“نعم، أرجوك.”

“حسنًا، إذن اذهبي وعودي سالمة.”

كان هذا قراري، وكانت هذه أيضًا آخر فرصة تُمنح لكلوي.

بعد أن ضمنتُ تعهّدات فيليس، استقليت العربة متّجهةً إلى مسكن عائلتي، قصر الكونت زيغمنت.

‘يجبُ أن أَجِدَ ذلكَ الشخص.’

فيسريو. إن كان هو، فلا ريبَ أنّه يعلم السبب.

وإن عَلِم السبب، فليست بعيدة عنه معرفةُ السَّبيل.

[لكن، اسمعي يا نيديا، لا أعلم لماذا لم تُقدِّمي شيئًا لابنكِ حتى الآن…

ومع ذلك، من الأحسن أن تواصلي ضخَّ قوتكِ.]

“قد يَبدو أنّ الجسد سَيَشعر براحةٍ أكبر إن أوقفتِ القوة، لكنّ السحرَ الأسود لا يعملُ هكذا.

إن غابَ تدفُّقُ القوة الخارجيّ، يبدأ السحرُ الأسود بابتلاع جسدِ المَجنيّ عليه.

فمن الأفضل أن تُدرِكي ذلك سريعًا قبل أن تفقدي ابنَكِ الغالِي.”

نطق بها بصراحةٍ لا لُبس فيها.

‘في النهاية، السببُ في اغْتِمامِ الطفل سيعودُ إليّ بلا ريب.’

لم أعد أؤمنُ بكلام فيسريو، لكنّ ما قالَهْ وقع كما تنبَّأ.

لذا إن عجزت كلوي عن شفاء رودسيل، فلا مناصَ لي سوى أن أتحرّى عن طريقةٍ عنده.

‘لا أظنُّ أنَّني سَأَتمكّنُ من اكتشافِ الطريقة بسهولة.’

ولو وُضِع أمامي حبلٌ مُتعفّن، فقد كان لا بُدَّ أن أمسَكَهُ.

فإنقاذُ رودسيل أهمُّ من كلِّ اعتباراتٍ أخرى.

وإنْ أَمَرَني أن أَتَظاهَرَ بالمحبّة، فسأَتظاهَرُ بها طوعيًّا.

بعد زواجِ نيديا من الدوق، استَخدَمَ الكونتُ زيغمنت المالَ الذي نالتْه نيديا في إقامةِ مسكنٍ بالعاصمة، قريبٍ نوعًا ما من بيتِ الدوق.

لكنّ العائلةَ لم تكن غنيةً بالقدر الكافي، فلم يكن القصرُ ذا فخامةٍ تُذكَر.

كانَ منزلاً متواضعًا بطابَقيْن، على سبيلِ المظهرِ فقط.

“سيدتي، لقد وصلنا.”

برزَ القصرُ من خلفِ النافذة؛ لم تزرْ نيديا ذلك المكانَ من قبل، كانت قد سمعت فقط أنّ العائلة استقَرَّت هناك.

الكونتُ زيغمنت، والدُ نيديا، كان يتواصلُ معها حينما تَحْتاجُ حاجَةً فقط.

يُرسِلُها لإنجازِ أمْرٍ في البلاطِ من أجلِ أخيها الصغير، أو يطالِبُها أن تُحسِّنَ مسكنَ العائلة عبرَ وساطَةِ الدوق، أو حتى أن تُطالِبهُ بمنجمٍ من ممتلكاتِ الدوق.

لم يُبدِ القلقَ على ابنتهِ ولو مرّةً.

كانتْ لدىهُ نيديا وكأنّها وزةٌ تُبيضُ بياضَ ذهبٍ.

وذاتَ يومٍ هربتِ تلكَ الوزّةُ من بيتِ الدوق، وكانَ أَعْظمُ مُرتَعبٍ من ذلك هو الكونتُ زيغمنت.

وعندما عادتْ إلى البيت، بدأ يرسل الرسائل يوميًّا، وكنتُ أُعيدُ جميعَها بالبريدِ دون قراءة.

