كنتُ أرتشف الشاي بسعادةٍ غامرة في تلك اللحظة.
“أمّاه.”
جاءني صوتٌ مفاجئ، فرفعتُ الكوب من غير قصد، وكدتُ أن أسكب ما فيه.
“رودسيل……؟ أأتيتَ بهذه السّرعة؟”
“كنتِ تُخطّطين لتعيين مُربّية جديدة ثمّ الفرار؟ أكان هذا قصدكِ؟”
“لَا. لم أُفكّر بالهرب أبدًا يا رودسيل.
لكن ما الّذي جاء بكَ مُبكّرًا؟ ألم تقل إنّك ذاهب لقطف الزّهور؟”
حينها أدركتُ بوضوح. لو حاولتُ الفرار كيفما كان، فسوف يُقبَضُ عليّ ثانيةً.
ذلك الرّجل الّذي هو زوجي، والّذي لم يُظهر أيّ اكتراثٍ بِنيديا من قبل، ما إن يعزم، فلن أفلح بالهرب.
ولهذا كنتُ أنوي إدخال الأبطال الحقيقيّين إلى المسرح، لكن رودسيل فهم الأمر خطأً تمامًا.
اقترب الطّفل مني.
“أمّاه.”
حدّقتُ فيه وهو واقفٌ أمامي، وعضضتُ شفتي.
“……نـ- نَعم…….”
“إلى أين أردتِ الهروب هذه المرّة؟ أكنتِ تنوين التخلّي عنّي مجدّدًا؟”
“كلا. أمّك لا يمكن أن تتخلّى عنك أبداً……. هذا مُحال.”
هززتُ رأسي مرارًا نافضةً هذه التّهمة. هذه المرّة بريئة حقًّا.
“……صدقًا؟ أيمكنني الوثوق بكِ؟”
“بالطّبع. لكن لِمَ عدتَ مُبكّرًا؟”
“وأنا في الطريق، صادفتُ طائرًا جميلاً يُشبهك يا أمّاه.”
نظرتُ، فإذا في يده طائرٌ فضّي اللون، ممتلئ الجسم، يرتجف خوفًا.
“حقًّا……؟”
لكن قبضته أخذت تزداد شدّة.
“رودسيل. ألم تجلب الطائر لأجل أُمّك؟ إن أمسكتَه هكذا فسيعاني…….”
أحزنني منظر الطائر المُرتجف العاجز.
“لو تركتُه سيهرب. لذا لا بُدّ أن أُمسك به جيّدًا.
تمامًا كما أفعل معكِ يا أمّاه.”
شعرتُ أنّ في داخله شيئًا مُظلمًا يتفجّر أحيانًا.
بدا طفلًا طبيعيًّا تارة، لكن فجأة يظهر هذا الجانب القاتم. وضعتُ يدي على يده لأجعله يُخفّف قبضته.
“لكن إن شددتَ أكثر فسيموت.”
آنذاك نظر رودسيل إلى الطائر بحزنٍ ظاهر.
الطائر المسكين اختبأ خلف الفنجان وقد فقد قوّته.
“وما المشكلة؟ أليس الموت امتلاكًا كاملًا؟”
“……لا. أرجوكَ، أطلق سراحه الآن.”
عندها فقط تراخَت أصابعه، متحيّرًا. فتهاوى الطائر مترنّحًا نحو صدري كأنّه يُدرك أنّني من أنقذه.
“الموت ليس امتلاكًا يا رودسيل.”
“ولِمَ لا؟ أليس هو الملكيّة المطلقة؟”
“ذاك…….”
أيمكن أن يكون لهذا السّبب قتل رودسيل نيديا في الرّواية؟ لأنّه رأى أنّ موتها يجعله يملكها كليًّا؟
ارتجفتُ.
كلا. هذا فظيع للغاية. كيف يظنّ أنّ التّملّك في الموت……؟
“لو كان الموت امتلاكًا، لما استطعتُ لقاء عينيك، ولا مداعبة شعرك قائلةً كم هو جميل.”
“لكن الموت يُبقيكِ بجانبي إلى الأبد.
وأنتِ دائمًا تحاولين الفرار…… لو مُتِّ فلن تتمكّني من الهرب، وستبقين معي. أمّا النّظر والمديح، فأنا سأمنحكِ إيّاه.”
فيمَ أبدأ وكيف أشرح له؟
“أمّ…… أعني…….”
“لكن لا تقلقي. لن أقتلِك.”
“هاه؟”
جرَّ كُرسيًّا وجلس بجواري، ثمّ مدّ يده يُداعب شعري.
“أنتِ جميلة يا أمّاه.”
“أه……؟”
“الميّت لا يُمكن أن يكون جميلاً. أنا أُحبّ عينيكِ. تُشبهان دمًا ممزوجًا ببحيرة شتويّة.
ولو أردتُ أن أستمرّ برؤيتهما، فلا بُدّ أن تبقي على قيد الحياة، صحيح؟”
مسح بيده على عينيّ برفق.
“هكذا إذن……؟”
“نعم. أبي أيضًا قال إنّكِ جميلة.
وهو يُحبّكِ لأنّكِ مَن اختارها.”
كلمة “اختار” جعلتني أتذكّر أثر “دموع الإلهة”، ذاك الشيء الّذي أثقل صدري لمجرّد رؤيته، فاضطررتُ إلى ختمه.
“هكذا إذن…….”
“لكي أُشاهد عينيكِ طويلًا، لا بُدّ أن تبقي حيّة.”
“صحيح. هذا صحيح.”
“ما دُمتِ لا تُفكّرين بالهرب…… فلن أُفكّر بقتلكِ، فلا تقلقي. الطائر أفلتَ منّي، لكنّكِ أنتِ لَنْ تفلتي. أنتِ ملكي.”
