رمقتُها بنظرةٍ متشكّكة، فقابلتني بأخرى لا تقلّ ريبة، وكأنّ الشكَّ استقرّ في كِلينا.
وأنا غارقةٌ في دوّامة الأفكار، أشرتُ إلى العلبة الصغيرة الموضوعة على الطاولة أمامنا.
“هذه… ألا تذكّرينها؟”
“بلى، أذكر أنّكِ طلبتِ منّي إعدادها، فأحضرتُها كما أمرتِ.”
“لكنّك لا تذكّرين الطائر؟”
“صحيح. أهو طائرٌ مهمّ؟ أأحضره لكِ إن شئتِ؟”
لم يكن في ملامحها ما يوحي بالكذب، فهل يُعقل أن تكون نَسِيَت حقًّا؟
لقد أوكلتُ إليها أمر بيبي بنفسي آنذاك، فكيف يُمحى من ذاكرتها بهذه البساطة؟
تتابعت الأسئلة في رأسي كأنّها وابلٌ لا ينقطع، حتى قطع تسلسُلَها طَرقٌ حادٌّ دوّى من الخارج.
أسرعت إحدى الخادمات لاستطلاع الأمر، ثم عادت بعد لحظاتٍ وملامحها يكسوها القلق، فانحنت لتهمس في أذن فيليس.
فتجمّد وجه فيليس كمن تلقّى صدمةً مباغتة.
“من الطارق؟”
“إنّها الآنسة كلوي، يا سيدتي، تطلب المثول بين يديكِ.”
“آه… لقد نسيتُ أمرها تمامًا.”
“عذرًا؟”
“كلوي، أهي ما تزال تقيم في بيت الدوق؟”
“نعم، يا سيدتي.”
في الحقيقة، لم أُخبر أحدًا بعدُ بقراري الذي اتّخذته وسط تلك الفوضى العارمة: أن أطردها ما إن يتعافى رودسيل.
حدّقت فيليس بي باستفهامٍ واضح.
“أتقصدين أنّها كانت على وشك المغادرة؟”
“نعم.”
“آه، لهذا السبب إذًا…”
“ماذا؟”
“لا شيء يا سيدتي.”
رفعتُ يدي أُمرّرها على ذقني بتأنٍّ وأنا أقول:
“إن كنتِ تظنين أنّ عليّ ألا أراها…”
“بل دَعيها تدخل.”
“لكن يا سيدتي، إن كانت تلك المرأة قد تؤثّر سلبًا على صحتكِ، فالأَولى ألا تريها.”
“اطمئنّي يا فيليس، لا تقلقي.”
ظلّ القلق ماثلًا في عينيها رغم كلماتي.
“صدقيني يا فيليس، أريد أن أحيا زمنًا طويلًا مع ابني.
أتظنّين أنّني سأُعرّض نفسي للخطر بمحض إرادتي؟”
أومأت برأسها ببطء.
“حسنًا إذًا، سأأمر بإدخالها.”
“جيّد. وحين تدخل، أريد أن يغادر الجميع القاعة.”
“كما تأمرين، يا سيدتي.”
بعد دقائق معدودة، فُتِح الباب ودخلت كلوي.
كنتُ شاحبة الوجه بعد مرضي وسقوط رودسيل، أمّا هي فبدت مشرقةً أكثر من ذي قبل، بوجهٍ ممتلئٍ وبشرةٍ نضِرةٍ كأنّها حظيت بعافيةٍ وافرة.
لكنّ وجهها هذه المرّة كان باهتًا كمن شلّه الخوف، أقرب إلى الزرقة منه إلى الصفرة.
خرج الجميع عند دخولها، وحين أُغلق الباب خلفهم، تقدّمت نحوي بخطواتٍ حذرة.
“أأنتِ… استيقظتِ حقًّا؟”
“ولِمَ هذا الاندهاش؟ أكنتِ تظنّين أنّني سأبقى غارقةً في الغيبوبة إلى الأبد؟”
“وهل… السيد الشاب أيضًا استيقظ بخير؟”
سؤالها كان غريبًا.
“نعم، لقد أفاق بخير.”
