ورغم أنّي كشفتُ كلَّ شيء، فإنْ عجزتْ عن فعل أيّ شيءٍ بعد ذلك، إنْ فشلتْ تمامًا، فحينها…
سأُحقِن ابني بالسحر الأسود.
حتى لو جُنَّ رودسيل وهاجمني وقتلني، فلا بأس.
يكفيني أن يعيش رودسيل، فذلك وحده كافٍ لي.
بهذا الرجاء المشتعل في صدري، نظرتُ إلى “كلوي” بعيونٍ تتوسّلها بصدق.
“أجل… الملك الواحد، أبريديـا، الذي نؤمن به جميعًا، أليس كذلك؟”
“نعم….”
بدا على ملامح “كلوي” أنّها لم تفهم السبب وراء حديثي المفاجئ هذا.
لقد عزمتُ طوال الليل، وكررتُ العزم مرارًا، ومع ذلك حين حان وقت الكلام، عجزتْ شفتاي عن الحركة.
هل ما أفعله صواب؟
هل ينبغي لي حقًّا أن أكشف الحقيقة؟
لكن لم يكن هناك مفرّ آخر…
لم يبقَ أمامي سوى الصدق الكامل.
“لكن… ربما هو الذي نعرفه، ليس الواحد أبريديـا كما نظنّ.
وربما أيضًا ليس بذلك الكائن العظيم كما نُؤمن.”
كانت الإمبراطورية تؤمن بنسبةٍ تفوق تسعين في المئة بواحدٍ اسمه أبريديـا.
وفي ذلك البلد بالذات، أنكرْته.
“عفوًا… هل تعنين أنّكِ ستُبدّلين دينكِ؟”
“كلا، يا كلوي… الأمر أعقد من ذلك.
قد يكون هذا العالم الذي نحيا فيه في الحقيقة… عالمًا كُتِب بالحروف.
عالمًا خطّه أحدهم بالقلم.
وحينها، لن يكون الملك الحقيقي أبريديـا…
بل الكاتب نفسه.”
كانت لحظةً خاطفة، لكني شعرتُ بارتعاش صوتها.
“ما الذي تقولينه فجأةً يا سيدتي؟ لا أفهم إطلاقًا ما تعنينه…”
“أخبريني، يا كلوي… هل سمعتِ يومًا بمصطلحات مثل: التقمّص أو العودة بالزمن؟”
“تلك… تلك مجرد أفكار تظهر في الروايات التي يقرؤها الناس!”
“وماذا لو كانت ممكنة في الواقع؟
ماذا لو كان هذا العالم نفسه رواية، وأنا… مَن حلَّت روحها في إحدى شخصياتها؟”
لو كانت “فيليس” مكاني الآن، لاندفعت بخيالها على الفور.
كانت ستأخذ كلماتي على محمل الاحتمال وتناقشني بحماسة.
لكن “كلوي” لم تكن كذلك، إذ هزّت رأسها بصرامة.
“هذا مستحيل، يا سيدتي. كلامكِ كالحلم، لا يمكن أن يكون حقيقيًّا. هاها…”
لكن ردّها ذاك هو ما رسّخ يقيني أكثر…
كانت “كلوي” هي المُتقمِّصة بالفعل.
‘إنْ كانت الأمُّ متقمِّصةً، فماذا يكون حالُ ابنتها؟’
تسلّل هذا السؤال فجأةً إلى عقلي.
لو كان الابنُة بطلَة الرواية، أفلا تخبره أمُّه بكلّ شيءٍ عن حقيقتها؟
وحين تذكّرتُ ذلك، عاد إليَّ حلمٌ قديم رأيتُه بعد أن أصبحتُ “نيديا”.
كنتُ قد نسيتُه لأنّه مجرّد حلم، لكن الآن بدا أنّه لم يكن أمرًا عابرًا.
في ذلك الحلم، قالت “ميا” شيئًا عن أنّ مجريات الأمور تغيّرتْ بسبب تدخّلي.
صرخت في وجهي قائلة: “لماذا أنتِ… لماذا… هكذا!”
ربّما لم تكن تلك “ميا” من هذا العالم، بل “ميا” التي تنتمي إلى العالم الذي نسير إليه في المستقبل.
وربّما كانت تلك “ميا” قد سمعتْ من أمّها—منّي—الحقيقةَ نفسها التي أبوح بها الآن لـ”كلوي”.
كلماتها تلك كانت على الأرجح: “لماذا أنتِ متقمِّصة؟!”
ترى… أكان هو الذي كتب هذا العالم العظيم قد توقّع حتى هذه اللحظة التي أكشف فيها لـ”كلوي” سرّي؟
ربما لهذا السبب غضبت “ميا” منّي، لأنني خرّبتُ تسلسل الأحداث كما أراد الكاتب،
لأنّني خالفتُ إرادته في عالمٍ هو روايته، وأنا أحدُ شخصيّاته.
