“هل كنتَ تَقصدين حقًّا أن تقول لي… ارحل؟”
“نعم. أرجوك، كُفّ عن هذه الألاعيب.
حتى لو أصاب ابني مكروه، فلن أختارك أبدًا.
لا الآن، ولا إلى الأبد.”
صفعتُ يده التي امتدتْ لملامسة وجهي.
“يا للأسف، كنتُ أظنّ أنّني أريكِ السبيل الوحيد للخلاص، لكنّكِ تكافئينني بهذه الطريقة؟”
“إن كنتَ فعلًا تُريد أن تنجح علاقتنا، فلا تتفوه بتلك الترهات.
أحضر لي وسيلةً تُنقذ ابني.
حينها فقط سأحاول أن أحبّك.
سأطبع قُبلةً على شفتيك، وأهمس في أذنك بأنّي أحبك.
فابحث عن الطريقة، إن كنتَ فعلًا تريدني.”
كنتُ أظنّ أنّه حين يسمع ذلك سيحاول إيجاد حلٍّ حتى لو كان مستحيلًا، لكنّ وجه “فيسريو” تجمّد في لحظة.
“لا تقولي لي إنّه لا وجود لمثل هذه الطريقة؟”
“لو كانت هناك وسيلة، يا نيديا، لجئتُكِ بها دون تردّد. ولأريتُها لامرأةٍ تُحبّ ابنها أكثر من نفسها.
كنتُ سأقول لكِ: هذا هو المخرج الوحيد، لذا أحبّيني، وارفقي بي، ولنرحل معًا.”
“…”
“لا تُعلّقي أملًا واحدًا.
ما لم تنزِل معجزة من السماء، فلن ينجو إنسانٌ دنّسه السحر الأسود.”
“أتقصد أنّه سيموت في النهاية؟”
أومأ برأسه ببطء، وعيناه تومضان بأسى هادئ.
“نعم، سيموت.
وإن كانت حالته مختلفة قليلًا عمّا رأيتُه في الآخرين، إلا أنّ المصير واحد.
فالسحر الأسود لا يهب سوى الموت، لأنّه يسلب أرواح البشر.”
“قلتَ إنّ حالته تختلف… كيف ذلك؟”
“إنّه لا يزال على قيد الحياة.
فلو سار الأمر كما ينبغي وفق قوانين هذا السحر، لكانت شعلة حياته قد انطفأت منذ زمن، أو لكان يحتضر الآن.
لكنّه، بالمقارنة بما غمرته من ظلام، يبدو سليمًا على نحوٍ غريب. ومع ذلك، مصيره الفناء.”
كانت كلماته تلسع كأنّها لعنة، ومع ذلك أدركتُ أنّها الحقيقة بعينها. لم يكن يتحدّث عبثًا، بل كان يُخبرني بنهايةٍ حتمية. في تلك اللحظة، أيقنتُ أنّه لا أمل.
“كان عليك أن تمنعني… أن تقول لي ألّا أفعل ذلك… لماذا لم تمنعني؟”
كدتُ أنهار للحظة، لكنّي تماسكتُ وهززتُ رأسي بعناد.
“لا… سأجدُ الطريقة بنفسي. لا بدّ أن تكون هناك وسيلة ما.”
“حسنًا، جربي إذًا. أتمنى حقًّا، يا نيديا، أن يتعافى ابنكِ.”
لكنّ ابتسامته كانت تحمل شيئًا آخر…
شيئًا مظلمًا، كأنّه يتمنى العكس.
ابتسم بخفّة وسار نحو الشرفة.
“سأعود حين تبلغين قاع اليأس… يا حبيبتي.”
وحين مدّ يده نحوي من جديد، أسرعتُ بإغلاق النافذة بعنفٍ حتى كادت تُحطّم أصابعه.
رمقني بدهشة، لكنّي أغلقتُ الباب وأحكمتُ القفل.
ظلّ يحدّق بي طويلًا، ثم رحل أخيرًا.
وبعد خروجه، بقيتُ وحدي، فغمرني الصمت. احتميتُ بالغطاء، وأجهشتُ بالبكاء.
ربّما كان “فيسريو” هو آخر خيطٍ من الأمل في حياتي.
ففي هذه اللحظة التي لم تُحرّك فيها “كلوي” ساكنًا، لم يعد هناك سوى ذلك الحبل المتهالك الذي قد يُنقذ طفلي.
لكنّه قالها صريحة: لا سبيل.
ما لم توجد قوّة شفاء، فلن يكون ثمّة علاج.
‘لماذا جئتُ إلى هذا الزمن تحديدًا؟ لماذا؟’
لو كنتُ وصلتُ أبكر قليلًا، لما استخدمتُ السحر الأسود أصلًا.
ولما كنتُ الآن أرى طفلي يذبل أمامي هكذا.
لم أعد أستطيع البكاء أمام أحد، كلّ ما بقي لي هو الصبر.
لكن حين اندثرت آخر ذرة من الأمل، لم يبقَ لي سوى البكاء.
بكيتُ طويلًا تحت الغطاء، حتى سمعتُ وقع خطواتٍ يقترب، فمسحتُ دموعي على عجل.
“نيديا.”
كان الدوق.
يا للمفارقة!
أكرهه، ولا أحبّه، ومع ذلك بدا صوته في تلك اللحظة كدفءٍ يتسلّل إلى أعماقي.
كان حنونًا، كأنّه يُلملم ما تبقّى من قلبي المحطّم.
ربّما لأنّه رَبّت على ظهري المغطّى باللحاف،
أو لأنّه حين لم أستجب، احتضن الغطاء كأنّه يحتضنني أنا.
فانفجرت دموعي مجددًا، وقضيتُ تلك الليلة في صمته الدافئ، أتنفّس بين أنينه وصبره.
—
بعد يومين.
مرّت خمسة أيّام منذ منحتُ “كلوي” فرصتها الكاملة.
دخلتُ الغرفة التي كانت تجمعها بـ”رودسيل”.
كان الطفل ما يزال غارقًا في سباته، وجهه أشدُّ شحوبًا من ذي قبل.
لم أعلم أهو من قلّة الطعام أم من نخر السحر الأسود في جسده، لكنّ وجنتيه ذبلتا، وملامحه غدت واهنة.
لمستُ جسده، فشعرتُ بعظامه تبرز تحت أصابعي.
لم يكن جسده هزيلًا تمامًا بعد، لكنّ الإحساس بعظامه وحده كان كافيًا ليُوجع قلبي.
“سيّدتي… هل أنتِ بخير؟”
سألتني “كلوي” وقد اقتربت بخطواتٍ هادئة.
“نعم.”
جلستُ على حافة السرير، ونظرتُ إليها مليًّا.
وجهها مشرق، وجلدها لامع كما كان يوم الحفلة… كأنّها تنعم بحياةٍ هادئة لا تعرف الهمّ.
“كنتُ أظنّ أنّ شيئًا سيتغيّر… لكن لا شيء تغيّر.”
“عفوًا؟”
“أتحدث عن ابني. ظننتُ أنّّ ستنزل معجزة فتشفيه… لكن يبدو أنّي كنتُ أتوهم.”
ابتسمتُ ابتسامةً متعبة، ونظرتُ إلى عينيها مباشرة.
كانت هناك أمور كثيرة أودّ قولها، لكنّي لم أرد أن أواجهها بعنفٍ من البداية.
ناديتُها بهدوء:
“كلوي.”
“نعم، سيّدتي.”
بعد حديثي مع “فيسريو” ذلك اليوم، راودني شكٌّ واضح: من الذي أخبره بحالة ابني؟
ولم يطل تفكيري حتى وجدتُ الجواب.
في البداية، لم يكن أحد يعلم شيئًا عن حالة “رودسيل”.
ثم أصبحت هناك واحدة ترافقه ليلًا ونهارًا… “كلوي”.
“هل تعرفين الفارس الذي كان يرافقني؟”
“الفارس؟”
“نعم، ذاك ذو الشعر الفضيّ.”
“أجل، أعرفه.”
قالت ذلك ببرود، كأنّ الأمر لا يعنيها.
“وكيف تعرفينه؟”
“هاه؟ لأنّي رأيتُه برفقتكِ من قبل…
أليس كذلك؟”
“لم تريه برفقتي، بل هو من قدّم نفسه لكِ وقال إنّه يرافقني، أليس كذلك؟”
“عمّ تتحدثين، سيّدتي؟ لا أفهم…”
كانت ملامحها توحي بالجهل، لكنّي ضغطتُ شفتيّ بقوةٍ وقلتُ بهدوءٍ قاتل:
“منذ أن جئتِ إلى القصر، لم أكن برفقة فيسريو ولو مرة واحدة.
فكيف تعرفينه إذًا؟”
“آه… ربّما اختلط عليّ الأمر؟”
“مستحيل. لا يمكن أن تُخطئي في ملامحه.
ثمّ يا كلوي، أنا لم أخرج مع فارسٍ أصلًا.
طوال تلك المدّة، لم يرافقني سوى وصيفاتي.”
“حقًّا؟”
“لماذا أخبرتِه عن حالة ابني؟”
لم أعد أُبالي بكيفية لقائهما.
كلّ ما أردت معرفته هو الدافع. بأيّ نِيّةٍ أفشت أسراري؟
لقد تركتُ لها المجال بكلّ ثقة، لأجل طفلي… لكنها خانت.
“لماذا أريتِه ابني؟”
ارتجفت عيناها للحظة، كأنّها انكشفت.
“دلا، سيّدتي، لم أفعل شيئًا!”
“لم تفعلي؟ إذًا هل تبعكِ هو إلى هنا صدفة؟”
“لا، لا، الأمر ليس كما تظنين، أقسم إنّه سوءُ فهم!”
لكنّ عينيها المرتبكتين، وصوتها المرتجف، ونظراتها التي تهرب يسارًا، كانت تقول الحقيقة بأوضح مما تنطق به الكلمات.
كانت تكذب.
“حسنًا… سوءُ فهم، إذًا.”
ابتسمتُ ببرود. كنتُ أعلم أنّ حديثنا الحقيقيّ لم يبدأ بعد.
“سيّدتي… أيمكنني الخروج قليلًا؟”
“لم أمنعكِ، اخرجي إن شئتِ.”
“إذًا، لو سمحتِ…”
“لكن بعد أن أنهي كلامي.
لأنّ لديّ ما يجب أن أقوله، يا كلوي.”
تقدّمتُ نحو الباب وطرقتُه من الداخل.
“لن يدخل أحد، ولن يخرج أحد.
عندي أمرٌ مع كلوي.”
“أمركِ، سيّدتي.”
شعرتُ بشخصٍ يستند إلى الباب من الخارج.
عدتُ إلى السرير ببطء.
“سيّدتي؟ لماذا…؟”
“كلوي.”
“نعم…؟”
كانت تحدّق بي بعينين واسعتين يكسوهما الاضطراب.
“أنا أؤمن بالمخاكم.”
“هاه؟ الآن؟ فجأة؟”
“وأنتِ؟ أتؤمنين به؟”
“كلّ من يعيش في الإمبراطورية يؤمن به، أليس كذلك؟”
ابتسمتُ بخفّة، وهززتُ رأسي ببطء.
اليوم…
سأقول لها كلّ شيء.
التعليقات لهذا الفصل " 51"