تجمّدتْ ملامحُه فجأةً، وارتسمَتْ بين حاجبَيْه علاماتُ انقباضٍ غير متوقَّعة.
“أتُريدين ألّا يكون بيننا حتى مجرّد تلامس؟”
“نَعَمْ.
لا لمس، ولا تدخّل، ولا مراقبة من أيّ طرف.
كلٌّ منّا يعيش كما يشاء، بلا اكتراث بما يفعله الآخر.”
ولأني لم أُطِق ثِقَل نظراته، صرفتُ بصري إلى الطفل.
وفوق ذلك، لم يزُل عن نفسي القلقُ من أن يكون سبب اصطحاب الدوق لي أنّه اكتشف أمر هذه الرواية، ويُريد أن يتركني فريسةً لرودسيل كي يقتلني، فتعود الأحداث لمسارها الأول.
كان ذلك الخوف جاثمًا في داخلي، يضغط أكثر فأكثر.
ولشدّ ما استغربتُ نبرته الثقيلة حين قال:
“ما زالتْ عيناكِ لا تُبصران إلا رودسيل.”
“ماذا؟”
“دَعينا نرتاح. قطعْنا مسافةً طويلة، والعودة ستستغرق وقتًا.”
ولم يقل بعد ذلك شيئًا، ولم أُضِف أنا حرفًا.
ساد صمتٌ خانق إلى أن وصلنا قصر الدوق. والأسوأ أنّ النوم جافاني، فدخلتُ القصر بعينين ساهرتين.
—
ما إن توقفت العربة وفُتح بابها، حتّى نزل زوجي السابق أوّلًا، ومدّ يده إليّ ليُساعدني كما لو أنّه يُرافقني.
لكنّي تجاهلتُه، ونزلتُ بخطواتٍ ثابتة.
“لقد صرتِ خشنةً حقًّا، لا تُشبهين دوقة كما ينبغي.”
“هذا طبعٌ أصيل فيّ.”
فرغم أن كلّ ذكريات نيديا وتعاليمها مطبوعة في عقلي، فإنّي لا أريد أن أحيا أسيرة لها. ففي زمننا هذا، لِمَ أظلّ مُقيّدة خانعة؟
“جيد.”
وبينما يتكلم، كان رودسيل يفتح عينيه بتثاقل، ثمّ نهض مترنّحًا وتبعني.
وفجأة…
أنزلوا من عربة الأمتعة الكاهن والكاهنة. الكاهن جُرَّ مُكبّلًا كما يُجرّ المذنبون، أما الكاهنة فترجّلت متردّدة، قلقة الملامح.
“لِمَ جئتُم بي إلى هنا؟ لِماذا؟!”
كانت نظراتها شاردة مضطربة.
“لِمَ جلبتموها؟”
“فقط.”
“فقط؟”
قد يكون مفهومًا أن يُساق الكاهن لمحاكمته على ما صنع بي، لكن ما الجدوى من إحضار هذه الكاهنة المرتجفة كالعصفور؟
“أردتُ أن تُدرِكَ مَن تجرّأتْ على احتقارِه. أن تفهم أنّها ليست إلّا لا شيء، وأنها لا تملك الحق في أن تزدري من يفوقها.”
“هل فعلتَ هذا لأجلي؟”
كدتُ أُبدي تأثّرًا.
لكنّه نفى بصرامة:
“لا. إنما أنا أستلذّ حين أرى يأس البشر.
وهذه الكاهنة، التي وُكِل إليها خدمة الحاكم، انساقت خلف رجلٍ وازدرَت غيرها بكبرياء، فلْتذقْ الآن عاقبة غرورها وندمها.”
“وكيف عرفتَ كل هذا؟”
كنتُ قد اكتشفتُ أنّ الكاهنة مغرمة بالكاهن، ولهذا كانت تُعادي كلّ امرأة تقترب من المعبد.
حتى أنّ كثيراتٍ ممن شغلن منصبها قبلاً تركْن بسبب بطشها.
