إيريك عاش كل يوم بصدقٍ وامتلاء.
فكل لحظة يعيشها الآن مع تيريا في ويبين كانت جميلة بما يكفي لأن تُعاش فورًا، لا أن تُؤجل للغد.
كانت سعادته اليوم لا تحتمل التأجيل.
ما كان يتعلمه هو واجبات الزوج، وأدوار الأب، ومسؤوليات السيد الإقطاعي.
غاص في هذا الامتلاء أسبوعًا، وثلاثة أيام فوقه.
ثم جاءت اللحظة:
『حان وقت عودتك.』
كان لا بد من مواجهة الأمر المؤجل.
—
تسلّم الرسالة في صباحٍ باكر.
بينما كان ينظر من نافذة مكتبه إلى حقول القمح الصيفية الخضراء، التي أضاءت الأرض كلها بنضارتها، ثبّت إيريك عزيمته.
‘لا بد أن أخبرها.’
أمر لا يمكن تأجيله أكثر.
فالخطوط الأمامية قد تغاضت كثيرًا عن غيابه من أجل راحته.
كانت تيريا تقضي أيامها مشغولة بتلقّي شتى دروس التربية استعدادًا للطفل القادم.
ظن إيريك أن اللقاء معها سيكون في وقت الغداء.
لكن كل ما شعر به كان تردّدًا يثقُل صدره.
مع أنه أمر متوقع، إلا أن لفظ كلمة “سأرحل” بدا شديد الصعوبة.
وبينما كان يحاول اختيار الكلمات، خانته عقارب الساعة التي لا تعرف الرحمة إلا في مثل هذه الأوقات.
“سيدي، لقد عادت السيدة.”
“سأنزل حالًا.”
“أأعدّ الطعام الآن؟”
“نعم، افعل.”
خرج إيريك من المكتب ونزل إلى الطابق الأول.
فرأى تيريا قد هبطت من العربة عائدة إلى القصر.
“لقد عدتِ.”
ابتسم وهو يقولها، فتقدمت تيريا وعانقته عناقًا خفيفًا.
“هل أنهيت عملك الصباحي؟”
“نعم.”
“لم تؤجله كعادتك، صحيح؟ أو ربما أخطأت في الحسابات…؟”
“لا، لا شيء من ذلك. يبدو أن زوجتي لا تثق بي كثيرًا.”
“لو أنك لم ترتكب أخطاء كثيرة في الماضي، لربما وثقتُ بك أكثر.”
كانت ملامتها مازحة، لكنها تركت في قلبه شعورًا غريبًا بالوخز.
“دعينا نأكل أولًا. هيا.”
قادها إلى قاعة الطعام.
كانت تيريا تتناول طعامًا خاصًا بالحوامل. لم يكن إيريك يدري أن ثمة نظامًا كهذا أصلًا، لكن الطبيب الذي جلبه إدوارد غيّر نظام حياتها من الألف إلى الياء ليلائم الجنين.
“ألا تجدينه صعبًا؟ أو لعل الطعام لا يروق لك؟”
سألها بقلق، فأجابت من دون تردّد:
“أريد أن آكل ما يحبه طفلنا.”
كان في صوتها دفء لا يُخفى.
إن كان ذلك موقفًا أموميًا، فقد كان أموميًا بحق.
وإن كان تيريًّا خالصًا، فهو تيريٌّ أصيل.
‘إنها تبذل كل جهدها من أجل الطفل. ومن أجل هذا البيت أيضًا.’
فامتلأ قلبه بالفرح… لكن الكلمات العالقة في حلقه ازدادت ثِقلاً.
وصار حتى بلع اللقمة أمرًا عسيرًا.
“سيدي.”
“أ، نعم.”
رفع إيريك رأسه حين نادته.
كانت تيريا تبتسم ابتسامة رقيقة.
“أليس لديك ما تود قوله لي؟”
ارتجف طرف أصابعه حتى ارتطم الملعق بالطبق.
‘كيف؟ هل بدا الأمر واضحًا لهذه الدرجة؟’
“سمعت من كبير الخدم أنك تلقيت رسالة من الغرب.”
“…آه.”
‘ألديو، لعله هو الذي أفشى الأمر.’
ارتسمت على شفتي إيريك ابتسامة مرة.
“كبير الخدم هذا… لسانه خفيف أكثر مما ينبغي.”
“بل هو يعرف أين تكمن الكلمة الفصل. أراه حكيمًا.”
