المسؤولية والواجب (5)
هالة الإنسان
كانت هناك ما يُسمى بـ “هالة الشخص”، أو ما يُشار إليه أحيانًا بـ “الأورا” أو “الطَّبْع”.
رغم أنها غير ملموسة، إلا أن أحدًا لا يشك في وجودها.
فالناس يعرفون كيف تتشكل.
مثلًا، تتخذ تجاعيد الشخص الشرير شكلًا يعكس شروره المتراكمة عبر السنين.
أما من قضى حياته ضاحكًا، فتبقى ابتسامته محفورة في تجاعيده، نابضةً بالود.
فالهالة، في النهاية، هي منحوتةٌ تُشكّلها مسيرةُ حياة الإنسان.
ومن هذا المنظور، كانت هالة إيريك المفاجئة استثنائيةً تمامًا.
عندما أظهر مشاعره، تحوّل تمامًا، وكأنه شخص آخر.
في عيني الزوجين ويبين، أصبحت هيئته حادَّةً كالسيف.
لم تكن مجرد خشونة، بل كأنه نصلٌ متوهجٌ يُلوّح به أمام أعينهم.
هالةٌ تقول: “هذا الرجل قادر على القتل.”
بل وقد قتل من قبل.
<اعتقد حسو بنية قتل شي زي كذا>
وهذا حقيقي.
فإيريك قتل الكثيرين.
وقضى أكثر من نصف حياته في أماكن لا تُعَدُّ فيها الأرواح ثمينةً.
تعلَّم في سنوات تكوينه أن يُبقي نفسه حيَّا بدماء وأجساد الآخرين.
<سنوات تكوينه يقصدون المرحلة من المراهقه للبلوغ يتكون عقل وشخصية الشخص>
تعلَّم مقارنة الأرواح بالمال.
وتعلَّم أن هذا الأمر ليس بالكبير.
بالمعنى الدقيق، كان وحشًا.
وحشًا بِسُمعةٍ كافية ليُلقَّب “شبح السيف” لفظاعته في القتال.
فليس غريبًا أن يتوتر الزوجان ويبين، اللذان عاشا حياةً بلا عنف، أمام هذا التحول المفاجئ.
فالهالة، في النهاية، انعكاسٌ لِما يُفكّر فيه الآخرون:
“هذا الشخص ودود.”
“هذا الشخص خطير.”
وهذه الغريزة تتعمق مع الخبرة.
وكأرستقراطيين قضيا حياتهما يقرآن تعابير الوجوه، لم يفوتهما تغيُّر إيريك.
—
“سألتُ: ماذا ستفعلون؟ أجباني!”
رغم أن وجهه كان ما يزال مبتسمًا، إلا أن هيئته جعلتهما يتجمدان رعبًا.
لكن في هذه اللحظة، ظهر فرقٌ جوهريٌّ بين من عرفوا العنف… ومن لم يعرفوه.
جنود ساحة المعركة، حيث برز إيريك، كانوا يخافونه.
لأنهم عرفوا أن السيف يقتل.
وعرفوا أن العنف لا يعرف الرحمة.
وعرفوا حدة سيفه، فكانوا يفرون بمجرد رؤيته.
أما الزوجان ويبين…
فقد عاشا حياةً بعيدةً كل البعد عن العنف.
في مجتمعٍ يُنكر الفظاظة، لكنه لا يُعاقب عليها جسديًّا.
في مجتمعٍ يعتبر العنف دنيئًا.
حتى خلافاتهم كانت تُحل بالكلمات.
لم يعرفا قط كم هو مخيفٌ أن تواجه الموت.
لم يدركا كم من السهل أن يموت الإنسان.
أو كم هو بسيطٌ قتلُ شخصٍ ما.
أو أن هناك أناسًا يقتلون وكأنهم يشربون الماء.
“الكلب الصغير لا يعرف خوف النمر!”
لماذا يُقال هذا المثل؟
لأن الجرو ينبح على نمرٍ أكبر منه بعشر مرات، دون أن يفهم الخطر الحقيقي.
المواجهة غريبةٌ عليه.
فهو يتجمد، ليس خوفًا، بل إهانةً لكبريائه.
ففي عالمه الآمن، يعتقد أن النمر مجرد إنسانٍ كبيرٍ آخر لن يؤذيه.
وهذا بالضبط ما حدث مع الزوجين ويبين.
—
“هل انتهيتَ من كلامك؟!”
صاح بارون ويبين بأعلى صوته.
عيناه تحدقان، ووجهه مقطبٌ تمامًا، في تعبيرٍ واضحٍ عن التهديد.