“لكننا لم نُضِف أيَّ سحرٍ أسودٍ جديد… فكيف استيقظ إذًا؟”
“ولِمَ تسألين؟ أتخشين أن يُطرَد الطفل بعدما تعافى؟”
غير أنّها لم تكن تقصد ذلك.
“ما بالكِ، يا كلوي؟”
“أجيبي فقط يا سيدتي. أحقًّا لم تُضِيفي شيئًا من السحر الأسود، ومع ذلك استيقظ السيد الشاب؟”
لم أجد ما يدعوني إلى الإجابة، لكنّ القلق الذي ارتسم على وجهها جعل إخفاء الحقيقة بلا طائل.
“نعم، هذا صحيح.”
“سيدتي…”
“ماذا بعد؟”
“هل كنتِ مريضة؟”
“كنتُ كذلك. لِمَ؟ أكنتِ تتمنّين موتي كما في القصص القديمة؟”
“هل أصابكِ المرض نفسه الذي أصاب السيد الشاب؟”
تجمّدت في مكاني، وقد تجعّد جبيني دهشةً واستغرابًا.
فالدوق أوصى الجميع بالكتمان. فكيف تسنّى لها أن تعلم؟
“أجيبي، أرجوكِ.”
“ولِمَ كلّ هذه الأسئلة؟ ظننتُ أنّكِ تخشين الطرد بعد أن تعافى رودسيل، لكن يبدو أنّ الأمر أبعد من ذلك… أليس كذلك؟”
“هل كنتِ مريضة مثله؟!”
صرخت فجأة بصوتٍ حادٍّ جعلني أضحك من شدّة الذهول.
“أتصرخين في وجهي؟ أجننتِ؟ كيف ترفعين صوتكِ على دوقة؟”
“الأمرُ مهمٌّ جدًّا بالنسبة إليّ! أرجوكِ، فقط أجيبي: هل كنتِ مريضةً مثل السيد الشاب؟”
“نعم.”
ترنّحت قليلًا عقب جوابي، وكأنّ قواها خذلتها فجأة، فحدّقتُ فيها مأخوذةً لا أفقه ما أصابها.
“ما بكِ؟”
“لا شيء… أستأذن بالانصراف.”
“أتغادرين بعد أن أثرتِ كلَّ هذا اللغط؟ كلوي!”
“وماذا عساني أقول بعد الآن؟”
قالت بحدّةٍ أغاظتني.
“أتظنّين أنّ هذا سلوكٌ يليق بمن تخاطب دوقة؟”
“…”
“لا بأس.
لا أعلم ما الذي جاء بكِ ولا سبب هذه الفوضى التي أثرتِها، لكنّني كدتُ أنساكِ أصلًا.
انتهت المدّة التي اتّفقنا عليها، فاخرجي من بيتي.”
توقّعتُ منها ردًّا عنيفًا، لكنها خفّضت نظرها وقالت بصوتٍ خافت:
“اعتني بنفسكِ يا سيدتي.”
“لن تبقي هنا، شئتِ أم أبيتِ.”
“ومهما قلتِ أنتِ، فلن أخرج.”
قالت كلماتها الأخيرة ومضت بخطواتٍ حاسمة.
لم تمضِ خمس دقائق حتى عادت فيليس مسرعةً تقول:
“هل حدث أمرٌ يا سيدتي؟ لقد سمعنا صراخًا.”
“لا أعلم، فقد غضبت فجأة وغادرت.”
“أحقًّا صرخت في وجهكِ؟!”
بدت الدهشة على وجوه الخادمات، والتفتن نحو الباب كأنّهنّ على وشك الركض خلفها.
“دعنها وشأنها، لا يهمّني أمرها.”
“لكنّها تجاوزت حدّها، يا سيدتي!”
“قولي لي يا فيليس، هل كانت كلوي على علاقةٍ بأحدٍ قد يزوّدها بالأخبار من داخل البيت؟”
عجزتُ عن تفسير تصرّفاتها. بدا كأنّ معرفتها بمرضي كانت أمرًا جللًا عندها.
‘بل إنّ علمها بذلك أصلًا أمرٌ يثير الريبة.’
“أبدًا، يا سيدتي.
لم تكن على علاقةٍ طيّبةٍ بأحد. كما تعلمين، أنا من درّبتها بأمركِ، لكنها كانت ترفض ذلك دومًا، ولهذا ساءت علاقتنا.
