“دوق…”

“نادِني سيهليوس، أو ليوس فقط.”

“ليوس.”

“لو بيدي، لقبلتك الآن فورًا، لكن إن فعلتُ في هذا الوقت… سيظنّونني مختلًّا.”

“آه…”

في هذا الموقف بالذات، مع مرض الطفل، لم يكن هذا الفعل مناسبًا إطلاقًا. يبدو أنّه أدرك ذلك أيضًا، فحدّق بي بملامح محتارة.

“أظنّ أنّني لم أسبق لي أن قبّلتك حبًّا بحقّ.”

أنزلتُ برفق يديه عن وجنتَيَّ، ولعلّه شعر بخيبة أمل، فقد رمقني بعينين يكسوهما الأسى. فتقدّمتُ قليلًا، وطبعتُ على شفتيه قبلةً أنا بدلًا عنه.

تغيّر وجه الدوق سيهليوس بشكل مفاجئ، كأنّه لم يتوقّع هذا الفعل.

“ما زال الوقت مبكرًا. حين يستعيد رودسيل صحّته… حينها، عندها سنفعل أكثر.”

“حينها فقط يُسمح لي؟ أقبّلك… وربما أكثر من ذلك؟”

“نعم، افعلي ذلك.”

وأنا أيضًا أردت ذلك، وأردت أن أؤكّد مشاعري تجاهه بنفس الطريقة.

لكنّ لساني لم يطاوعني لأبوح بذلك، فابتسمت ابتسامةً خجولة.

ولعلّ تلك الابتسامة سرّت إليه، إذ قبّل جبيني بلطف، ثمّ رمقني بعينين حمراوين متلألئتين كالنار.

“أتمنّى أن تنتهي كلّ هذه الأوضاع سريعًا.”

“سينتهي قريبًا. سيستعيد رودسيل صحّته، وسنجعل ذلك يحدث معًا.”

“نعم.”

في ذلك اليوم الذي حُسم فيه قراري، سقينا طفلنا ‘أغنية الليل’.

“أمّي، إن شربت هذا… سأصبح قويًا؟”

“ستصبح أقوى من أيّ أحد. وإن تألّمت كثيرًا، سأحمل عنك ذلك الألم.”

“حسنًا! لا بأس إن تألّمت قليلًا، طالما أنّي لا أجعلك تقلقين يا أمّي.”

كأنّه كان يعلم طبيعة الدواء، ابتلع الطفل الحَبّة البنفسجيّة التي تشبه حبات الرمل البرّاقة، بعد أن مكافحًا ليتغلب على اضطرابه.

ثمّ تمدّدتُ إلى جوار رودسيل.

“تذكُر، يا رودسيل؟ أمّك ستكون دائمًا هنا إلى جانبك لتحميك.”

“أجل، أمّي نادتني، فاستيقظت.”

“وسيحدث ذلك مرّةً أخرى. لذا…”

في تلك اللحظة، انقبض وجه الطفل الذي كان يحدّق بي بعينين متلألئتين.

“أمّي… أمّي…”

“هل تتألّم كثيرًا؟ همم…؟”

“لا، لا بأس… لا بأس يا أمّي…”

رغم الألم الذي بدا عليه، استمرّ في القول إنّه بخير وهو ينظر إليّ.

هل هذا ما يجب أن يحدث حقًا؟ أيمكن أنّ ‘أغنية الليل’ تؤلمه بسبب السحر الأسود الذي استعملته عليه سابقًا؟

بدأ وجه رودسيل يبهت شيئًا فشيئًا، فضممتُه إلى صدري بحنان.

لكنّ قلبي تمزّق حين رأيت عرق الجبين يتصبّب من جسده.

إن استخدمتُ سحر الشفاء الآن، ألا يُبطل مفعول الدواء؟

“أمّي… احضنيني… كما المرة السابقة…”

“سأفعل يا صغيري. نم قليلًا، وعندما تستيقظ ستتحسّن.”

في تلك اللحظة، دخل سيهليوس الغرفة بعد اتّصالٍ من القصر الإمبراطوري.

ومن دون أي تردّد، استلقى بجانب الطفل، وضمّنا معًا بين ذراعيه.

لم يفعل شيئًا كهذا من قبل، كان الأمر غريبًا عليه، لكنه بدا جميلًا، أن يكون هناك من يشاركك رعاية الطفل.

“لن يحدث له شيء يا رودسيل. نم بعمق، وعندما تستيقظ، لن تتألّم بعد اليوم.”

“الآن أستطيع النوم، لأنّ أبي هنا… لم أستطع قبلها، لأنّ وجه أمّي بدا حزينًا جدًّا…”

“حسنًا، نم بهدوء يا بُني.”

“سأنام إذًا… أبي… أمّي… طابت ليلتكما…”

ومع هذه الكلمات، غفا رودسيل بعمق.

هززتُه قليلًا، لكنه لم يستفق.

“الطفل… لا يستجيب. هل هو بخير؟ هل يحدث له شيء؟”

“اهدئي. ألا ترين أنّ ملامحه بدأت ترتاح؟”

“آه…”

نظرتُ إليه مجددًا، وحقًا، بدا وجهه أهدأ بكثير من ذي قبل.

“هو بخير، أليس كذلك؟ حقًا؟”

“نعم. الآن يحلم حلمًا جميلًا.”

لكن جسده ظلّ مبلّلًا بالعرق، ساخنًا جدًا.

بدت حالته من الخارج وكأنها عَرَضٌ جانبي خطير، فارتجف قلبي خوفًا.

“ليوس…”

“نعم.”

“إن كنت أملك قوّة الشفاء… هل يجب أن أستعملها الآن؟”

“لا.”

“لماذا؟”

“قوّة الشفاء التي تمتلكها القدّيسات تزيل كلّ ما هو سيّئ. 

وما في جسد رودسيل الآن هو ‘أغنية الليل’ نفسها. لذا دعي الأمر، ولا تقلقي كثيرًا، نيديا.”

لم يسأل عن السبب، بل اكتفى بأن يضمّني وطفلنا معًا.

“تُرى أيّ حلمٍ يراه رودسيل الآن؟ أيّ الأحلام تُسعده أكثر؟”

“ربما حلمٌ نخرج فيه نحن الثلاثة في نزهة…”

“حين يشفى، سنفعل ذلك.”

“ونرسم لوحةً عائليّة أيضًا. في بيت الدوق لا توجد لنا لوحة عائلة بعد، فقط تمثال.”

تابعنا الحديث لنخفّف قلقنا، وسيهليوس بدا وكأنّه يفهم مشاعري، فانساق معي بالكلام.

“ذاك…”

“لم أظن أنّك تحفظين ملامحي إلى هذا الحدّ.”

“لأنني كنت أرسمك دائمًا… في ذهني، في عيني، في قلبي.”

“إنّه الحبّ إذًا… حبّ عميق جدًا لدرجة الاختناق. وهل زال ضيق صدرك الآن؟”

“لا، بل ازداد.”

أمسكتُ يده التي كانت تطوّق جسد الطفل.

“هل هذا أمرٌ سيّئ؟”

“لا… لقد فهمت سبب ذلك الضيق.”

“وما هو؟”

“كان الشوق.”

“آه…”

تجمّدت الكلمات في حلقي، واحمرّ وجهي شيئًا فشيئًا، وكنت ممتنة لأن رودسيل أمامنا يُخفينا عن بعضنا.

“حين خطر في بالي أنّي قد لا أراك ثانيةً، شعرت بالاختناق.”

“وماذا عن اختناقك الآن؟”

“إنّه اختناق العجز، لأنّي لا أستطيع أن أُخفّف عنكِ قلقكِ. وحين وضعت نفسي مكانكِ، فهمت السبب. لم تكن المشاعر منفصلة، بل كانت كلها حبًّا.”

“آه…”

“كلّ شيءٍ كان حبًّا، ولم أكن أدرك. الآن أدركت. لا أعدك أن أتقن الحبّ، لكنّي سأحبه كما يجب. لن أدعك ترحلين عنّي.”

“حتى لو اضطررتَ إلى منعي من المشي لأبقيني قربك؟”

ضحك ساخرًا.

“قلبي يريد ذلك، لكنّي لن أفعل. سأجعل بقربكِ لا أحد. لن أقيدك في قفص، ولن أقطع جناحيك، لكنّي سأجعل شوقك لي وحدي. فلا تذهبي. كلّ ما قلته من قبل كان مظهرًا، هذه حقيقتي.”

“لن أذهب. ربما لم أمنحك الثقة الكافية، لذا ما زلت تخاف.”

“صحيح. لذا أرجوكِ، لا تذهبي لأي مكان.”

كم كانت كلماته مؤلمة، مليئة بالشوق. صوته بقي هادئًا، لكن مشاعره كانت أعمق من أي وقت مضى.

“لن أذهب. حتى لو طلبت ذلك، سأبقى.”

حينها راودتني الرغبة في البوح بسرّي.

“ليوس.”

“نعم.”

كان صوت رودسيل ما يزال هادئًا، فارتجف صوتي وأنا أنظر إليه.

“في الحقيقة، ما قالته كلوي عن علاج رودسيل… كان صحيحًا.”

“أهكذا؟”

“لا أراك متأثرًا كثيرًا.”

“لأنّه الآن لم يعد أمرًا مهمًّا.”

“حتى لو كانت قوّة تشفي كلّ داء؟ ألا تراها مهمة؟”

“كلا. أنت أهمّ عندي من أي قوّة. وبدونها سأُنقذ ابني.”

نظرت إليه وهو يجلس خلف رودسيل.

“حقًا يا نيديا. إنّها قوّة لا ضرورة لها بعد الآن، فابننا لن يتألّم بعد اليوم.”

“لكن ماذا لو كانت تلك القوّة عندي أنا؟”

“همم…؟”

“القوّة التي كان يفترض أن تكون لكلوي… صارت لي.”

“ما تقولين؟ أتمتلكين قوّة الشفاء؟”

“نعم.”

كان يومًا من تلك الليالي التي تريدين فيها البوح بكل ما في قلبك، فقلت كل شيء.

ولأول مرة تجمّد وجهه بعدما قال قبل لحظات إنّه لا يهتمّ بهذه القوّة.

“كانت كلوي تبحث عن دموع الحاكم باستمرار… يبدو أنّها كانت المفتاح للحصول على تلك القوّة. وبفضلك أصبحت أنا من يملكها.”