لكن هذا كان رد فعلٍ غريزيًّا…
لأنهما في العمق كانا خائفين.
نِبالةُ الوُحوش.. وَعَواءُ الكِلاب!
كان ذلك عواءَ كلبٍ يُحاول إثباتَ أنه لا يخاف.
محاولةٌ يلعق فيها كرامته الجريحة ليواسي نفسه.
وهذا كان أعمقَ الفروق بين إيريك وهذين الاثنين.
“إذا انتهيت من كلامي.. فماذا ستفعل؟”
كان إيريك هادئًا تمامًا.
صوته ناعمٌ، ووجهه غيرُ متجهّم، وجسده ما زال غارقًا في الأريكة.
لم يُعطِ إيريك أيَّ قيمةٍ لصياح جوزيف ويبين.
لأنه يعرف طريقةً أكثرَ فعاليةً وحسمًا.
ما عليه إلا أن يُخرج سلاحه ويُنهي الأمر.
لهذا، لم يُضِع وقته في إظهار الغضب.
كما قال له إلبيرث غراهام ذات مرة:
“الوحش الحقيقي لا يتباهى بقوته.. لأنه يعرف أن كلَّ ما يحتاج إلى التباهي به.. ليس بقوةٍ أصلًا.”
هذه الكلمات سمعها إيريك أثناء رحلة صيدٍ رافقه فيها غراهام.
والآن، بعد أن كبر، فهم أن الهدوءَ قد يكون التهديدَ الأكبر.
“سأسألكم سؤالًا: هل لديكم أيُّ أساسٍ قانونيٍّ لمطالبتكم بالميراث؟ لا أتحدث عن أسبابٍ عاطفية.. بل عن مستندات.”
في الواقع، موقف إيريك كان أقوى.
فهو يعرف أن حقَّ الميراث له وحده.
فمهما حاولوا التدخل في رغبة والده الراحل.. لن يُجدي ذلك نفعًا.
نواياهم كانت واضحةً كالشمس:
– ملابسهم الفاخرة (الأكثر بهرجةً مما كانت عليه قبل عشر سنوات).
– عيونهم الحمراء المتعطشة للمال.
– وَجَلهم الخفي.
كانوا يتضوّرون جوعًا للمال.
“ألا يوجد أيُّ سبب؟”
وحتى لو لم يكن الميراثُ في الصورة.. فإيريك كان الطرفَ الأقوى.
“يبدو أنه لا يوجد.”
عائلة فورتمان هي مصدر تمويل عائلة ويبين.
وإيريك، باعتباره الابن الأكبر، هو من يمسك بزمام هذا التمويل.
لو أراد، كان بإمكانه تجويعهم حتى الموت بسهولة.
بالطبع، إيريك نفسه لم يُقرر بعد ما إذا كان سيبقى في أراضي ويبين.. لكنهم لا يعرفون ذلك.
أصبح الزوجان ويبين كالأبكم الذي ابتلع العسل.. صامتين.
ابتسم إيريك ببرود:
“يبدو أن الطمع الزائد.. هو ما تفعلونه أنتم.”
“أيها الوغد العفن..!”
“عليك أن تنتبه لكلماتك.”
ارتجف جوزيف ويبين فجأة.
أحيانًا، يأتي الخوفُ والوعيُ بالخطر.. مع العقلانية.
بينما كان غارقًا في مشاعره، لم يلاحظ الحقائق التي همست له الآن:
“هذا الرجل لا يُهزم بالصراخ أو العاطفة.”
كان واضحًا أنه إن تحوّل إيريك إلى هذا الوضع العقلاني.. فليس لهم إلا الزحف على بطونهم.
أخيرًا، تذكّر جوزيف هذه الحقيقة.
نهض إيريك متكئًا على عصاه:
“رغم غيابي عشر سنوات.. فأنا لا زلت فورتمان. أنا الوريث الشرعي الذي عيّنه والدي. وأنتم.. تعيشون على أموال عائلتنا. لا أظنّني بحاجةٍ لأن أشرح هذا كله.”
ثم فجأةً، شعر إيريك بضحكةٍ ساخرةٍ تخرج منه:
“في الحقيقة.. هذا مُضحك. أليس الحقُّ في الميراثِ لزوجتي وحدها؟ فكيف ادّعيتموه لكم؟ أتريدون مقابِلَ تربيتها؟”
تذكّر كلماتٍ قالها له ويبين قبل عشر سنوات..
الكلمات التي جعلته يقرر الهرب:
“اِدفعْ ثمنَ تربيتِها.”
ربما لم يصرّحوا بهذا الكلام مباشرةً لتيريا.. لكن سلوكهم كان كافيًا.
