ومع ذلك، لم يطرأ أيّ تغيير بعد مرور ثلاثة أيّام.
لقد منحتُ “كلوي” فرصةً بنفسي.
لم أقلها صراحةً، لكنّي وعدتها بأنّني سأُسلّمها مقعد الدوقة إن نجحت في شفاء طفلي.
ولأنّي خشيتُ أنْ يكون وجود آخرين عائقًا أمامها، أبعدتُ كل من حولي.
مع ذلك، ظلّ طفلي يغطّ في نومه في تلك الغرفة كما هو.
في الصباح الباكر، خرجتُ لأطمئنّ على “رودسيل”، ثم عدتُ إلى غرفتي غارقةً في اليأس من تكرار المشهد ذاته.
هل ستتحسّن حالته إن انتظرتُ يومًا آخر؟
يومٌ واحدٌ فقط، لعله يشفيه “كلوي”.
إلى متى سأظلّ أترقّب؟
كنتُ أؤمن أنّه سيستيقظ قريبًا، فأتناول طعامي يوميًا، وأحاول النوم جيدًا.
ومع أنّ الطعام لذيذ، شعرتُ وكأنّي أمضغ الحجارة، ومع ذلك ابتلعتُه بصعوبة مرارًا وتكرارًا.
خشيتُ أنْ يقلق “رودسيل” إنْ فتح عينيه فرأى والدته منهكة.
أردتُ أنْ أستقبله بصحّةٍ جيدة.
ولكن أُمنِيَتي بدأتْ تنهار شيئًا فشيئًا.
“سيّدتي… تبدين مُتعبة.”
“أنامُ وأنامُ، ومع ذلك لا يزول التعب.”
“لعلّكِ لا تنامين نومًا عميقًا، هذا كلّ ما في الأمر.”
نظرت إليّ “فيليس” بوجهٍ يفيض بالقلق.
“سيستفيق قريبًا، على الأقل لم تتدهور حالته منذ ذلك اليوم.”
كان الأطبّاء لا يزالون عاجزين أمام هذا المرض المجهول السبب.
وأقصى ما يستطيعون فعله هو تهدئة جسده كما في اليوم الأوّل.
ورغم أنّ “فيليس” كانت تدرك ذلك، إلّا أنّها ما زالت تُحاول مواساتي بكلماتها.
“نعم… يجب أن يكون بخير، عليَّ أن أؤمن بأنّه بخير.”
“أتُحبّين أن أُحضّر لكِ الشاي؟”
“لا. أريد أن أستريح قليلًا وحدي. اذهبي أنتِ أيضًا لتستريحي يا فيليس.”
“كما تأمرين.”
يومٌ آخر فقط، أو يومان… ثمّ ستُنقذه “كلوي” بلا شكّ.
تمسّكتُ بهذا الأمل وتحملتُ الصبر.
لكنّ القلق ظلّ ينهش قلبي: ماذا لو لم تستطع “كلوي” أن تفعل شيئًا؟
حينها سُمِعَ طَرقٌ مفاجئ.
“طَرق، طَرق.”
ظننتُ أنّه صوتُ الباب، لكنّ الصوت كان مختلفًا، كأنّ شيئًا يطرق زجاجًا لا خشبًا.
نهضتُ من مكاني واتّجهتُ نحو مصدر الصوت.
إنّه النافذة المؤدّية إلى التِراس.
“فيسريو…”
كان “فيسريو” هو الطارق.
أسرعتُ بفتح النافذة وحدّقتُ فيه.
“لم أتوقّع أنْ تستقبليني بهذه الحفاوة.”
“أ… أنت.
هل أتيتَ لأنك علمتَ بأنّي أبحث عنك؟”
“تقولين أنتِ؟ ألا يجدر بكِ أنْ تقولين: يا أخي؟”
“لا تُثرثر، أجبني فقط. هل هذا صحيح؟”
“اليوم تبدين حسّاسةً للغاية، نيديا. حسنًا، لا أنكر. نعم، علمتُ بالأمر من والدي.”
“تظاهرتَ بالجهل…”
“وهل يُعقل أن يجهل أبي أين أذهب؟”
لم أتمالك نفسي من الغضب.
كان يعلم كلّ شيء، ويتظاهر بعدم العلم.
كم عانيتُ وأنا أبحث عنه بلا جدوى… لكنّ الوقت قد فات.
‘يكفي أن أراه أمامي الآن، فليكن هذا عزائي.’
رفعتُ بصري إليه، كان أطول منّي برأسٍ كامل.
“جئتَ بنفسك؟ إلى غرفة امرأة؟”
“صحيح. سمعتُ أنّك كنتِ تبحثين عنّي بإلحاح، فقلتُ لنرَ ما الأمر. أليس كذلك؟”
اكتفيتُ بالنظر إليه دون إجابة.
“دعك من كلّ هذا، أنت تعرف العلاج، أليس كذلك؟”
“علاجُ ابنكِ؟”
“نعم.”
“هممم، لا أعلم. لكن ما أعلمه أنّه لو بقي الوضع كما هو، سيموت ابنكِ قريبًا. بل إنّه يحتضر كلّ يوم، أليس كذلك؟”
كان وضع “رودسيل” سرًّا لا يعرفه أحد خارج القصر، وقد أمرتُ الجميع بالتزام الصمت.
فكيف عرف “فيسريو” هذه التفاصيل؟ كأنّ أحدًا أوصلها إليه مباشرة.
لم يكن والدي الكونت “زيغمنت” هو من أخبره.
ففي ذلك اليوم لم يتفوّه بكلمة عن حالة حفيده.
ثمّ إنّ “فيسريو” كان قد غادر منزل الدوق منذ زمن.
فكيف علم إذًا بكلّ هذا؟
“لا بدّ أنّ هناك من يُطلعك على ما يجري، أليس كذلك؟ أو ربما من يُريك بنفسه.”
“وهل هذا ما يهمّ الآن؟”
“إذن، هناك شخصٌ كهذا فعلًا.”
ربّما لا يبدو ذلك مهمًّا الآن، لكن فيما بعد سيكون ذا شأنٍ كبير.
“صحيح. وهو قريبٌ جدًّا منكِ. احذري يا نيديا، فلا أحدَ يعلمُ من حولكِ قد يطعنكِ من الخلف.”
كان يبتسمُ بخفّةٍ، محرّكًا حاجبيه بخبثٍ ظاهر.
“لا أحدَ يستطيع خداعي.”
“ما أبرأكِ من السذاجة.”
شعرتُ فجأةً أنّه يُحاول عمدًا أنْ يجعلني أفقد الثقة بمن حولي.
“لكن تأخّرتَ أكثر ممّا توقّعت. لقد مضى أكثر من ثلاثة أيّام منذ زرتَ والدي.”
“أهكذا؟”
“ظننتُ أنّك، بما أنّك تعرف أنّ مكروهًا أصاب طفلي، ستأتي مسرعًا. لكنّك لم تفعل.”
“كنتُ أنتظر.”
‘لا، هو ليس من ينتظر أبدًا.’
في تلك اللحظة، أدركتُ أنّ الذي أطلعه على حالة “رودسيل” لم يكن أحدًا من مَن حولي.
لو كان أحدهم، لكان “فيسريو” قد هرع إليّ في الحال ليبتزّني بكلماته، ويقول إنّ نبوءته تحقّقت.
لكنه لم يفعل ذلك.
‘إذًا، الجاني هو من علم مؤخرًا بحالة رودسيل.’
راودتني فكرة، وكنتُ متأكّدة أنّ أحدًا من مَن أثق بهم لا يمكن أن يكون الخائن.
“عجيب. ظننتُ أنّك ستأتي ركضًا، وكان ذلك سيُربكني أكثر.”
“تظاهري بالتماسك قدر ما تشائين، نيديا، لكنّكِ خائفة. أنتِ تموتين خوفًا من فقدان ابنكِ، أليس كذلك؟”
“نعم. لهذا أسألك، ما الحلّ؟ إن كنتَ توقّعت هذا المصير، فلا بدّ أنّك تعرف السبيل.”
“السبيل؟ أجل، أعرف.”
خفق قلبي بقوة غير منتظمة.
“تعرف؟ حقًّا؟”
“هاها، وجهكِ تغيّر فور سماعك كلمة (أعرف). ممتع حقًّا.”
“أ… أتمزح معي الآن؟”
“أمزح؟ لا، فقط رأفتُ بحالك، فمنحتكِ بصيص أمل صغير.”
