“ما دمتُ أقول إنّ الأمر لا بأس به، فما الذي يدعوكِ للانشغال بأفكارٍ لا طائل منها؟”
“حقًّا؟ أحقًّا تقولين ذلك؟”
“نعم.”
“سيّدتي، هل لي أن أطرح سؤالًا واحدًا فقط؟”
“تفضّلي، اسألي ما تشائين.”
“ما دمتِ بخيرٍ تام، فلماذا تختارين إرسالي أنا إلى هناك؟ أودّ أن أعرف السبب بصدق.”
ضممتُ يدها بين كفّي بلطفٍ وقلتُ بهدوء:
“في الحقيقة… علاقتي بالدوق لم تعُد جيّدة.”
“ماذا؟”
بدت على ملامحها دهشةٌ مصطنعة، وهي التي تعلم جيّدًا ما يُشاع عني وعن زوجي، فخبر سوء علاقتنا ذاع في أرجاء القصر كلّها.
ثمّ بعد حديثها السابق مع فيليس، أدركتُ أنّ كلوي باتت تعرف الكثير عن أوضاع هذه العائلة أكثر ممّا توقّعت.
فكيف لها ألّا تكون على علمٍ بما بيني وبين زوجي؟
“فيما مضى كنتُ لأذهب إلى الحفلات وأجاهد في سبيل استعادة قلب زوجي… أمّا الآن فقد مللتُ من ذلك بعض الشيء.”
“آه…”
“وفوق ذلك، فإنّ ولدي مريض، وقد صار شديد التعلّق بي، فلا أستطيع مغادرة المنزل وتركه وحيدًا.”
“هل حالة السيّد الصغير سيّئة إلى هذا الحدّ؟”
“تتقلّب بين تحسُّنٍ واعتلالٍ.
على أيّ حال، لذلك سألتكِ إن كنتِ ترغبين بالذهاب، فإن لم يَرُقْ لكِ الأمر فلا تذهبي، فلستُ أُجبرك على شيء. وإنْ رفضتِ، فهناك من يمكنني أن أطلب منه بدلًا منكِ.”
لكنّها لم تلبث أن تردّدتْ لحظةً ثمّ سألتْ:
“ولِمَ أنا بالتحديد؟”
“ليس لسببٍ مميّزٍ بكِ.”
“آه…”
“فأنتِ أحدثُ من التحق بخدمة هذا القصر. وبصراحة، ليس من اللائق أن يرافق الدوق في حفله خادمةٌ قديمة أو وصيفةٌ معروفة، فذلك يُسيء إلى مكانة الدار.
وأُقسم أنّ الأمر ليس حرصًا على راحته، بل حفاظًا على هيبة العائلة لا أكثر.”
كنتُ أعلم أنّ علاقتي بزوجي بلغت حدّ الجفاء، ولذا تحدّثتُ بذلك النّبر الهادئ الذي يُوحي بعدم المبالاة، كأنّي أقول: ‘لا بأس إن انسجمتِ أنتِ والدوق.’
لم أكن متأكّدة إن كانت كلماتي ستُخفّف عنها القلق، غير أنّ ملامحها أوحت بالرضا.
“لأنّني الأقلّ شهرةً بين الخَدَم، اخترتِني…”
“صحيح، وسأمنحكِ مكافأةً إضافيّة لقاء ذلك.”
“ما دامت سيّدتي تُريد، فكيف لي أن أرفض؟ سأفعل.”
رغم أنّها قالت ذلك لأجلي، إلّا أنّ ابتسامتها المشرقة كانت تُفصح عن بهجةٍ خالصةٍ يصعب إخفاؤها.
“شكرًا لكِ.”
“بل أنا من يشكركِ.”
“سأتولّى إبلاغ الوصيفات بالبقيّة، أما أنتِ فكوني على علمٍ فحسب. وسأختار لكِ الفستان الذي سترتدينه بنفسي.”
“أمرُكِ، سيّدتي!”
“إذًا اعتني بميّا جيّدًا.”
أتممتُ كلامي وغادرتُ الغرفة.
“إلى اللقاء، سيّدتي. أظنّ أنّي سأعود خلال يومين أو ثلاثة.”
“حسنًا.”
أومأتُ ببرودٍ وواصلتُ السير إلى غرفتي، غير أنّ إحساسًا حارقًا في جانب وجهي جعلني ألتفت بسرعة.
فوجدتُ من يرمقني بنظراتٍ مشتعلة، كانت فيليس تسير خلفي بصمتٍ يفضح غليانها الداخلي.
“فيليس.”
“نعم، سيّدتي.”
“أأغضبكِ أنّي لم أُخبركِ بشيء؟”
“أبدًا، كيف أغضب من سيّدتي؟”
“لكنّكِ تبدين غاضبة.”
كانت نبرتها حادّةً تخفي وراءها اضطرابًا مكتومًا، فشعرتُ للحظةٍ أنّني فعلاً أذنبتُ في حقّها.
كيف لا، وأنا قد أوكلتُ إلى كلوي، التي تمقتها فيليس أشدّ المقت، أن تذهب مكانِي إلى الحفل مع الدوق؟
استدرتُ نحوها، ونظرتُ إليها بصدقٍ وقلتُ:
“آسفة.”
فوجئتْ، ورفعت يديها في ارتباكٍ واضحٍ محاولةً نفي الكلام.
“لا، سيّدتي! ليس أنن من يجب ان يعتذر. أرجوكِ، لا تقولِي هذا أمامي.”
“لكنّني صادقة. كان بوسعي أن أُخبركِ، غير أنّي لم أفعل، وأنا نادمةٌ على ذلك.”