والأعجب أنّها بنفسها أخبرتني بهذا، وكأنّها تُهدّدني: “إن لم تحتَمِلي فارحلي.” غير أنّي تمسّكتُ بالحياة، واحتملتُ كلّ مَهانة.
‘أنا، التي كنتُ يومًا دوقة، صبرتُ حتّى على تنظيف القاذورات، كي لا أموت.’
ولأنّها شؤون داخلية، ظننتُ أنّه لن يطّلع عليها.
“قليلٌ من التحقيق يكشف كلَّ شيء. هل تظنّين أنّي أجهل؟”
نعم، بلا شك، معلوماته لا يُستهان بها.
ثمّ أردف:
“لقد انفضّ الناس عن المعبد بسبب أفعال الكاهن، بل شاع أنّه يعيش مع الكاهنة وكأنها زوجته.”
وألقى نظرة على الكاهنة التي كانت تتطلّع إلى الكاهن بقلق.
“أفعلتُ كل هذا لأجلك؟”
“وإن يكن؟”
كانت نبرته متبجّحة، ومع ذلك لم يُشبه ذاك الرجل الذي عرفتُه.
“لا يليق بك هذا.”
“وما الذي يليق بي؟”
“أن تظلّ غير مبالٍ بي. ذاك ما اعتدتُه منك. أرجوكَ ابقَ هكذا. مهما وقع لي، لا تتدخّل. لي حياتي، ولك حياتك.”
“حياتان منفصلتان إذن.”
بدا الأسى على وجهه، لكنّي تجاهلتُه، وأمسكتُ يد رودسيل.
“فلندخل.”
“نعم!”
وقد أفاق الصغير من نومه، فتعلّق بي بيديه الدافئتين الصغيرتين. حاولتُ أن أُبعد قلبي عنه، لكنّه أخذ يتسلّل إلى داخلي شيئًا فشيئًا.
ذلك التمسّك الرقيق حمل في طيّاته شعورًا صادقًا بالحنان.
“نيديا.”
اعترضني الدوق قبل أن أخطو.
“ماذا هناك؟”
“لن أصفح عمّن آذاكِ. سأجعلهم يذوقون عذابًا يفوق الموت.”
“…….”
“لكن إن رغبتِ، فلن أفعل.”
أيّ عارضٍ أصابه فجأة؟ ما باله تغيّر هكذا؟
“ولمَ الآن؟”
“للمرة الأولى في حياتي. اعتدتُ أن أفعل ما أشاء بلا تردّد، لكن هذه المرّة لا أريد ذلك.”
“أتفعل هذا لمجرد أن تلفت انتباهي؟ لتُظهر لي وجهًا جديدًا وتُبقيني هنا؟”
لِمَ تُصرّ على بقائي؟
صورته الآن تختلف عن ماضيه، حتى أنّه يُنكر مبادئه. وذلك ما زاد خوفي.
“نعم.”
“إذن افعل ما يُريحك.”
لو كان صادقًا في قوله، لأطاعني من البداية حين طلبتُ أن يترك الكاهن. لكنه الآن يقول عكس ما فعل آنذاك.
“كما كنتُ دائمًا.”
ومضيتُ تاركةً إيّاه خلفي، ودخلتُ القصر مع رودسيل. لم أعلم ما ملامح وجهه في تلك اللحظة، لكنّي كنتُ قد أنهيتُ كلامي.
“سيّدتي!!”
“هل أنتِ بخير؟ وجهُكِ شاحب جدًّا…”
“رجاءً، لا تُغادري القصر بعد الآن. ابقَي معنا هنا.”
كان الخدم يستقبلونني بوجوهٍ ممتقعة ودموعٍ تترقرق.
لم تكن علاقتنا تتجاوز سيّدة وخدمًا، لكنّهم أظهروا حفاوةً عجيبة. ولم يكن عندي طاقة لأفكّر في ذلك، إذ أطبق عليّ التعب.
