لم تكن له هيئة ملموسة، غير أنّ أحدًا لم يشكّ يومًا في وجوده.
لأن الجميع يعلم كيف يتكوّن الانطباع.
فعلى سبيل المثال، تجاعيد المرء سيّئ الطبع تنحفر بقدر السنين التي قضى فيها يقطّب وجهه.
وأمّا من قضى عمره مبتسمًا، فإن ابتسامته تترسّب في ثنايا وجهه لتبعث جوًّا من الألفة.
فالأجواء في نهاية الأمر ما هي إلا منحوتة تشكّلت من حياة عاشها المرء، صقلتها الأيام صقلًا.
ومن هذا المنظور، كان الانطباع المتحوّل لإيريك فريدًا.
فمجرّد أن يُظهر عاطفة ما، يبرز له وجه يختلف اختلافًا بيّنًا عمّا كان قبل لحظة.
في نظر الزوجين ويبين، كان جوّ إيريك حادًّا.
لا بمجرد الخشونة، بل كأنّه أشبه بشفرة لامعة تتأرجح أمام العيون.
هالةٌ توحي بأنه قد يقتل إنسانًا، أو ربما سبق له أن فعل.
وكان ذلك صحيحًا.
إيريك قتل عددًا هائلًا من الناس.
بل قضى نصف حياته تقريبًا في أمكنة يُعدّ فيها القتل أمرًا عاديًّا لا يُؤبَه له.
لقد تعلّم في طور تكوين ذاته أن يحيا على دماء ولحوم الآخرين.
وتعلّم كيف يضع المال في كفّة، وأرواح البشر في كفّة أخرى.
وتعلّم أن هذه الأمور ليست ذات بال.
وبالمعنى الدقيق للكلمة، كان سفّاحًا.
بل رجلًا لوّح بسيفه في وحشية أقرب إلى الأشباح، حتى لُقّب بـ ‘شيطان السيف’.
فليس غريبًا أن يتوتّر الزوجان ويبين من تبدّل هالة إيريك، وقد عاشا عمرًا كاملًا بعيدين عن تلك الأمور.
فالأجواء، أليست امتدادًا لفكرة تخطر ببال المرء وهو ينظر إلى آخر: ‘هذا الإنسان يبدو ودودًا’، أو ‘ذلك يبدو خطيرًا’؟
وهذه القدرة على إدراك الطباع لا تزداد إلا صلابة كلما خاض الإنسان المجتمع، وخبر الناس.
فالزوجان، وقد عاشا كأرستقراطيين يتأمّلون وجوه الآخرين طوال حياتهما، لم يفُتهما ذلك التبدّل في مزاج إيريك، بل لعلّهما شعرا به أضعافًا مضاعفة.
قال إيريك: “سألتكم إن كان لا مفرّ. أجيباني الآن.”
ظلّ وجهه مبتسمًا، لكن المرء لا يملك إلا أن ينكمش بلا وعي أمامه.
وفي مثل هذا الموقف، ظهر جليًّا الفرق بين أصناف البشر.
ذلك فرق يصنعه اختلاف البيئات التي عاشوها.
فالجنود الذين خاضوا ساحات القتال مع إيريك كانوا يهابونه.
إذ يعلمون أن الطعنة بالسيف تعني الموت، ويعلمون أن العنف لا يعرف الرحمة، ويعلمون كم كانت سيوف إيريك حادّة.
ولذلك كانوا يفرّون مذعورين لمجرّد ظهوره.
لكن الزوجين ويبين لم يكونا كذلك.
فقد عاشا عمريهما في أبعد ما يكون عن العنف.
في مجتمع إن شتمت فيه لسانًا جُوبهت باللوم لا بالضرب.
في مجتمع يرى العنف وضاعةً، ويحلّ نزاعاته بالكلام.
إنهما لا يعرفان مدى رعب العنف.
لا يعلمان كم هو يسير أن يموت المرء، ولا كم هو بسيط أن يُقتل إنسان.
ولا يعلمان أن في العالم أناسًا يتعاملون مع القتل كما يتعاملون مع شرب الماء.
ولهذا قيل: جرو اليوم لا يعرف رهبة النمر.
وإلا، فلماذا ينبح جرو ضئيل في وجه نمر يفوقه أضعافًا؟
إنما لأن القتل أمر غريب عليه.
ففي مواجهة جوّ حادٍّ كهذا، لا يشعران بالخوف قدر ما يشعران بجرحٍ في كبريائهما.
والجرو الذي نشأ في حظيرة آمنة يظنّ أن النمر ليس إلا بشرًا عاديًّا ضخمًا لن يؤذيه.
وهكذا كان الزوجان ويبين.
صرخ أحدهما: “لقد قلتُ ما عندي الآن!”
كانت نبرته أرفع من أي وقت مضى.
