“وكيف أدركتَ ذلك أيضًا؟”
“ماذا تزعم أنّي أعلم.”
انطلق صوته بارداً خالياً من أيّ إحساس.
“أتظنّ أنني أجهل كلَّ شيء.”
ولأنني حَلَلتُ في جسد رجلٍ يخبّئ الكثير من الأسرار، اجتاحني شعورٌ مفاجئ بالضيق، وكأنَّ حبالاً غليظة أحكمت الطوق على صدري.
“فما الذي تعرفه إذن؟”
“أعرفكِ حق المعرفة.”
“كلَّي؟ إن كنتَ تعرفني حقًّا كلّ المعرفة، فلن يكون من المنطق أن تأخذني معك.”
فلو كان مطّلعًا على كلِّ شيء، لكان الأولى أن يتركني أبتعد.
فأنا أهرب لأنجو بنفسي، ولأنّ ما فعلتُه في الماضي يُطارِدني.
فإن بقيتُ قربه، سيغرق رودسيل في ظلمات السحر الأسود، وحينها يكون موتي حتميًّا.
لتعود الرواية فتسير في مسارها المأساويّ.
‘يتظاهر بالفهم، وهو أبعدُ ما يكون عن ذلك….’
رجلٌ لم يَلتفت إلى نيديا طوال حياته.
أنا لا أرى في نيديا هذه ما يستحقّ الرثاء.
فمن يُنزل مثل ذلك العذاب بابنه، لا يُمكن الصفح عنه مهما كانت دوافعه.
أتُرى كلّ ذلك فقط من أجل حبٍّ لرجل؟
‘صحيح أنّ الدوق يتمتّع بوسامةٍ لافتة وذكاءٍ بارز.
باردٌ كثلج الشتاء، لكن ملامحه تستحقّ النظر.’
وليس أكثر من هذا.
وجهٌ جذّاب، يخلو ممّا سواه من السحر.
إنسانٌ بلا جاذبيّة تُذكر.
أمّا نيديا التي علّقت حياتها برجلٍ كهذا، ثمّ راحت تُعذِّب ابنها تمرّدًا، فهي ليست سوى نفاية.
“بل أرى أنّ من واجبي أن آخذكِ.
فبدون اسم الدوقيّة أنتِ عاجزة.”
“…….”
“ومع ذلك، تتركين ذلك الكاهن الحقير يسرح ويمرح. أتستخفّين بي؟”
“وما الذي تعنيه؟”
“ذلك القسّ البائس، أُحجم نفسي عن سحقه حتّى لا يبقى له أثر كبشر، فلا تستفزّيني أكثر.”
ثمّ أنهى كلامه.
جلس واضعًا ساقًا فوق أخرى، وأدار وجهه بعيدًا، وكأنّه لم يَعُد يرغب في الاستمرار بالحديث.
“أمّي، أرجوكِ لا تتشاجري مع أبي.”
يُقال إنّ الأطفال أكثر مَن يستشعر خلافات الوالدين.
رفع رودسيل رأسه إليَّ بوجهٍ مفعمٍ بالرجاء.
“لسنا نتعارك يا حبيبي، نحن نتحدّث فقط.”
“لكن يا أمّي… أنا أحبّك.
فلا ترحلي بعيدًا، أرجوكِ.”
أراح وجهه على صدري بدلال.
“آه….”
جذب يدي ووضعها فوق رأسه، وكأنّه يستجدي لمسة حنان.
فمررتُ أصابعي فوق شعره كما يُداعَب جرو صغير.
وما لبث أن غفا سريعًا، لشدّة ما كان منهكًا.
ظللتُ أحدّق به، ولا أكاد أتمالك أنفاسي من ثِقَل الزفرات.
‘لنفكّر في الأمر بإيجابيّة.’
فما دامت الحال قد صارت هكذا، فالأفضل أن أُسرِع بظهور كلوي، ثمّ ابنتها ميا، البطلة الحقيقية للرواية.
حينها ستزول كلُّ عقدة.
فبمجرّد أن يظهرن سيختفي كلُّ اهتمامهم بي.
فرودسيل سيُصبح مشدودًا إلى ميا، والدوق بدوره سيوجّه قلبه نحو كلوي.
‘نعم… وعندها سأغادر.’
ما دام الهروب التقليدي لا يُجدي، فقد آن الأوان لهذه الخطة.
‘غير أنّ رودسيل مفهوم، لكن ما بال ذلك الرجل؟’
لم أحتمل صمتي، فقلتُ:
“سيهيلوس إيكارت، يا صاحب السعادة الدوق.”
“لمَ تنادينني باسمي الكامل؟هذا أمرٌ غريب منك.”
“ثمّة سؤال يدور في بالي.”
فانحنى بجسده قليلًا نحوي.
“ما هو؟”
“لماذا تبحث عنّي أصلًا؟ لقد افترقنا بالطلاق، ولا أرى سببًا واحدًا يدعوك للبحث عنّي من جديد.”
“همم.”
“دعك من حجّة رودسيل. ثمة سبب آخر، أليس كذلك؟”
كان عذرًا واهيًا.
صحيح أنّ الطفل بحاجة إلى أمّه، لكن الدوق كان قد لمح إيذائي لابني، وبذل جهده ليُبعدني عنه.
فكيف به الآن يدّعي أنّه أعادني من أجل الصغير؟
“أ لأنّي أحبّك؟”
“كفّ عن هذا الهراء.”
“هاه… لقد تغيّرتِ. بات لسانكِ أكثر حدّة.”
“لأنّ حديثك غير منطقي. فأنت آخر مَن قد يُحِب شخصًا.”
“وما الذي تعرفينه عنّي أصلاً؟”
لم يُجبني قط.
بل صار أكثر حدّة من المعتاد.
لطالما بدا ساكنًا كالبحر، فإذا به الآن يكشف عن مشاعره بوضوح.
‘أيمكن أن يعرف هذا الرجل أنّنا في رواية؟ ويعلم أنّ نهايتي على يد رودسيل؟ أترى أعادني ليدفعني إلى تلك النهاية؟’
فكرةٌ مرعبة جمدت أوصالي.
“فلماذا أحتاج إليكِ إذن؟”
أهذا وسواسٌ منّي، أم أنّه حقًّا يخفي أمرًا؟
“أنا لستُ عازمة على الموت.”
“ماذا؟”
“فلا تُعلّق آمالًا باطلة.”
“أتُلمّحين إلى أنّني أريد قتلك؟”
قالها بدهشة، وكأنّني جُننت.
فلعلّي ذهبت بعيدًا في الظنون.
لكن… ليس الأمر مستحيلًا.
فكما أنا نفسي وجدتُ نفسي هنا في الرواية، لمَ لا يكون هناك عودةٌ أو علمٌ مسبق بالأحداث؟
“اطمئنّي. ما في الأمر إلّا أنّني أريدكِ بجانبي، لا أكثر.”
“إذن لا جواب حقيقي لديك.”
“لأنني لا أعرف بنفسي. يوم طلبتِ الطلاق، شعرتُ براحة. كان من المفترض أن يزداد صفائي بعدها، لكنّ أيّامي منذ رحيلك غدت خانقة. منذ أن اختفيتِ.”
اشتدّ ضيقي.
“وهذا هو السبب؟”
“أجل. فأحضرتكِ لأتأكّد. والظاهر أنّك السبب حقًّا.”
“ورؤيتي أزالت عنك هذا الضيق؟”
“لا. بل ازدادت وطأته.”
…حقًّا؟
أليس من المفترض أن تنجلي؟
“الآن وقد عرفتُ السبب، فلا بدّ أن أجد الحلّ.”
“كما تشاء.”
أغمضتُ عينيّ.
فالكلام معه لا يجدي.
لكن شيئًا صار جليًّا: أنّه لا يُحبّني.
كلّ ما هنالك أنّه يتصرّف بدافع الغرابة والفضول.
‘إذن، لنُحضِر الأبطال الحقيقيّين إلى الساحة. وعندها تنتهي القصة.’
وأنا أُجاهد قلقي وأُهدّئ ضربات قلبي، واصلنا طريقنا إلى بيت الدوق.
حتى غلبني النوم.
ولأنّني نادرًا ما أحلم، فقد كانت دهشتي عظيمة إذ حلمت هذه المرّة برؤية واضحة كالحقيقة.
—
في حلمي، جرت الأحداث كما في الرواية.
استعملتُ رودسيل، ثمّ انتهيتُ بالموت كما هو مكتوب.
نهايةٌ باهتة، بلا طعم.
لكن ثمّة ما كان مختلفًا.
فبينما كنتُ أطفو بلا جسد، أُتابع الكلمات وهي تتوالى، إذا بشخصٍ يلحظ وجودي.
[كلّ شيء تبدّل بتدخّلك.]
[ميا…؟]
[لماذا؟ لماذا أنتِ هنا؟!]
إنّها البطلة الحقيقيّة، ميا.
غضبها كان جارفًا، عيناها يملؤهما الدم.
رغم أنّها ظهرت أمامي لأوّل مرة، إلا أنني أدركتها فورًا.
[لِم أنا…؟]
[كان ينبغي أن تموتي! ولم يكفِ ذلك، بل تجرّأتِ وسرقتِ هذا الزمن أيضًا؟!]
فجأة أحسستُ كأنّ يدًا تنتشلني من هناك بعنف.
“آه!”
وإذ بي أكتشف أنّ رودسيل كان يُمسك بشعري بقوّة وهو نائم، خشية أن أهرب.
فالتوى عنقي في وضعٍ غريب.
أبعدتُ يده عن شعري وأنا أتنفّس بعمق.
“أيّ حلمٍ صاخب هذا.”
سمعتُ صوته فجأة، فالتفتُّ لأراه يحدّق بي.
لم ينم أصلًا، كان جالسًا كما تركته.
“أيُّ صخب؟”
“لقد غطّاك العرق، وكنتِ تهمهمين.
أكان ذلك أسلوبًا لإغرائي من جديد كما في الماضي؟”
“إغواء؟ أبعد عنك هذه الأوهام.
عدنا فقط لأجل رودسيل، أمّا نحن فمطلقان.
فلنحافظ على المسافة، من دون أيِّ لمسةٍ بيننا.”
التعليقات لهذا الفصل " 5"