تجمّد تفكيري وشعرتُ برأسي يبرد كالجليد.
كنتُ قد حاولتُ جاهدًا تغيير المصير، لكن يبدو أنّني سأنتهي عند النقطة نفسها التي رسمها الكاتب منذ البداية.
كأنّي سجينة بين السطور، لا مفرّ لي من الحبر الذي يخطّ حياتي.
ومع ذلك… كان عليّ أن أفعلها.
أن أواجه “كلوي” التي تتظاهر بالجهل، وكأنّها لا تدري شيئًا.
“سأكون صريحة، يا كلوي. لماذا لا تستخدمين أيّ قوة؟”
“ماذا؟ لستُ أفهم ما تقولينه، سيدتي…”
“قد تظنين كلامي جنونًا، لكنّي متقمِّصة حقًّا.”
“ماذا؟ متقمِّصة؟”
“نعم.
وقد رأيتُ بالفعل في ذلك العالم، أنّكِ يا كلوي، من سيُشفي ابني.
لهذا أبقيتُكِ إلى جانبي، لأنّي كنتُ أؤمن بأنّكِ تملكين تلك القدرة.
لكن الآن… لا أرى فيكِ أيّ أثرٍ لتلك القوة.”
كانت طوال الوقت تُظهر وجهًا بريئًا وتقول: “أنا لا أعرف شيئًا.”
لكن وجهها تجمّد فجأة.
“لماذا لا تملكينها؟”
“أنا… لا أعلم…”
“تعلمين جيّدًا أنّ تلك القدرة يجب أن تكون لديكِ، أليس كذلك؟
لستُ وحدي من تعرف، بل أنتِ أيضًا. لأنّكِ متقمِّصة مثلي.
إلى متى ستتظاهرين بالجهل؟”
“أنا؟ متقمِّصة؟”
“ألستِ كذلك؟”
إنْ لم تكن متقمِّصة، فسيبدو أنّي أنا المجنونة الوحيدة هنا.
لكن، ليكن!
حتى لو أصبحتُ مجنونةً في نظرهم، فلا يهمّ، ما دام ذلك سيُظهر لي الحقيقة.
“مستحيل! كيف أكون متقمِّصة؟!”
“حسنًا، لا يهمّ إنْ كنتِ كذلك أم لا، يا كلوي.
سؤالي الآن… هل تستطيعين إنقاذ ابني أم لا؟”
“ماذا؟”
“أسألكِ بوضوح: أتمتلكين قوّة الشفاء أم لا؟”
“كيف لي أن أملك مثل هذه القوّة؟
لو كانت لديّ، لكنتُ استخدمتها منذ زمنٍ بعيد!”
“أأنتِ واثقة؟ لا قوّة لديكِ أبدًا؟”
كان ذلك آخر سؤالٍ مني، والفرصة الأخيرة لها.
“نعم، لا أملك شيئًا كهذا.”
“لو استطعتِ أن تشفي ابني بتلك القوّة، لأعطيتُكِ مكاني، ونفّذتُ لكِ كلّ ما تطلبينه.”
ارتجفتْ نظراتُها للحظة، لكنها سرعان ما تماسكت.
“اسمعي، يا كلوي. إنْ اكتشفتُ لاحقًا أنّكِ تملكينها، فسأحطّمكِ بكلّ ما أملك.
أفهِمتِ؟ أليس لديكِ تلك القوّة حقًّا؟”
“قلتُ لكِ… لا أملكها!”
حتى بعدما قلتُ كلّ هذا، ظلّت تنكر بعناد.
نعم، لو كانت تملكها لما وصلنا إلى هذا الحدّ.
يا لي من حمقاء، عمّ كنتُ أرجو إذن؟
كدتُ أبكي، لكنّي تماسكت، وواجهتُها بنظرةٍ باردة.
“كنتُ أرجو غير هذا، لكن صدق حدسي هذه المرّة.
أنتِ لا تملكين أيّ قوّة.
مجرد امرأة عاجزة.”
“عاجزة؟!”
“لقد قلتُ لكِ: أنا متقمِّصة، وهذا العالم مجرّد رواية.
أبقيتُكِ بقربي لأنّي كنتُ أظنّ أنّكِ قادرة على إنقاذ ابني،
لكن إنْ كنتِ بلا قوّة، فلا فائدة من وجودكِ هنا.
جلبتُكِ لأجل تلك القدرة، وغضضتُ الطرف عن كلّ ما فعلتِه بسببها.
لكن الآن، لا مبرّر لذلك بعد اليوم.”