‘ما كنتُ أتوقع عودتي. لقد كان فراري عبثًا.’
شعرتُ أنّي أضعت وقتي.
‘لا، على الأقلّ تيقّنتُ أن الإله لا وجود له.’
فلو كان موجودًا ورأف بي قليلًا، لَما تركني. لم أطلب سوى أن أختفي، أن أخرج من هذه الرواية بهدوء، أن لا يجدني أحد.
لكنه لم يُلبِّ أبسط ما توسلت له.
لا يوجد من يهتم لي في هذا العالم.
وبهذه القناعة، عدتُ إلى غرفة نيديا، وألقيتُ بجسدي على السرير.
صدق المثل: “من يخرج من داره يتعنى.”
‘يا لها من راحة.’
الفراش الوثير، والأغطية الناعمة، وثياب النوم الفاخرة من الحرير، والغرفة المهيّأة بأفضل درجة حرارة ورطوبة. كلّ شيءٍ مرفّه كامل.
وأنا التي اعتدت حياة البساطة، لم أملك إلا أن أشعر بسعادة خالصة.
‘إذًا، لا داعي للهرب مجددًا… والأجدر أن أبحث عن كْلُوي وميّا.’
وما إن جال هذا بخاطري، حتى تذكّرتُ ذلك الحلم.
‘ماذا كان ذلك الحلم؟’
لعلّه مجرّد وهم نسجته نفسي المحبطة.
تقلّبتُ قليلًا، وإذا برودسيل يقف متردّدًا عند سريري.
“أمّي، هل أستطيع أن أنام إلى جوارك؟”
“همم؟”
“أُريد أن أستلقي بقربك، لكنّي أخشى أن تغضبي.”
“ولمَ أغضب؟”
“لأنّ هذا ليس من طِباع والدي.”
“والدك؟ ماذا تعني؟”
أمعنتُ النظر في عينيه.
“أنتِ… لم تكوني تُحبّينني إلا عندما أتصرف كبالغ.
كنتِ دومًا تريدينني أن أُشبه أبي، وألا أتصرف كالأطفال.”
الغريب أنّه حين كنّا بعيدًا عن القصر، تصرّف كطفل، لكن بمجرد عودتنا بدا فاقد الثقة بنفسه.
“هل قلتُ هذا فعلًا؟”
“نعم. إذن… لا يجوز لي، أليس كذلك؟”
رأيتُ تردّده، فربّتُّ على السرير بجانبي.
“تعال.”
“هاه…؟”
“لنَنَمْ معًا. لقد عدتُ بعد زمن، ولا أريد أن أبقى وحدي. هل تملأ فراغ مكاني الليلة؟”
“حقًّا؟”
لم يُكمل الكلمة، حتى اندفع مسرعًا إلى جانبي.
‘أيّ تفكيرٍ كان يَحكم نيديا؟’
أن يكون “كأبيه”؟
مددتُ يدي على رأسه، محاوِلةً إبعاد هذه الفكرة، لكنّها ظلت تُلحّ عليّ.
وأخيرًا انكشف لي السبب.
‘لقد كانت نيديا… عاشقةً للدوق حتى الجنون.’
مجتمع تفاعلي يضم منتديات لمناقشات الروايات، تحليلات المانهوا، الاقتراحات، والإعلانات. هنا يشارك الأعضاء أفكارهم، يتبادلون الآراء، ويصنعون بيئة حوارية حيّة تعكس شغفهم.
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات. هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات. هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة لغيرتها … لم تكن المشكلة اني دخلت القصة او ان روحي في جسد ايفا الشريرة بل المشكلة ان ايفا لديها أربعة وأربعون يوما فقط للعيش وبعدها سيتم قتلها من قبل...مواصلة القراءة →
استيقظت ووجدت روحي -في رواية كنت اقرأها- في جسد الأميرة ايفا ، الشريرة التي كانت تغار من البطلة لانها أقل شأنا منها وتضايقها بافعالها نتيجة...
التعليقات لهذا الفصل " 6"