أطلق تنهيدةً عميقةً مليئةً بالأسى.

“حقًّا، كنتُ أبًا أحمقًا. لم أكن أعلم أنّ هذا الحدث سيقع. حين لاحظتُ أنّ جسد الطّفل يختلف عن المعتاد، وسألته، بدا جسد رودسيل سليمًا تمامًا. لذا قرّرتُ أن أراقبه عن كثب.”

“آه…”

بالفعل، من الغريب أن يكون الوالدان غير منتبهين لتغيّر طفلهما، حتى لو كانا لا يوليان اهتمامًا كبيرًا له.

“إذن… لهذا السبب كنتَ باردًا معي طوال ذلك الوقت… لأنّي أمارس السّحر الأسود، أليس كذلك؟”

ربّما كان هذا يبرّر الأمر، ويمنح نيديا سببًا مشروعًا لشعورها بالرفض من قبلك، لكنّ الدوق هزّ رأسه بلا أي تردّد.

“كلا. لم يكن لذلك أي علاقة بالسّحر الأسود. كلّ ما في الأمر أنّ قلبي هو من أمرني بذلك.”

“قلْتَ إنّ قلبك هو من أمرك؟ أيّ أنّك شعرت بالنّفور منّي دون أي تدخل للسّحر الأسود؟”

“نعم. لم يكن الأمر كذلك منذ البداية، لكن حين اكتشفتُ الحقيقة، اجتاحني شعورٌ بالخيبة. وربّما كان رفضي لك منذ بدايات زواجنا بسبب شعورٍ بالإحباط وفقدان الاهتمام، لا بسبب مشكلة السّحر الأسود.”

تحوّل الحديث فجأة إلى اعترافٍ صريح، لكنّ نيديا لم تشعر بأيّ كراهية، بل أحست بصفاء داخلي لطيف، وكأنها تكتشف لأوّل مرّة ما كان يختلج في قلبه.

“على أيّ حال، بما أنّكِ أدركتِ خطأكِ وتوقّفتِ عنه، فلن أتطرّق إليه مجددًا. ومع ذلك… بفضل السّحر الأسود الذي استخدمته، استطاع رودسيل أن يحتفظ ببعض مشاعره حتّى هذا العمر.”

“هل تقصد أنّه لولا ذلك لفقدها كلّها؟”

“نعم. وإنْ تناول يومًا زهرة (أغنية اللّيل)، فسيخسر المزيد من مشاعره… لكن المشاعر يمكن تعلّمها. ولحسن حظّه، بوجود أم صالحة، سيستعيد توازنه دون شكّ.”

“تعلّم المشاعر؟”

“تمامًا. يصبح كالصفحة البيضاء. وبعد أن نجى من الموت، جعل الجنون الذي أصاب عائلتنا الدّوقية الأمور أكثر تماسكًا.”

“ماذا تعني بذلك؟”

“دوقٌ بلا مشاعر… يصل إلى حدّ الكمال الحقيقي.”

تذكرت نيديا مقولةً شائعة عن عائلة الدّوق: “حتى لو طُعنوا بالسّيوف، فلن يقطر منهم دمٌ واحد.” أدركت أنّها لم تكن مبالغة.

“لأنّهم يفقدون الإحساس والمشاعر معًا.”

“وكذلك أنت؟”

“نعم. كنتُ كذلك تمامًا. لذا، لا أشعر بالألم إلّا إذا كانت الجراح كبيرة جدًّا. لا أعلم أنّي تأذّيت إلّا حين أرى الدم يتدفّق. من جانبٍ ما، هذا كان مناسبًا لي.”

“لكنّي أعني المشاعر نفسها. هل الحياة بلا مشاعر ممتعة حقًّا؟”

بدأت ملامحه تهتزّ قليلًا وهو يمسك زهرة (أغنية اللّيل) بين يديه.

“اعتقدتُ أنّها كذلك. لم أمتلك أمًّا صالحة مثلكِ. وبعد أن فقدتُ مشاعري، لم يكن هناك من يزرعها من جديد في قلبي. وحتى والديّ، كانا يظنّان أنّ هذا طبيعيّ لعائلة الدّوق، فلم يقدما لي أيّ شيء. ولا ألومهما على ذلك.”

‘لماذا يختنق قلبي هكذا؟’

“أأنتِ حقًّا بخير؟”

“نعم، كنتُ بخير. لكن حين رأيتكِ مع رودسيل، فكّرت: لو كان هناك من أحبّني كما تحبين أنت ابنك، كيف كانت ستكون حياتي؟ بعد أن فقدتُ مشاعري، كانت أمّي تنظر إليّ كما لو أنّي وحش. لم أكن أشعر بالحزن ولا بالفرح ولا بالألم، كنتُ صفحةً بيضاء فقط…”

تردّد صوته، فمدّت نيديا يدها تلقائيًا لتقبض على يده.

“مع تقدّم العمر، بدأت أتعلم المشاعر تدريجيًا. وحتى الآن، لستُ كاملًا. كنتُ لا أهتمّ بما يحدث للآخرين. البشر بالنسبة إليّ أدوات أستخدمها إذا احتجتُهم، وأتخلّى عنهم إذا لم أعد بحاجة إليهم.”

“لكنّي كنتُ أراك شخصًا مليئًا بالعواطف.”

ربّما لهذا السبب قال لي ذات مرّة إن أحبّ أحدًا لأتخلّص من شعوري بالاختناق… لأنّه لم يكن يفهم المشاعر بشكل صحيح.

