية.
غير أنّ القلق راوده من أنّها، بطبعها الصارم، قد لا تقبل بهذا.
“…إن كان هذا ما تريده، فليكن. على الأقل هذا العام.”
لحسن الحظ، بدا أنّها قبلت.
صحيح أنّها أضافت قيدًا: “هذا العام فقط”، لكن ذلك وحده كان كافيًا.
“إذن، فليكن كذلك. وإن احتجتِ إلى شيء يخصّ المهرجان، فأخبري ألديو. فهو أعلم مني بتفاصيله.”
“نعم.”
أومأت تيريا برأسها.
—
هناك شيء مختلف. شيء غريب.
غاصت تيريا في تلك الفكرة.
ولم يكن ذلك من فراغ.
صحيح أنّه يوم التقيا أول مرة لم يُخفِ امتعاضه، وما زال يعدّها من أهل ويبين، لكن بخلاف ذلك، بدا إيريك أكثر لينًا مما عهدته.
بعبارة أخرى، كان سلوكه يثير في نفسها *توقعًا*.
يكفي أن نتذكّر اعتذاره عن السنوات العشر الماضية.
حين قال بجدية إنّه آسف لأنه رحل، وإنّ رحيله لم يكن بسببها.
لقد أذهلها حينها لدرجة أنّها نسيت التحكم في ملامح وجهها.
والآن، لمجرد استعادة ذلك الموقف، أخذ قلبها يخفق بقوة.
وشعرت بحرارة تتصاعد إلى وجهها.
لم تعلم أكانت كلماته صادقة، لكن رغبةً دفينة بدأت تتحرّك في داخلها.
‘أفلا يكون حقًا لا يكرهني؟’
ذلك الخاطر أبى أن يغادر عقلها.
طلبها منه بشأن المهرجان لم يكن إلا امتدادًا لذلك التوقع.
نعم، كان المبرر “ضرورة حضور ربّ آل فورتمان”.
لكنها لم تستطع إنكار أنّ وراء ذلك رغبة شخصية صغيرة.
وما خطر ببالها على الفور كان الاحتفال الذي يلي الخطاب.
*…احتفال الهُويا.*
في تلك الليلة، يُشعل في ساحة البلدة موقد ضخم، ويرقص الناس حوله.
كانت قد شهدت ذلك المشهد مرارًا منذ طفولتها، ومنذ زمن بعيد كانت تتخيل إيريك إلى جوارها في ذلك المهرجان.
فهل يمكن أن يتحقق ذلك الحلم الآن؟
إن لم يكن يبغضها، فهي تتمنى ذلك بشدة.
طبعًا، ساقه المصابة تمنعه من الرقص، وهي لا تطلب منه المستحيل.
كل ما تريده أن يشاركها الجلوس هناك وحسب.
ولشدّة ما سرت في جسدها حرارة، وضعت راحتها على وجنتيها لتخفف من وهجها.
ولولا أنها وحدها في مكتبها، لكان كبح هذه المشاعر قد استنزف كل قواها.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات