“أعتذر يا سيدتي… لم أتوقّع أن تُدي تلك المؤأة مثل هذا التصرّف. لقد بالغتُ في ردّ فعلي على ما يبدو، إذ سيطر عليّ هاجسُ أن أُثبتَ لكِ ولائي وإخلاصي.”
“أحسنتِ.”
“نعم…؟”
ربّتُّ على ظهر فيليس التي كانت تنظر إليّ بعينين متّسعتين من الدهشة.
“لقد أحسنتِ يا فيليس. بفضلكِ تبيّن لي الكثير ممّا كنتُ أجهله.”
ما ظننته محض افتراضٍ تبيّن أنّه حقيقةٌ دامغة، ولهذا شعرتُ بامتنانٍ صادقٍ تجاهها.
“أحقًّا؟”
“نعم، بل أشعرُ بالأسف أيضًا. كأنّني كنتُ السببَ في إشعال الخلاف بينكِ وبين كلوي.”
“ذلك النزاع كان وشيكًا على الانفجار في كلّ حال، لم يتقدّم سوى قليلٍ من الوقت لا غير. ثمّ إنّ إسنادكِ إليّ مهمّة تأديبها أراحَ قلبي وأزال عنه ثِقلاً كبيرًا.”
“حقًّا؟”
نظرتُ إليها وهي تبتسم بتلك البراءة الطفولية، فوضعتُ في صدري حجرًا جديدًا من الهمّ.
في نهاية المطاف، التي ستبقى في هذا القصر لن تكون أنا، بل كلوي.
فهل ستتمكّن فيليس من احتمال ذلك؟
كم بدوتُ مثيرةً للشفقة، امرأةً لا تقدر على حماية نفسها، ومع ذلك تقلق على سواها. ومع أنّ الأمر يبعث على السخرية، إلّا أنّ إحساسي بها كان صادقًا.
إن اضطررتُ لمغادرة هذا القصر يومًا، فسأطلب من الدوق طلبًا واحدًا لا غير: أن يحميها، ويُبقيها في خدمته، وألّا يسمح لأحدٍ بأن يُسيءَ إليها.
ذلك سيكون أقصى ما أستطيع تقديمه لها.
“شكرًا لكِ يا سيدتي.”
حين رأيتُ ملامح وجهها وقد أضحت أكثر طمأنينة، خيّم على صدري شعورٌ ثقيل.
لقد بذلت فيليس ما استطاعت من جهد، ومع ذلك، فإنّ نهاية قصّتنا ظلّت كما كانت، بلا تغيّر.
أعانتني على معرفة الحقيقة، غير أنّ هذا كلّ ما نلته منها. فحتى مع إدراكي للحقيقة، لم أكن قادرةً على تغيير واقعي.
لذا اكتفيتُ بأن ربّتُّ على كتفها بحنان.
“فيليس.”
“نعم، سيدتي.”
“هل يمكنكِ أن تفهميني؟”
“في أيّ شيءٍ تعنين؟”
“أعني موقفي هذا… كوني أُبقي كلوي إلى جانبي رغم كلّ ما قيل عنها.”
أنا، التي أعرف دواخلي وأسبابي، أستطيع أن أبرّر لنفسي. أمّا فيليس، فكيف تراها تنظر إليّ؟
لا بدّ أنّني في عينيها شخصٌ استغلّها لانتزاع المعلومات، ثمّ جبنتُ عن اتخاذ أيّ موقفٍ حاسم.
لكنّها هزّت رأسها نافيةً بلطف.
“أؤمن أنّ لكلّ أمرٍ حكمةً خفيّة. فلا بدّ أن لسيدتي علّةً وجيهةً تدفعها إلى ما تفعل.”
كان صوتها هادئًا مطمئنًا، كنسمةٍ تلامس القلب.
“أنا راضيةٌ بما فعلتُ. لم أطلب منكِ منذ البداية أن تستجيبي لرغباتي، أو أن تنصاعي لما أريده.”