وكانت عيناه الجاحظتان وتجاعيد وجهه المقطّبة بوضوح رسالة تهديد لا تحتمل الشك.
كان انكماشه فعلًا غريزيًّا، وقد شعر هو نفسه بالخزي منه.
لقد كان أشبه بمحاولة جروٍ يائس أن يتباهى قائلاً: ‘أنظروا كم أنا مخيف!’
فما فعله لم يكن إلا لعق كبرياءٍ جريح طلبًا للتعزية.
وذلك هو الفارق الأكبر بين إيريك وبينهم.
قال إيريك بهدوء: “إن انتهيتما، فماذا عساكما تفعلان؟”
كان مطمئنًا.
صوته رقيق، ملامحه غير قاسية، وجسده ما يزال غارقًا في أريكة وثيرة.
فهو لم يرَ في رفع الصوت -كما فعل جوزيف- أمرًا يستحق أدنى معنى.
ذلك أنّه كان يعرف وسيلة أبسط وأوضح: يكفي أن يشهر سلاحه ويقضي على خصمه.
لذلك لم يحتج إلى إظهار غضبٍ لا طائل تحته.
وقد وُصفت هذه الحال بلغة إلبيرت غراهام ذات مرة بهذا القول:
‘المفترس لا يتباهى بسلطته، لأنه يدرك أنّ ما يحتاج إلى التباهي ليس سلطة حقيقية.’
كان إيريك قد سمع هذه الكلمات حين رافق غراهام في مهرجان صيد وهو غلام.
والآن، وقد كبر، أدرك أنّ السكينة قد تكون التهديد الأعظم.
قال: “أسألكما: هل لديكما مستند قانوني، لا عاطفي، يثبت أحقيتكما في الميراث؟”
وكان الواقع أنّ إيريك هو الأرجح كفّة.
إذ كان يعلم أن حق الميراث يخصّه هو.
فما الذي يستطيعان أن يفعلاه أمام وصيّة الميت؟
إنّ نواياهما مكشوفة تمامًا.
ملابسهما الأبهى مقارنة بما كانا عليه قبل عشر سنوات، عيونهما المتلهّفة على المال، لمحة الاضطراب في سلوكهما… كل ذلك أظهر أنّهما يرزحان تحت ضائقة مالية.
قال إيريك بابتسامة خفيفة: “إذن لا حجة لديكما؟”
ثم أردف: “حتى لو لم يكن الأمر متعلقًا بالإرث، فأنا بالنسبة لكما الطرف الأقوى.”
أجاب أحدهما: “لا… لا نملك.”
كان فورتمان -الأب- مصدر تمويل آل ويبين.
وإيريك، بصفته الابن الأكبر، هو صاحب اليد الطولى على ذلك المال.
فلو شاء، لتركهما يموتان جوعًا بلا جهد يُذكر.
صحيح أنّه لم يحسم بعد أمر بقائه في أراضي ويبين، لكنهما لم يكونا على علم بذلك.
فغدوا كالأبكم وقد مُلئت أفواههم بالعسل.
ابتسم إيريك ابتسامة واسعة وقال: “طمعكما الفجّ، يبدو أنّه لا يتغير.”
صرخ جوزيف: “أيها الحقير العفن…!”
لكن إيريك قاطعه: “ألا يجدر بك أن تلجم لسانك؟”
فارتجف جسد جوزيف في لحظة.
فالخوف، بل وإحساس الخطر، قد يفتحان باب العقل.
يبرّدان الرأس ويهمسان له بما لم يكن يدركه وهو تحت سطوة انفعالاته.
لقد ظنّ أن بوسعه أن يغلب خصمه بضعف حجّته أو صخب صوته، لكن إيريك، وقد واجهه بعقلانية صارمة، كشف له أنه هو الطرف الأضعف، وأن عليه أن يزحف خاضعًا.
وحينئذٍ فقط أعاد جوزيف إلى ذهنه هذه الحقيقة المرّة.
نهض إيريك مستندًا إلى عصاه وقال:
“لقد غبت عن الديار عشر سنوات، لكني ما أزال فورتمان. أنا الذي نصّبني أبي وارثًا. وأنتم، تعيشون على أموال آل فورتمان. ولست بحاجة أن أشرح أكثر حتى تفهما ذلك.”
وفجأة، ارتسمت على وجهه ابتسامة ساخرة خرجت كضحكة مكتومة.
“لكن ما يدعو للسخرية أنني حين أتفكر في الأمر، أجد أنّ الشخص الوحيد المؤهل لوراثة المال هو زوجتي، لا أنتما. فما الذي يدفعكما إلى عدّه ميراثكما؟ ألترغبان بثمن ما أسميتماه ‘جهد التربية’؟”
وها هنا قفزت إلى ذهنه عبارة سمعها منذ عشر سنوات، تلك التي دفعتْه إلى الهرب آنذاك:
‘سدّد ثمن تربيتك.’