“لا حليف لي إذن.”
“يكفيك أن يكون حليفك شخصًا واحدًا، وهو أنا.”
لماذا إذن، كلما تبادلا دعابةً خفيفة كهذه، خفّ التوتر في صدره فجأة؟
نظر إلى ابتسامتها فأدرك شيئًا.
‘لقد كانت مستعدة لهذا.
هذه الابتسامة، وهذه اللحظة… كلها استعداد لتخفيف الحمل عني.’
لم يكن في قلبه سوى الامتنان.
امتنان لا يعرف كيف يعبّر عنه بالكلمات.
“…غدًا سأرحل.”
“إذن، عليك أن ترتاح جيدًا اليوم.”
“أريد أن أقضي الوقت معك.”
“نعم، سأفرغ كل جدولي.”
نظر إيريك إلى يد تيريا.
كانت تحرّك أدوات الطعام، لكن أصابعها ترتجف قليلًا.
—
كان يعلم أنها لا ترغب في هذه الرحلة.
وبصراحة، هو أيضًا لم يكن يرغب فيها… لكن ماذا بوسعه أن يفعل؟
لم يكن أمامه خيار آخر، وما كان ذلك إلا باعثًا على الأسى.
لهذا قرر أن يملأ هذا اليوم بكل ما يستطيع.
لم يفارق جانبها لحظة، تحدثا عن الطفل، عن المستقبل، وعن بعضهما.
حتى حين أرخى الليل سدوله ودخلا غرفة النوم، لم تنقطع أحاديثهما.
كان ذلك أشبه بتعهدٍ لنفسه: أن يعود حيًّا مهما كان.
“كيف هو نومك هذه الأيام؟”
“كما تعرف، أنام دومًا نومًا عميقًا، فلا فرق.”
“أما أنا… فلا أنام بسهولة.”
“…هل عادات نومي مزعجة إلى هذا الحد؟”
“بل أراها سحرًا خاصًا بك.”
“يكفي مجاملات فارغة.”
ظل إيريك يتأمل طويلًا تيريا، وهي مستلقية تستند على ذراعه.
كان قلبه يعيد التذكير: أنه سيغيب عنها طويلًا، ما دام سيذهب إلى ساحة الحرب.
مرّر يده على خدها، وشعر بأنفاسها.
وحين أخذ رأسها يثقل بالنعاس، صمت تمامًا.
وحين نامت أخيرًا، محا من ذهنه كل فكرة، لئلا ينسى دفء جسدها في حضنه.
ظلّ على هذا الحال طويلًا، حتى همس في داخله:
‘ثلاثة.’
‘نحن ثلاثة الآن. ثلاثة أشياء عليّ أن أحميها إلى الأبد. ما لا يجب أن أفلت يدي منه أبدًا.’
بيتي… الذي يجب أن أحميه مهما كانت المصاعب.
الذي إن لزم الأمر، أهب له حياتي، وأضع ملكيته في يده.
تيريا… والطفل الذي في أحشائها.
هما ما يُكمل إيريك فورتمان.
الدفء، والنبض، يهمسان له: “لست وحدك.”
وهذا كان هو الوحي.
“آه…”
شعر وكأنه فهم شيئًا.
صفا عقله فجأة، وانبعثت من قلبه قوة المانا تخفق فرِحة وتنتشر في جسده كله.
وفي تلك اللحظة أيقن، بدافع غريزي:
‘…أيها سيد السيف، كنتَ مخطئًا.’
—
كان صباح اليوم التالي صاخبًا.
وقف إيريك بثياب خفيفة أمام القصر، مستعدًا للمغادرة، فاجتمع كل أهل ويبين لتوديعه.
“عد منتصرًا!”
“سيدي الصغيررر!!! لا تجرح نفسك…”
“أنت مجددًا تبدأ بالنواح! أغلق فمك!”
“يا سيدي الإقطاعي! نحن نؤمن بك!”
“إيريك! اسحقهم جميعًا وارجع!”
كان الجميع يهتف في ضوضاء، لكن وجوههم كلها مشرقة بابتسامة.
إلا أن عيني ألديو بدتا دامعتين.
‘يا للغرابة… لطالما ناداني بالسيد الإقطاعي، لكنه الآن يهتف “سيدي الصغير”.
هل يراني طفلًا في هذه اللحظة؟’
سُحب إيريك خارج القصر على يد كبيرة الخادمات في لحظة.