كانت تنتظر خارج القاعة حين تحدّثتُ مع الدوق، وبعدها ذهبتُ نحوها ونحو كلوي دون أن أشرح شيئًا.
“سيّدتي…”
“لم يكن لي خيارٌ آخر.”
‘فيليس… صدّقيني، لم يكن لي خيارٌ آخر.’
أعلم أنّها لم تفهم موقفي، وربّما تُكنّ لي الغضب الآن.
فهي أكثر من حاول تقريب الدوق مني، وأكثر من همس في أذني بأنّه يُحبّني حقًّا.
لكنّني، أمامها، دهستُ كلّ ما بنته من ثقةٍ وإيمانٍ بي.
صرّحتُ بأنّ علاقتي بالدوق متصدّعة، ورفضتُ الذهاب معه إلى الحفل.
“سيّدتي، لا تُبرّري شيئًا لي.”
“لكن…”
هزّت رأسها بحزمٍ وقالت:
“أنا أثق أنّ سيّدتي لا تفعل أمرًا عبثًا، لا بدّ أنّ وراء هذا تصوّرًا عميقًا.”
“هاه؟”
“نعم، لا أظنّ أنّك منحتي كلوي تلك الفرصة دون غاية. فأنتِ دومًا تتصرّفين بحكمةٍ وبعد نظر.”
“أنا… كذلك؟”
لكنّني لم أفعل شيئًا يستحقّ الثناء بعد.
“بالطبع! ألم تهربي ذات يوم من القصر؟ ومنذ ذلك الحين، صار الدوق لا يستطيع الحياة دونكِ، بل وحتى السيّد الصغير الذي كان يبتعد عنكِ لم يعُد يحتمل فِراقكِ.
حتّى تلك الحادثة كانت ذات مغزى، فكيف بهذا القرار؟”
كانت كلماتها ترفعني إلى مقامٍ لم أبلغه قط، فابتسمتُ ابتسامةً متكلّفةً حياءً منها.
“شـ… شكرًا لكِ.”
“بل أنا من يشكركِ، إذًا، ماذا عن تجهيزات الحفل؟”
“آه…”
عادت إلى الواقعية، وبدأت تسأل عن التفاصيل. كان الفستان هو الهمّ الأكبر، لكنّ الوقت لم يكن كافيًا لصنع فستانٍ جديدٍ مهما كانت علاقتنا بالصالون المكلّف بالخياطة.
ولم يكن من الممكن أيضًا أن ترتدي الفستان الذي أهدانيه الدوق، فذلك سيُثير غضبه دون شكّ.
فقرّرتُ أن أُلبسها أفخرَ فساتيني التي لم أرتدِها من قبل، مع مجوهراتي الخاصّة.
أما الحذاء، فسأشتري لها أغلى ما هو متاح من المعروضات الجاهزة.
اتّفقنا على ذلك، وغادرت فيليس لتجهيز الأمور وتدريب كلوي، ووعدت أن تعود قبيل المساء.
—
بعد ثلاثة أيّامٍ بالتمام، أقبل رودسيل عليّ بوجهٍ كئيبٍ لم أعهده منه.
“اليوم موعد درسك، أليس كذلك؟”
“نعم…”
“ما بالك حزينًا هكذا؟”
“أمّي… لا أشعر بأنّني بخير.”
“همم؟ أحقًّا؟”
كنتُ أحتسي الشاي حين مددتُ ذراعيّ إليه لأضمه، فتردّد قليلًا ثمّ ارتمى في حضني.
“ما الذي يضايق ولدي العزيز؟”
“لا أعلم… أشعر بالغثيان والضيق.”
“إذن فلن ندرس اليوم. ما رأيك أن نقضي اليوم على السرير نلهو معًا؟”
لكنّه هزّ رأسه بإصرارٍ طفوليٍّ جاد.
“أدركتُ كم أنا ضعيف.”
“كلا، أنت لستَ ضعيفًا يا رودسيل.”
“ما زال أمامي الكثير لأُصبح مثل أبي. وعندما أُصبح مثله، ستختارني أمّي تمامًا، أليس كذلك؟”
“هاه؟”
“سأعمل بجدٍّ أكثر. وحين تختارني أمّي حقًّا، سأزيح أبي وأُصبح أنا الدوق. عندها ستصير أمّي لي وحدي، وسأذهب معها إلى كلّ مكان.”
كان يتكلّم بجدّيّةٍ تُخفي وراءها براءةً مؤلمة.
“لكنّنا نذهب سويًّا إلى كلّ مكانٍ الآن، يا صغيري.”
أجاب بعنادٍ لطيف:
“كلا، ستذهبين إلى الحفل مع أبي.”
“ماذا؟”
“أنا لا أحبّ ذلك. أظنّ لهذا السبب أشعر بالمرض. لأنّكِ ستذهبين مع شخصٍ آخر…”
“لكنّه والدك، يا رودسيل. أيسوؤكِ أن تذهب أمّك إلى الحفل؟”
“أعلم أنّكِ تحبّين الحفلات، أفهم هذا… لكن رغم ذلك، لا أُريدكِ أن تذهبي.”
كم يحمل هذا الطفل من حبٍّ عظيمٍ لأمّه حتى يغار من والده نفسه.
ابتسمتُ وضممتُه أكثر.
“لا تقلق، أمّك لن تذهب إلى الحفل.”
“حقًّا؟”
“حقًّا. لن أذهب. سأُرسل شخصًا آخر بدلًا منّي، فلا تقلق.”
وما إنْ سمع كلماتي، حتى أضاء وجهه بابتسامةٍ عذبةٍ تنبع من القلب.
“لن تذهبي حقًّا؟ آه، أمّي… إذًا هذا لأنّي أنا السبب، أليس كذلك؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 40"