حتى لو لم يُعبّروا عنه بالكلمات.. فهي بالتأكيد شعرت بهذا من نظراتهم.
الشَّبَه يُذكّـر.. والانتقامُ يُرضي!
التشابهُ بين البشر يُسهِّل التفاهم.
لكن ما انبثق فجأةً في ذهن إيريك كان شيئًا أقربَ إلى الانتقامِ المُرضي لذاته.
“اِدفعْ ثمنَ ما أطعمناك.. ولا تَطمعْ فيما ليس لك.”
من بين كل الكلمات القاسية التي سمعها في حياته، كانت كلمات والده الأقسى.
والسخرية هنا أنه في هذه اللحظة، قلَّد إيريك الرجلَ الذي كرهه طوال حياته.
“سأذهب الآن.”
بضربةٍ خفيفةٍ من عصاه، همَّ إيريك بمغادرة غرفة الاستقبال.
وفي تلك اللحظة—
“أتظنُّ أنك ستُفلت بهذا؟! أتعرفُ مع من تتحدث؟!”
صاح جوزيف ويبين، مثل كلبٍ يعوي، لكنه لم يجرؤ على تحريك قبضته.
التفت إيريك نحوه، ورأى وجهًا أحمرَ مهينًا.
فقال وهو يبتسم:
“حاول.. افعل ما تشاء. سأكون في انتظارك.”
ظلَّ إيريك هادئًا حتى النهاية، لأنه لم يشعر بأي تهديدٍ حقيقي.
حتى لو حاولوا ضربه من الخلف..
فلن يكونوا أقسى من ساحات القتال في الغرب.
“لكن اعلم شيئًا واحدًا.. أنا لا أعطي فرصًا ثانية.”
بهذه الكلمات، غادر إيريك الغرفة.
وبينما كان الباب يُغلق خلفه—
“آآآآه!!!”
ارتفع صوت صراخٍ رفيع، كأنه صراخ فتاة.
<اعتقد هذا تشببه استهزاء عليهم هم صرخو بس مثل فتاة وليس رجل>
—
كانت العربة تتجه عائدةً إلى قصر فورتمان.
أخذ إيريك يتأمل المناظر الطبيعية العابرة، مستعيدًا أحداث زيارة عائلة ويبين.
ما شعر به كان الخجلَ والاشمئزازَ من نفسه.
احمرَّ وجهه خجلاً.
“أنا حقًّا عديمُ حياء.”
بصراحة، رغم معاملته القاسية لهم، لم يكن إيريك أفضلَ منهم.
فهو، مثلهم، مذنبٌ في حق تيريا.
حتى لو افترض أنها غادرت القصر بالفعل، فهل هذا يُبرِّئه؟
إن لم تكن قد غادرت، فسيكون تهرُّبه جبنًا لا أكثر.
ماذا عليه أن يفعل ليكون مختلفًا عنهم؟
“توقف قليلًا، من فضلك.”
توقفت العربة أمام حقول القمح التابعة لعائلة فورتمان.
كانت تيريا هناك.
التقت عيناها بعينيه بينما كانت تفحص المحصول.
أومأت برأسها، ثم استدارت لمواصلة عملها.
نزل إيريك من العربة وسار نحوها.
كان السير في تربة الحقل أصعبَ من الطريق المُعدّ للعربات.
“اسمعي.”
لم يستطع مناداتها بـ”زوجتي”.. شعر أن ذلك وقاحة.
نظرت تيريا إليه مرة أخرى.
“نعم.”
كانت إجابتها جافة، مختلفةً تمامًا عن والديها اللذين رآهما للتو.
ربما لهذا السبب كان يشعر باسترخاءٍ غير معتاد.
ابتسم لها إيريك بهدوءٍ أكثر من المعتاد:
“هل تتناولين العشاء معي الليلة؟ لدي حديثٌ أريد مشاركتكِ إياه.”
“ألا يمكننا الحديث هنا؟”
“لا أريد مقاطعة عملك.”
كان متوترًا قليلًا.
“ماذا لو رفضت؟”
انتظر بقلقٍ أن تفتح شفتيها، ثم تنفَّس الصعداء عند ردها:
“إذا كنتَ لا تمانع التأخير قليلًا.. فلا بأس.”
أشرق وجه إيريك.
“شكرًا لكِ.. إذن أراكِ المساء.”
“مَن صنع العقدَ عليه أن يحلَّه.”
قرر إيريك أن يعتذر لها الليلة عن هروبه قبل عشر سنوات.
التعليقات لهذا الفصل " 10"