كانَ مَضمونُها واضحًا بلا حاجةٍ للفحص.

“لم أظنّ أنّي سأراها مرةً أُخرى.”

“ماذا؟”

“لا شيء. دَعِ العربةَ تنتظر هنا.”

“حسنًا، سيدتي. إن حدثَ طارئٌ… صرخي فقط، سأقفزُ لأساعدك.”

قبَضَ السائقُ النحيلُ قبضتَهُ المرتعِشة وكأنّه يُحاوِلُ أن يُشجعَني، رغم هشاشةِ قامَتِه.

لطالما كنتُ أَحْمِلُ أحكامًا مُسبقةً ضد خدمِ الدوق، أظنُّهم جميعًا شِرًّا.

لكنّي الآن أراهُم أناسًا دافِئونَ وأطيبَ مما توقعتُ.

“شكرًا لك.”

وبهذه الكلمات وقفتُ أمامَ بابِ قصرِ الكونت.

لم تكن للمنزلِ حَدِيقةٌ فسيحةٌ كما في بيتِ الدوق؛ فما أن تُجتازَ البوابةُ حتى يَطلُّ البيتُ أمامك فورًا.

طرقْتُ البابَ.

لم يَمرّ وقتٌ طويلٌ حتى خرج رجلٌ مسرعًا من الداخل.

“من… يا إلهي، يا آنسة…!”

هو أحدُ خدمِ القصرِ المألوفين.

فلما رآني تبسّمَ بُشاشةً وفتحَ البابَ على عَجَلٍ.

“جئتُ لأرى والدي.”

“تفضّلي! سأُدلّكِ.”

قادني الخادمُ سريعًا إلى الداخلِ، وكان واضحًا شَوقُ الكونتِ لرؤيتي.

دخلتُ قصرَ الكونتِ زيغمنت، منزلَ والدي حيثُ يقيمُ أخي الصغير، لكنّ أثَرِي لا يَظهَرُ في أيِّ موضعٍ من أركانِه.

حتى اللوحاتُ المعلقةُ في الممرِّ الرئيسيِّ لا تُظهِرُ سوى والدي وأخي فحسب.

كانَ صَوتُ والدِ نيديا يتردّد في ذهني: الفتياتُ مجردُ ذَبائحٍ فدائيةٍ لصالحِ العائِلَة.

“آنسة…؟”

بصوتٍ أيقظني توقّفتُ أمامَ إحدى الغُرف.

“انتظري لحظةً.”

دخل الخادمُ الذي يَحرسُ البابَ بسرعةٍ ثمُّ عاد.

“يمكنكِ الدخول.”

عاد الخادمُ من عندِ الكونتِ وقد علتْ ملامحهُ ارتِباكٌ وابتسامةٌ مجبورة.

يبدو أنّه لم يُسمَحَ له بالدخولِ بسهولةٍ عادةً.

حين فُتحَ البابُ، قلتُ:

“لقد أتيتُ.”

ما إن وطأت قدمايُ الداخلَ حتى طُويَتِ البابُ من خلفي، وتقدّمَ الكونتُ زيغمنت بسرعةٍ نحوّي.

“لن أُطيلَ الحديثَ، أين ذلك الشخص؟”

“لقد جئتُ بعد غيابٍ طويلٍ، وما شأنُك؟”

“أَيْنَ فيسريو!”

“كيفَ لي أن أعرِفَ! لقد قال مؤخرًا إنه لن يعيش وفقَ إرادتِه، فغادر المنزل!”

زفرتُ زفرةً طويلة. إن لم يكن هنا، فأينَ أطلبهُ؟ هل جئتُ باطلاً؟

‘لا. على الأقل عرفتُ أنه ليس هنا.’

كانَ لا بُدّ أن أواجهَ الكونتَ يومًا ما، وقد حانَت تلكَ اللحظة.

حاولتُ أن أُديرَ ظهري، فإذا به يقف أمامي فجأةً.

“حقًا، ليس هنا؟ فيسريو.”

“هل جئتِ فقط لتقولِي ذلك؟”

“نعم.”

“ها. هذا. يبدو أنّكِ فقدتِ عقلكِ؟ تجاهلتِ رسائلي والآنَ تتجرئين لتطلبي ما تريدين؟ أنتِ مجردُ فتاة!”

لماذا يَخطرُ في بالِه أنّ كونَ المرءِ أنثى يبيحُ له التحقيرَ والاستغلال؟

لماذا يتفوّهُ بهذا الوقاحَةِ وهو يعيشُ من خيرِ ابنتِه؟

“ما هذه النظرةُ الحاقدة؟”

“……”

“هل نَهَضتِ بعدَ الصفعِ لتدركي؟”

لم أتكلّم؛ اكتفيتُ بالنظرِ إليه ساكنةً. كم مِن هذيانٍ سيبذُرُه؟

“أتعرفين كم كنتُ في ورطَةٍ بسببِ هروبكِ؟ كنتُ في صددِ إطلاقِ مشروعٍ جديدٍ وكلُّ شيءٍ انهارَ لأجلِك!”

لم تفعل نيديا شيئًا يستدعي تلكَ الاتهامات، فلماذا يُحمَّلها تبعاتُ خطئهِ؟

“اذهبي واطلُبي من زوجِكِ أرضًا في الشرقِ. تلكَ الأرضَ الخصبةَ التي تثمرُ كلَّ العامِ. لم تُعطَ لكِ من قبلُ، فاطلبيها الآن. سمعتُ أنّ الدوق ذهب لِيَفتشَ عنكِ بنفسِه؟ إذاً فليكن ذلكَ جزءًا من حقوقكِ.”

“……”

“وأيضًا، لو كنتِ ستطلّقين، فاستحقي الطلاقَ مستحقًّا. لماذا تهربينَ أولًا؟”

رؤيةُ غضبِه الشديد جعلتني أهدأُ أكثر.

“أبي.”

“ماذا؟”

“هل أنا حقًا ابنتُك؟”

“ما هذا السؤال؟”

“عندما يحدثُ شيءٌ لطفلٍ، يَتصدَّعُ القلبُ وكأنَّ عالمي ينهار. أما تشعرُ بهذا؟”

سألتُ بصدقٍ متناهي؛ رودسيل ليسُ ابني، لكنّه صارَ عزيزًا عليّ إلى حدِّ التفانيِ.

لكنّ لدى كونتِ زيغمنت، نيديا حجَرٌ بلا قيمة.

“ماذا تتوقّعين أن أجيبَكِ به؟”

“حتى بعد أن ترينني نحيفةً، كلُّ ما يدور في خاطركَ هو استغلالي لا شفقةٌ. كلُّ إخفاقاتِك في توسيعِ مشروعِك تُلقيها عليَّ، وتلومُني. هل هذا يُسمّى أبًا طبيعيًا؟ هل أنتَ فعلاً أبي؟”

فصرخَ فجأةً:

“يا وقحة! هل تجرئينَ على تأديبي؟!”

صارعَ الكونتُ زيغمنتُ غضبَهُ، فرفع يدهُ الضخمة بلا تردُّدٍ وضربَ وجهي.

حاولتُ أن أمسكَ معصمهَ، لكنهَ كانَ أقوى بكثيرٍ مني، فلم أَستطِعِ إيقافَه.

صفعةٌ انطلقت على خدي، وصَدَمَتني آلامُها حتى رأسي.

داوى الخدُّ لهيبًا كالنار، وامتلأت الأذانُ بصوتِ الضربة.

“أهذا جزاؤُكِ؟ ألم تعرفي الامتنان؟”

“يا لهُ من أمرٍ بائسٍ حقًّا! حتى المتشردونَ في الشارعِ لا يفعلون هذا بأولادِهم!”

“أهذا حقيقةً!!”

“لماذا؟ هل ستضربُني مرةً أُخرى؟”