وكان الأمر غريبًا ما بين البهجة والعاطفة الغامرة.
إذ شعر بامتنانٍ عظيم لأن الجميع هناك لم يشكّ لحظة في عودته سالمًا.
“كم سيستغرق الأمر برأيك؟”
سألت تيريا، وما زالت يدهما متشابكتين.
فكّر إيريك في مجرى الحرب:
إمدادات الإمبراطورية المحاصرة التي تنفد، الروح المعنوية المتدهورة، الملائكة السماويون الباقون في العاصمة، ثم سيّد السيف…
كم من الوقت سيستغرق ليسحق كل ذلك دفعةً واحدة؟
أجاب أخيرًا:
“قبل موسم حصاد القمح.”
اليوم الذي يتلوّن فيه ويبين بالذهب، تمامًا كما كان يوم لقائهما من جديد.
ذلك اليوم، سيعودان معًا إلى هذا القصر.
“هذا العام، سأكون أنا من يعمل في موسم الحصاد.”
قالها إيريك وهو يعانق تيريا، ثم ما لبث أن ابتعد قليلًا ليُدخل يده في صدره.
“احتفظي بهذا.”
وأخرج خنجرًا صغيرًا ذا نصل مطفأ، وقدّمه لها.
كان شيئًا عزيزًا عليه يومًا، كأنه جزء من جسده، وظلّ شاهدًا على ماضيه وظلاله الثقيلة.
“ما هذا؟”
“إنه تميمة.”
“تميمة، تعني…؟”
“كلما ضاق صدري في ساحة القتال، كنت أخرجه وأقبض عليه بقوة. عندها يهدأ قلبي.”
“إذن، يجب أن تأخذه معك.”
قالت وهي تعيد الخنجر إلى يده.
لكن إيريك هز رأسه رفضًا.
“لا حاجة لي به.”
فلم يعد هناك ما يخيفه من ظلال الماضي.
“لم أعد أحتاجه أنا… بل أنت من قد تحتاجينه الآن.
فإن جاءك القلق، فتمسكي به وادعي لأجلي. هذا يكفيني.”
كانت الإستنارة الذي لامسته في تلك الليلة الماضية ما زالت تتقد في داخله، توقظ نبضه وتجعل كل شيء أمامه أكثر وضوحًا.
“سأعود.”
قالها، ثم استدار ليمضي.
وضَحِك في نفسه قليلًا…
لأنه طوال حياته لم يغادر ويبين سوى ثلاث مرات، ولم يقل من قبل كلمة “سأعود”.
—
شششششـــ!
على الجبهة الغربية، في معسكر تحالف الممالك.
دخل القطار إلى المحطة.
سأل جيرديا وهو جالس على مقعده:
“هل هذا هو القطار الصحيح؟”
“نعم، إن استخدم التذكرة التي أرسلتها له، فهو ذاك بعينه.”
أجاب إدوارد بانحناءة مهذّبة.
لكن الحقيقة أن جيرديا كان قد توقع سلفًا أن إيريك موجود في هذا القطار.
فمنذ لحظة دخوله، كانت طاقة غريبة وغير مألوفة تتفجر من داخله وتملأ المكان.
وكيف له أن تخطئ عينه ذلك التفرّد؟
ومع ذلك، كان لسؤاله سبب واحد:
‘ألم يخرج ليستريح؟’
المانا المتصاعد من القطار لم يكن مجرد مختلف…
بل كان من نوع لم يختبره طوال مئةٍ وعشرين عامًا من حياته.
كانت هذه هي المرة الثانية فقط التي يشعر بهذا العجز التام أمام قوة شخص آخر.
المرة الأولى كانت أمام “سيّد السيف”.
لكن مانا إيريك لم يكن مشابهًا لمانا ذلك الرجل.
بل كان نقيضًا تامًا له، خصائصه مختلفة إلى حد لا يُوصف.
شششششـــ!
انفتحت أبواب القطار، وبينما الأفكار تتقاطع في ذهنه، خرج منه رجل.
رأى جيرديا وجهه، فتفجرت في داخله نشوة غريبة.
‘آه… لن أستطيع أن أهزمه.’
نعم، لم يكن بوسعه أن يهزمه.
ولا حتى سيّد السيف يستطيع هزيمته.
“ما الذي جاء بكَ لاستقبالي بنفسك؟”
في تلك اللحظة، شعر جيرديا بأن كل التعلّق الذي تبقّى له في هذه الحياة قد زال.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل "101"