“أشكركِ. سيأتي اليوم الذي أُبيّن فيه كلّ شيء. إلى أن يحين ذلك الحين، تفهّمي أفعالي، مهما بدت غريبة.”
“نعم، لا تُلقي لي بالًا.”
ابتسامتها الهادئة تلك هزّت شيئًا عميقًا في داخلي، فهبطت غصّةٌ ثقيلة إلى قلبي.
كم كنتُ حمقاء… أعرف الحقيقة، ومع ذلك عاجزةٌ عن أيّ فعل.
‘لو لم يكن هذا العالم روايةً مكتوبة… لو كنتُ إنسانةً عاديّة لا تعرف شيئًا… لو لم أحقن رودسيل بالسحر الأسود… لربّما كنتُ الآن أعيشُ حياةً أخرى.’
لكنّ النردَ أُلقي، والرقم الذي خرج لي هو “واحد”.
حين يخطو الآخرون ستّ خطوات، أتمكّن أنا من خطوةٍ واحدةٍ فقط.
ومهما أعدتُ الرمي، فلن يتغيّر رقمي. تلك هي قوانينُ الرواية.
فحتى وإن واصلتُ السير، فإنّ الطريقَ الذي انحرف منذ البدء لن يستقيم.
لذلك عليّ أن أتحرّك أكثر من سواي، وإن أثقلتُ كاهل من حولي بالألم.
لكنّني سأعيش.
“الجوّ جميلٌ اليوم.”
“بالفعل.”
حين كنتُ أعيش أيّامي ببلادة، لم أكن أدرك كم هي الثواني ثمينة.
لم أكن أشعرُ بدفءِ النسيم ولا بنقاء السماء، ولا كم يمكنُ لضوء الشمس أن يُنعش الروح.
فقط عندما شعرتُ بأنّني قد أفقد كلّ هذا، فهمتُ قيمتَه الحقيقيّة.
ومنذ تلك اللحظة، رغبتُ بالحياة أكثر.
حتى لو تسبّبتُ بألمٍ للآخرين، عليّ أن أنظر إلى الغد.
أريد أن أرى رودسيل يسيرُ في طريقٍ يخالف ما كُتب له في الرواية.
أريد أن أعيش لا كدوقةٍ محبوسةٍ في نصّ، بل كـ”نيديا” في هذا العالم الحقيقيّ.
“أتمنّى أن يكون الغدُ صافياً أيضًا. سأقترح على رودسيل أن نخرج في نزهةٍ معًا.”
نظرت إليّ فيليس بابتسامةٍ رقيقة، وسرنا معًا إلى غرفتي.
“أمّي، أين كنتِ؟”
وفي طريق العودة تذكّرت فجأة أنّني كنتُ في الغرفة المجاورة أثناء درس رودسيل.
“آه، آسفة يا صغيري. كان عليّ أن أخرج لبعض الوقت… تفاجأتَ لغيابي بعد الدرس، أليس كذلك؟”
تمنّيتُ في سري أن يتقبّل الأمر بابتسامة.
“لكنّك كنتَ رائعًا، درستَ جيدًا رغم غياب أمّك.”
“صحيح، كنتُ مجتهدًا. لكن حين لا تكونين هنا، لا أريد الدراسة. في المرّة القادمة، لندرس معًا، أرجوكِ؟ أشعر أنّني لا أستطيع التركيز بدونكِ يا أمّي.”
كما توقّعت، تملّكه بي لم يزُل بعد.
“كلا، رودسيل، عندما تدرس سأكون دائمًا في الغرفة المجاورة، أراقبك من هناك.”
تقلّصت عيناه بخطورةٍ طفيفة.
“صدّقني.”
“سأغفر لكِ هذه المرّة فقط، لكن إن تكرّر الأمر… سأقيّدُ يديكِ وقدميكِ وأُبقيكِ إلى جانبي دائمًا، يا أمّي.”
“حسنًا، حسنًا، أعدك.”
لا ريب أنّ تعلّقه بي لن يتلاشى قريبًا.