“حين أكون معكِ، شعرت بالمشاعر. شعرت بالاختناق، وبأن صدري يتمزّق. علمت أنّ هذا هو الحزن. وكلّما خطرّتِ ببالي، علمت أنّ هذا هو الشوق. انشقّ قلبي، وتدفّقت منه أحاسيس لم أعرفها من قبل.”

“آه…”

“لا تزالين لا تصدّقينني، أليس كذلك؟ في الماضي رفضتكِ. كنتُ أبحث فقط عن امرأة تلد وريثًا وتعيش حياة هادئة، لكنّ عائلتك كانت تطلب مني أشياء كثيرة لم أفهم سببها، فشعرت بالغضب والضجر.”

تذكّرت نيديا حين التقت بوالدها من جديد، الكونت زيغمنت، وكيف طالب الدّوق بأمور كثيرة وكأنّها من حقّه. لم يكن مستغربًا أن يضغط عليه كثيرًا.

“وفي تلك الظروف، كنتِ تُلحّين عليّ بالحب. كنتُ أراك عبئًا وثقيلاً على قلبي.”

“أفهم الآن…”

“ثمّ تغيّرتُ. أحببتكِ. الجنون الذي سلب قلبي أعاد لي الحياة من جديد، ونمت زهرة الحبّ داخلي. استغرق الأمر وقتًا طويلًا لأدرك أنّ ما أشعر به هو الحبّ الحقيقي.”

منذ البداية، ظنّت نيديا أنّه يخطط لها الشرّ، كما في القصّة، وأنّه يريد موتها فقط لتؤدّي دورها، لكنّ الواقع كان مختلفًا.

أدركت أنّه ليس من الماضي ولا المستقبل، بل إنسان يعيش الحاضر، صادقًا ومخلصًا.

وكان حبه لها صادقًا كاملًا.

“أتُحبّني حقًّا؟”

“أتمنّى لكِ السعادة.”

“أنا؟”

“لست أقولها مجرّد كلمات. إن لم تكوني سعيدة بجانبي، سأتركك تمضين. لا أريدك فقط إلى جانبي، بل أريدك سعيدة، أينما كنتِ. حين رأيتك تنهارين وتفقدين وعيك، أدركت ذلك تمامًا.”

ابتسم بحزنٍ خفيف.

“قلت لنفسي: إن فتحتْ عينيها مجددًا، سأفعل أيّ شيء لأجلها. فقط لتعيشي. حتى لو لم تكوني بجانبي. حين رأيتك تسهرين بجانب رودسيل طوال الليل، شعرت بالضيق، لكنّني تمنيت فقط أن ترتاحي. والآن أعلم أنّي لا أستطيع الابتعاد عنك ولو لحظة.”

“آه…”

“أُحبّك يا نيديا. لكنّي لا أطلب منك قبول حبي، ولا أن تُحبّيني بالمقابل.”

الآن فهمت يقينًا أنّ حبه لها كان صادقًا.

إنّه يحبّها، وهي تحبه أيضًا.

وليس هذا صدى قلب نيديا القديم، بل من قلبها هي.

كما يُقال: إن طرقتَ باب القلب مرارًا، سيفتح. وقد انفتح قلبها بصدق مشاعره، فاحمرّت خجلاً.

“أنا… آسفة. لأجل ما فعلته بالسّحر الأسود على الطّفل…”

“لقد مضى ذلك الآن. كان فعلًا خاطئًا، لكنّك تندمين عليه، أليس كذلك؟ وهذا يكفي. أنا أيضًا لم أتحدّث عن جنوني.”

“ولم لم تتحدّث عنه؟”

“في البداية ظننت أنّه أمر لا بدّ منه. كما فعل والديّ، فكرت أنّه إذا ظهرت أعراض الجنون على الطّفل، سأخبره حينها. ثمّ حين علمت أنّكِ استخدمتِ السحر الأسود، لم أشأ أن أتكلّم أصلًا. وبعدها…”

“بعدها ماذا؟”

نثر زهرة (أغنية الليل) الذابلة على الأرض، ثم التفت إليّ بعينيه الصافيتين.

“رأيت كم تحبين رودسيل. ولأنك تحبين ابنك إلى درجة أنّك ستتألمين إذا علمت أنّه يحمل دمي، لم أرِد أن أزيد ألمك. كنت أنوي فقط أن أتناول السم وأنهي الأمر بصمت. عن قصد أو غير قصد، كنت قد سببت لك ما يكفي من الألم. ولأنك تحبين رودسيل أكثر من نفسك، كنت مجرمًا بالنسبة إليك.”

“آه…”

كل كلمة منه كانت تخترق قلبها كالسّكاكين.

“أنا أيضًا… مجرمة.”

“كلا. لا تقلقي بعد الآن. يمكن علاج الجنون.”

كرهه لنيديا بسبب ما فعلته بابنه كان مفهومًا تمامًا.

“فما الذي علينا فعله الآن؟”

“افعلي ما تشائين. إن لم تريدي أن تعطيه السم، فسأخاطر بكل شيء لأجد طريقًا آخر. وسأنجح. فلا تُثقلي على نفسك.”

“وهل هناك حقًا طريق آخر؟”

“أظن أنّه وُجد.”

بدا بريق في عينيه.

“وُجد؟ ماذا تعني؟”

“تلك المرأة قالت إنها قادرة على شفاء رودسيل من الجنون.”

“مستحيل…”

“نعم، كلوي قالت ذلك.”

ربما كان هذا الخيار الوحيد الصحيح لمن يعرف المستقبل: أن يخبر الدوق بالحقيقة.