“أه…… أجل. لن أرحل.”
“إذن، عانقيني. ربّتي على رأسي. فهذا ما تفعله الأمّ.”
خشيتُ أن تُسيطر عليه فكرة أكثر خطورة، فسارعتُ إلى مداعبة شعره.
ماذا فعلت نيديا بهذا الطّفل؟ هذا لم يعُد مجرّد تملّك، بل هوس مَرضيّ. المريح الوحيد أنّ هذه الكلمات تنبع من داخله لا من قسر أحد.
“أُحبّكِ يا أمّاه.”
هل هذا حُبّ؟ كيف يقولها ببرودٍ هكذا؟
“قولي إنّكِ تُحبّينني.”
“نعم. أُحبّك يا رودسيل.”
“لَا. قوليها كما كنتِ تقولين قديمًا.”
تذكّرت. لطالما نادت نيديا ابنها هكذا:
“أُحبّك، يا ولدي العزيز.”
“نعم. يا أمّاه. أمّي الحبيبة.”
ابتسم راضيًا، كدميةٍ حيّة بلا روح.
“أجل. ولدي العزيز…….”
“أمّاه. لَا تخافي منّي.”
“ها……؟”
“في الماضي لَمْ أشعر بذلك، لكن الآن أشعر أنّكِ تخافين منّي.
أهذا مجرد وَهم؟ هل أنا مُخيف يا أمّاه؟”
أسرعتُ أنفي برأسي.
“كلا.”
“إذن ابتسمي. انظري إليّ كما لو أنّكِ مأخوذة بي.”
“نعم.”
ما بيدي حيلة. هذا قدري مذ سكنتُ هذا الجسد.
عندها فقط ارتسم الرّضا على ملامحه، ثمّ ابتسم بخجلٍ وركض نحو الباب.
“أمّاه، هذه المرّة سأقطف الأزهار حقًّا.”
“هاه؟ رودسيل؟”
لكن لا جواب.
على وجهه لمعت مشاعرٌ جديدة، فسعى إلى إخفائها بالهرب إلى الخارج.
أرخيتُ جسدي فوق الطاولة.
“هاه…….”
طفلٌ بهذه الرّوعة والجمال، لو لَمْ يكن أسير هوسٍ غريب، لكان محبوبًا بحقّ. ما الّذي جعل نيديا تُفرط في الطّمع؟
ماذا جنت حين جعلت ابنها لا يرى غيرها؟
“أتُفكّرين بأمرٍ ما؟”
في تلك الأثناء، صبّت فيليس الشاي في فنجاني.
“هل ترين رودسيل على ما يُرام؟”
“أأُجيبك بصدق؟ إذن بصدق…… لا، لا يبدو بخير أبدًا. لكن، بطريقةٍ ما، يبدو سعيدًا.”
“كلا. هذا ليس سعادة.”
لا أحد يعرف ما فعلته نيديا بذاك الطّفل.
في الأصل، كانت ساحرة. لكن لَمْ تملك السّحر المعتاد. في عالمٍ يُبجّل السّحرة والأقوياء، من لا يملك قوّة سحرٍ لا مكان له.
وكانت نيديا كذلك. مُجرّد من تُحرّك الطّاقة السّحريّة لا أكثر. لكن بهذا القليل، ألحقت ما ألحقت بابنها.
“النّاس يظنّون أنّ شخصيّة رودسيل تغيّرت.”
لكنّي أعلم أنّ الحقيقة غير ذلك.
“سابقًا كنتِ صامتة تحت وطأة سيّدتِكِ.
الآن، ورغم أنّكِ لا زلتِ غريبة بعض الأحيان، لكنّكِ أصبحتِ قادرةً على التّعبير. ولهذا تبدين أكثر سعادة.”
“إن كان الأمر هكذا، فهذا حسن.”
لو توقّف التّغيير عند هذا الحدّ، لكان أمرًا مُطمئنًا. لكنّ تعديل شخصيّة رودسيل لم يقف هنا.
“طالما أنّكِ عدتِ، فسيكون بخير.”
“صحيح؟ نعم. هذا جيّد. كُلّ شيء سيتحسّن.”
نعم. حين أُحضر كلوي وميّا إلى هذا الوقت، سينتهي القلق. وسيتغيّر هوس رودسيل بالتّأكيد.
أقنعتُ نفسي بذلك، ورشفتُ الشاي الحارّ.
“آه، ساخن.”
“منذ عدتِ من الخارج وأنتِ غريبة، يا سيّدتي. لم يسبق أن فعلتِ هذا.”
سارعت فيليس تُقدّم لي ماءً.
“حين يُرهق المرء، يتغيّر، وهذا طبيعيّ.”
“لعلّه كذلك. فأنتِ دائمًا تتغيّرين…… ربّما هذه مرحلة أخرى.”
كانت تحدّق بي متعجّبة، لكنّي تجاهلتُها، ورشفتُ الماء البارد.
في تلك الأثناء، الطائر المختبئ خلف الفنجان أخذ يُنقّر يدي.
“آه. مرحبًا أيّها الطائر. عُد إلى مكانك قبل أن يعود ابني.”
“بيي؟”
أمال رأسه بدهشة وهو ينظر إليّ.
“أفهم أنّك لا تُريد مفارقة مُنقذك. لكن رودسيل سيعود، وسيعود كثيرًا. لذا…….”
لكنه لم يُبدِ رغبةً بالرّحيل.
ظلّ ساكنًا يُحدّق بي فقط.
“يا لَك من طائرٍ ذي ألوانٍ بديعة.”
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 9"