بل في اليوم الذي سبَق سقوطكِ، كنتِ آخرَ من رأته، ولهذا اتّهمها الجميع بأنّها السبب في ما حدث لكِ.”
“إذن، هل علمت بمرضي من تلك الحادثة؟”
“ربّما أدركت أنّكِ مريضة، لكنها لا يمكن أن تعرف حالتكِ بالتفصيل.
فهي لا تتواصل مع أحد، حتى الأطباء، والدوق أمرهم بالصمت التام.”
“غريب… ما سرّ ذلك إذًا؟”
هل عليّ أن أستوضح الأمر من الدوق؟
“وكيف كانت كلوي في الآونة الأخيرة؟”
“تعيش في بيت الدوق براحةٍ تامّة، لا تعمل شيئًا، وتفعل ما تشاء، وتخرج متى شاءت.”
“أكانت تخرج كثيرًا؟”
“نعم، وغالبًا ما كانت تصطحب ميا معها.”
“إلى أين تذهبان؟”
وبينما كانت فيليس تصبّ لي شايًا جديدًا مكان الذي برد، قالت:
“إلى المعبد. لكنّ المريب أنّ الكهنة هناك يعاملونها معاملةً خاصّة.”
“كلوي؟”
“نعم، يا سيدتي. كما أخبرتكِ من قبل، أرسلتُ من يتعقّبها في طريقها، وحين وصلت إلى المعبد استقبلها الكهنة بحفاوةٍ بالغة، وأدخلوها بأنفسهم.
لكننا لم نعرف ما جرى داخلًا بعد ذلك.”
“استقبلوها بحفاوة؟”
لماذا تتكاثر الأسئلة يومًا بعد يوم؟
هل كانت كلوي على صلةٍ بالمعبد في الرواية الأصلية؟ لا أذكر شيئًا كهذا.
‘أتراها سئمت انحراف الأحداث عن الرواية، فذهبت بنفسها إلى المعبد بعد لقائنا؟’
أمرٌ يدعو إلى الذهول.
‘أم أنّ الرواية التي تعرفها تختلف عن التي أعرفها؟’
كلّ شيءٍ ما زال غارقًا في الغموض.
“سيدتي، هناك أمرٌ آخر…”
اقتربت فيليس منّي تخفض صوتها كمن يبوح بسرٍّ خطير.
“لم يكن عن قصد، لكننا تلقّينا ذات يوم رسالة كانت موجّهةً إلى كلوي.”
“رسالة؟”
“نعم، يا سيدتي. عادةً تتسلّم بريدها بنفسها، لكن في ذلك اليوم كانت غائبة، فوصلت الرسالة ونحن هنا.”
“وماذا فيها؟”
“كانت من القصر الإمبراطوري.”
“القصر؟!”
“نعم، وكانوا يخاطبونها فيها بلقب (القدّيسة).”
في الرواية، كانت ميا هي التي ترتبط بالعائلة الإمبراطورية وتقع في حبّ وليّ العهد.
لكن كلوي؟ قدّيسة؟
“هذا غريبٌ فعلًا.”
“أجل يا سيدتي، لعلّ هذا ما يفسّر حفاوة المعبد بها.”
“ربّما… لكن لو كانت حقًّا قدّيسة، لكان الخبر ذاع رسميًّا، ولم نسمع شيئًا.
ولسوء الحظّ، لم نتمكّن من معرفة المزيد، لأنّها هرعت وأخذت الرسالة بنفسها، مذعورة.”
“مذعورة؟… فهمت. شكرًا لكِ يا فيليس.”
“لا شكر على واجب، يا سيدتي.”
كنتُ أظنّ أنّ قصّتي ستنتهي حين يستيقظ رودسيل،
لكن يبدو أنّ الأحداث تأبى الانتهاء، وتسلك دروبًا أكثر التواءً وغموضًا.
ما الذي تُخفيه كلوي في طيّات صدرها؟
“يبدو أنّ عليّ أن أزورها بنفسي.”
“ليس الآن يا سيدتي. إن رغبتِ، أستدعيها إليكِ.”
“كلا، ليس بعد. ثمّة ما عليّ التأكّد منه مع الدوق أوّلًا.”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 57"