انطفأت نبرة صوتي حتى صارت كالثلج، فارتبكت “كلوي” وضحكت ضحكةً مرتعشة.
“ماذا تعنين بأنّه لا مبرّر؟”
“كما قلتُ تمامًا.
ظننتُ أنّكِ ستنقذين ابني كما في الرواية،
لكن بما أنّكِ لستِ كذلك، فلا حاجة لي بكِ بعد الآن.
كان ينبغي أن أطردكِ منذ خطأ ابنتكِ، لكنّي لم أفعل لأنّي كنتُ أظنّ أنّكِ نافعة لي.
أما الآن، فلا.”
“أتقصدين… أنّكِ ستطردينني؟”
“نعم. ولن أكتفي بالطرد فقط،
بل سأمنعكِ من دخول قصر الدوق إلى الأبد.”
أخذت تهزّ رأسها بعنف حتى ارتعشت وجنتاها.
“لِمَ…؟ لماذا؟ لم أرتكب أيّ خطأ!”
“صحيح، أنتِ لم تخطئي.
الخطأ كان خطئي أنا، حين أسأتُ الحكم عليكِ.
لكن ابنتكِ أخطأت،
وأنا غضضتُ النظر لأنّي كنتُ أحتاج إليكِ.
أما الآن، فبما أنّ حاجتي زالت، فما الداعي لبقائكِ؟”
“هذا ظلم! لا يمكنكِ فعل هذا!”
“وما الذي يمنعني؟
يبدو أنّكِ واهمة يا كلوي.
أنا سيّدة هذا البيت، وصاحبة أمره.
إنْ قرّرتُ طرد خادمة، فمَن يمنعني؟”
“لكنّ الدوق… يجب أن يسمح بذلك أولًا…”
ضحكتُ بسخريةٍ خافتة.
“أوه… أتظنّين أنّه سيعارض قراري؟
أتظنّين أنّه سيُبقيكِ بعد حديثي معه؟”
“…”
“لا تخدعي نفسكِ يا كلوي.
كونكِ ذهبتِ إلى حفلةٍ معه لا يعني شيئًا.
كنتِ بديلةً عنّي فحسب، لا أكثر.”
من وجهة نظرها، أنا الآن شريرةٌ كاملة الملامح.
لكن ما همّني ذلك.
“لا تقلقي.
سأُعطيكِ ما يكفي لتعيشي مع ابنتكِ،
مبلغًا لا يُستهان به، ولن أظلمكِ في الوداع.”
ظلّت صامتة لا تنبس بكلمة،
حتى عندما نطقتُ الجملة الأخيرة.
“ولا تظنّي أنّي سأدعكِ تبقين كما في الرواية.
لقد قلتُ لكِ، أنا متقمِّصة،
ولن أدع مجرى الأحداث يسير كما كُتب له.
لن تبقي في هذا القصر بعد الآن.”
“…”
“أظنّكِ لا تملكين ما تقولينه بعد الآن.
إذن اخرجي، يا كلوي.”
مددتُ يدي إلى الباب لأفتحه،
لكنّها أسرعت وأمسكت بذراعي.
“ما الذي تفعلينه؟!”
“سيدتي… أرجوكِ… لا تطرديني.
أنا وميـا الصغيرة، لا مكان لنا نذهب إليه!”
“قلتُ لكِ، سأمنحكِ ما يكفي لتعيشا بكرامة.
هذا آخر معروفٍ منّي تجاهكِ.”
“أرجوكِ… أرجوكِ، لا تفعلي هذا!”
كانت نظراتها المتوسّلة تتشبّث بي كطفلٍ يغرق في البحر.
“هل ترغبين في البقاء حقًّا؟”
“نعم!”
“ولماذا؟”
“أنا… لا أعلم…”
“لأنّكِ تريدين، كما في الرواية، أن تكوني مع زوجي؟
لأنّكِ تتوقّعين أن تصبحي دوقة؟
لأنّ وجود “ميا” في القصر هو ما يجعل القصّة تبدأ؟”
طرحتُ أسئلتي متتابعة، كأنّني أُحاصرها بها،
لكنّها لم تُجب.
عندها رفعتُ زاوية شفتي بابتسامةٍ باهتة،
ونظرتُ إليها مباشرةً.
“قوليها صراحةً، يا كلوي.
قولي إنّكِ يجب أن تبقي هنا لأنّكِ متقمِّصةٌ من الرواية،
ولأنّكِ مَن سيُحرّك القصة إلى الأمام.
قوليها… وسأدعكِ تبقين.”
التعليقات لهذا الفصل " 52"
😭😭❤️🔥❤️🔥❤️🔥❤️🔥❤️🔥
بليييييييز المزيد و الله الاحداث نااااار