نظرتُ إليه وابتسمتُ له بابتسامةٍ دافئةٍ تشعُّ حنانًا، وعدنا إلى الغرفة سويًّا.
—
وفي اليوم التالي، أتى الدوق لرؤيتي.
“هل تحسّنتِ الآن؟”
“لو سمعنا أحدٌ لظنّ أنّني كنتُ على شفير الموت!”
“بل كان ما حدث أمرًا جللًا بالفعل.”
“أنا بخير، فلا تقلق بعد الآن.”
“حسنًا، ما دمتِ تقولين ذلك، فلن أقلق.”
‘أخيرًا بدأ يُصغي إلى كلامي.’
كان مختلفًا عن عادته الباردة الصارمة، فتسرّب إلى ذهني خاطرٌ عابر:
‘لو كان يُعامل الناس جميعًا بهذا اللطف… لقالوا عنه إنّه ليس عديم الإحساس كما يشاع.’
لكنّني ما لبثتُ أن طردتُ تلك الفكرة.
‘ما شأني بما يُقال عنه؟ لسنا قريبين إلى هذا الحدّ.’
هززتُ رأسي نافيةً.
“ما بالكِ؟”
“لا شيء. لمَ أتيتَ اليوم؟”
“قريبًا سيُقام حفل. استعدّي له.”
“حفل؟”
“إنّه مهرجان تأسيس المملكة، أحد الحفلات التي كنتِ تنتظرينها بشوق.”
تدفّقت إلى رأسي ذكرياتُ نيديا القديمة شيئًا فشيئًا.
كانت ذاكرتها تعمل مثل ذاكرتنا نحن: لا نسترجع التفاصيل الصغيرة إلا عندما يُذكّرنا بها شيء.
والآن، بفضل كلماته، تذكّرتُ تلك المناسبات التي كانت نيديا تتلذّذ بها.
كم كانت تعشق الظهور والتفاخر، وكم كانت تحبّ أن ترافق الدوق لتُثبت للعالم أنّها دوقةٌ أنيقة مميّزة.
ولم يكن الدوق يعترض على إسرافها في الزينة أو الملابس.
بل كانت ترتدي فساتينَ أفخمَ من فساتين الإمبراطورة نفسها، رغم توتّر العلاقات مع القصر الإمبراطوري.
“لم يتبقَّ سوى أيّام، ومع ذلك لم تطلبي بعدُ تفصيلَ فستانٍ جديد.”
“وهل ثمّة حاجةٌ إلى فستانٍ آخر؟”
“بالطبع! أيُعقل أن تحضر الدوقةُ حفلاً كبيرًا وهي ترتدي الفستان نفسه؟”
أومأتُ برأسي بفتور.
لو كانت نيديا القديمة في مكاني، لأقامت الدنيا ولم تُقعدها، أمّا أنا، فلا رغبة لي في حضور الحفل أصلًا.
“لهذا أعددتُ لكِ فستانًا بنفسي.”
“أنتَ؟ لأجلي؟”
“لو كنتِ كما كنتِ سابقًا، لركضتِ نحوي فرِحةً بهذا الخبر، لكنّكِ الآن… لا يعجبكِ أن أفعل شيئًا لأجلك.”
“تحلّلُك صائب.”
رغم كلماتي، كانت ملامحه تنضح بالرضا، وذلك ما جعل القلق يتسرّب إلى قلبي.
“على كلّ حال، سترتدينه. لقد أمرتُ بتفصيله خصّيصًا لكِ.”
“ومتى يُقام هذا الحفل؟”
“بعد أسبوع.”
“رائع. إذن سأكون مريضةً في ذلك اليوم تحديدًا.”
“مريضة؟ تقصدين عمدًا؟”
“بالطبع، فلكلّ إنسانٍ إيقاعه الخاصّ في الحياة، ويبدو أنّ يوم سقمي سيصادف ذلك اليوم.”
وفي تلك اللحظة تحديدًا، لمعت في ذهني فكرةٌ باهرة.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 37"