“إن كنتَ منحتني أملاً فقط… فلا علاج إذًا؟”
أومأ برأسه دون تردّد.
“لو أخبرتكِ بالعلاج، هل ستُحبّينني؟ أو ربما تُقبّليني؟”
تقدّم نحوي فجأة، وأمسك بذقني بعنف، حتى صار وجهه قريبًا جدًّا.
لكنّي لم أُشِح بنظري عنه.
“هل هناك علاجٌ حقًّا؟”
“قبّليني، وربما أخبركِ.”
“…”
أقسمتُ أن أفعل أيّ شيء من أجل ابني، فلماذا الآن تحديدًا يتبادر إلى ذهني وجه الدوق؟
لسنا على علاقة، ومع ذلك اجتاحتني موجةٌ من شعورٍ غريب بالذنب.
“ما بكِ؟ ألم تقولي إنّك تُحبّين ابنكِ حد الجنون؟ فلماذا لا تستطيعين إذًا؟”
“لأنّه… لا يوجد علاج.”
ارتجف طرفُ فمه حركة خفيفة لا تُرى إلا عن قرب.
“ولِمَ تعتقدين أنّه لا يوجد؟”
“لو وُجد، لطلبتَ حبّي منذ البداية، لا جسدي. كنتَ لتطلب مني أن أقول (أُحبّك)، لأنّك كنتَ تريد سماعها بصدق، لكنك الآن… تحاول استغلال ذلك.”
لو لم يخطر في بالي وجه الدوق، لربّما قبّلتُه فعلًا.
لكنّ رؤية وجهه الحزين في مخيّلتي شلّت حركتي.
فشدّدتُ نبرتي في محاولة أخيرة للضغط على “فيسريو”.
عندها فقط، أفلت وجهي وتنحّى جانبًا.
“مملّةٌ أنتِ بحقّ.”
“إذن لا علاج.”
“بل هناك.”
“وما هو؟”
نظر إليّ طويلًا ثم حرّك رأسه نافيًا.
“إنّه بسيط جدًّا، ولا أحد سواكِ قادرٌ عليه.”
“أنا فقط؟”
هل تركني إذن لأنه لا يستطيع تنفيذ العلاج بنفسه؟ لو كان يستطيع، لاستغلّ ذلك لابتزازي.
“الأمر سهل. استمرّي في ضخّ السحر الأسود في جسده.”
“ماذا…؟!”
“أليس بسيطًا؟”
بسيط؟ بل هو جنون.
لو واصلتُ تغذيته بالسحر الأسود، سيفقد السيطرة، ويقتلني، ثم يلتهم ذاته.
سيعيش، نعم، لكنّه لن يعود إنسانًا أبدًا.
‘هل هذا أفضل؟ أن يموت ببطء أمامي أم أن يتحوّل إلى وحشٍ يقتلني؟ هل يجب أن أفعل كما في الروايات؟’
رغم أنّني وجدتُ الجواب، شعرتُ بصدري يختنق ألمًا.
وبينما أنا غارقة في صمتي، عاد “فيسريو” ليتفوه بكلماتٍ تُثير الاشمئزاز.
“إذن يا نيديا، بعد أن أخبرتك بكلّ هذا، ألا أستحقّ قبلةً أو ليلةً معكِ؟”
“كفّ عن قذارتك.”
“قاسيةٌ أنتِ.”
“وهل حقًّا هذا هو العلاج الوحيد؟”
“لو لم تستخدمي السحر الأسود منذ البداية، لكان الوضع مختلفًا. لكن الآن، هذا هو الطريق الوحيد.
إلّا أن يتجلّى إله بنفسه فيُنزِل قوّة الشفاء.”
ابتسم ابتسامةً باردة، فارتجفتْ يداي من الغضب.
“في هذه ال1حالة، لماذا لا تتركينه ليموت، وتبدئين حياة جديدة؟ يمكنكِ إنجاب طفل آخر، أليس كذلك؟”
اقترب مني مجددًا، ومسح خدّي بإصبعه.
“انظري إلى نفسكِ، كم تدهورت حالتكِ وملامحكِ.”
“فيسريو…”
“هاه؟ هل اتخذتِ قراركِ أخيرًا؟”
“اخرج. أرجوك، اخرُج من حياتي.”
التعليقات لهذا الفصل " 50"