ربما لم يوجّهوا تلك الكلمات صراحةً إلى تيريا، غير أنّ سلوكهم كان يقولها بوضوح.
حتى إن لم ينطقوا بها، فإنها حتمًا شعرت بمغزاها في تعاملهم معها.
والتعاطف شعلة جيّدة لإشعال الإحساس بالمشاركة.
ثم ما لبث أن طفا في صدره شعور أقرب إلى انتقامٍ شخصيّ مشبع بالرضا.
فقال متهكمًا: “سدّدا ثمن ما أطعمتكما إياه، ولا تدعا الطمع يعميكما.”
والأغرب أن أقسى عبارة عرفها إيريك في حياته، والتي لطالما أبغضها حين صدرت من أبيه، وجد نفسه في هذه اللحظة يعيد صداها بلسانه، مقلّدًا إياه.
قال إيريك: “سأغادر الآن.”
وهو يطرق الأرض بعصاه، همّ بمغادرة غرفة الاستقبال.
لكن في تلك اللحظة صرخ جوزيف وهو يتخبّط:
“تظنّ أنك ستخرج سالمًا بعد كل هذا! أتعلم من أنا؟!”
كان كمن يحتضر، لم يجرؤ حتى على رفع قبضته.
فالتفت إليه إيريك، ورأى وجهه المحتقن وقد بدا رثًّا بائسًا.
ابتسم إيريك وقال:
“جرّب. افعل ما تشاء. أنا بانتظارك.”
حتى النهاية بقي إيريك هادئًا، إذ لم يشعر بأدنى تهديد من كلماته.
بل حتى لو حاول أن يطعنه من الخلف، فهل يُعقل أن يكون أدهى من ميادين القتال في الغرب؟
مستحيل.
ثم أردف إيريك: “لكن تذكّر شيئًا واحدًا… أنا لا أحب أن أحتمل الأمر مرتين.”
وبذلك غادر غرفة الاستقبال.
ثم سُمع خلف الباب المغلق صوت صرخة حادّة، أشبه بعويل فتاة:
“آآآآآآآآآه!!!”
—
كانت العربة تعود إلى قصر فورتمان.
جلس إيريك يتأمّل المشهد المارّ أمامه، مسترجعًا ما جرى في بيت ويبين.
وما غمره كان شعورًا بالخزي والمهانة.
كان وجهه يتوهّج بحرارة.
‘ما أوقحني.’
لقد واجههم على هذا النحو، لكنه لم يرَ نفسه أرفع مقامًا منهم.
فيما يخصّ تيريا، أليس هو مجرمًا مثلهم تمامًا؟
وإن ظنّ أنها قد غادرت القصر منذ زمن، أفذلك مبرّر؟
إن لم يكن الأمر كذلك، فهو ليس إلا تعزية جبانة لنفسه.
فما الذي ينبغي أن يفعله ليكون مختلفًا عنهم؟
قال فجأة: “قف قليلًا.”
فتوقّفت العربة.
كان المكان حقل قمح تابعًا لفورتمان.
وكانت تيريا هناك.
كانت تفتّش السنابل حين وقعت عيناها على إيريك.
انحنت له قليلًا، ثم همّت بأن تعود إلى عملها.
لكن إيريك نزل من العربة واتجه نحوها.
كان السير في تربة الحقل أصعب من الطريق، مما جعل خطواته مثقلة.
قال: “آنسة.”
لم يستطع أن يناديها “زوجتي”، فقد شعر أنّ ذلك وقاحة.
فنظرت إليه تيريا ثانيةً، وأجابته بنبرة يغلّفها الاستغراب:
“نعم.”
وكانت خشونتها هذه على النقيض مما رآه للتوّ في والديها، فأثار فيه شعورًا غريبًا.
وربما كان ذلك سببًا لخفّة التوتر هذه المرّة.
فقال بابتسامة أرقّ من المعتاد:
“هل تودّين أن نتشارك عشاء الليلة؟ عندي ما أرغب أن أبوح به.”
سألته: “ألا يمكنك قوله هنا؟”
فأجاب: “لا أريد أن أقطع عملك.”
ارتبك قليلًا.
فقد كان يخشى أن ترفض دعوته.
وانتظر بشيء من القلق حتى تفتّحت شفتاها، فتنفّس الصعداء من ردّها:
“إن كان في وقت متأخّر قليلًا فلا بأس. لنفعل ذلك.”
عندها أضاء وجهه بابتسامة مشرقة أكثر من ذي قبل.
وقال: “شاكر لك. إذن إلى المساء.”
ويُقال: من عقد عقدةً، فعليه أن يحلّها.
وإيريك في هذه الليلة أراد أن يعتذر عن تلك العشر سنوات التي هجر فيها.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 10"