“من المعلوم أنّ المُرضعة أرفع شأنًا من الخادمات عادةً، وهذا أمر لا يُنكَر، لكن… تلك المرأة كانت تتصرّف كما لو أنّها ليست مُرضعةً على الإطلاق، بل سيدةٌ من سيدات النبلاء.”
“أتقصدين أنّها فعلت ذلك حقًّا؟”
“نعم، ويمكنني أن أُثبت كلامي متى شئتِ.”
“أبهذا القدر من الجِدّة؟”
هزّت فيليس رأسها بعنفٍ، كمن يُعلن يقينًا لا شكّ فيه.
‘الآن فقط أتذكّر. حين طلبتُ من كلوي أن تتلقّى التعليم على يد فيليس، كم قاومتها بشراسة.’
صحيح أنّني كنتُ أتساهل مع كلوي في كلّ صغيرةٍ وكبيرة، إلّا أنّها بين الحين والآخر كانت تُفصح عن طباعٍ توحي بتجاوز الحدود.
كنتُ أظنّها نتيجة قلّة خبرتها في التعامل مع بيوت النبلاء، غير أنّ المسألة لم تكن كذلك فيما يبدو.
“أعلم أنّ كلامي هذا قد يسيء إلى سمعتي، وأنّه سيُؤخذ عليّ. لكنّي لا أبتغي طردها أو إذلالها، بل فقط أشعر أنّ هناك أمرًا غريبًا يعتري تصرّفاتها، وأرى أنّ من واجبي تنبيهك، وإن كلّفني ذلك مكانتي لديكِ.”
كان في صوتها ارتجافُ من أمضّه التفكيرُ طيلةَ ليالٍ طويلة. لقد كانت فيليس رفيقةَ دربي وموضعَ ثقتي منذ البداية، سواء حين كانت نيديا هي نيديا، أو منذ أن سكنتُ جسدها.
ولم أذكر قطّ أنّها أبدت كرهًا أو تحفّظًا تجاه أحدٍ كما تفعل الآن.
“فيليس…”
ناديتُها، فابتسمت بصمتٍ مكتفيةً بالنظر إليّ.
كنتُ أعلم أنّ موقفي الظاهر يجعلني أبدو وكأنّني أفضّل كلوي على الجميع، وربما لذلك كتمت فيليس قلقها عني.
شعرتُ بالأسى لأنّني لم ألحظ كم كانت تُخفي وراء ابتسامتها من قلقٍ وهمّ.
‘إذا كانت تتجرّأ على قول هذا، فلابدّ أنّ وراءه أمرًا جدّيًا.’
“لقد قلتُ ما عندي، أمّا ما بعد ذلك فلكِ أن تحكمي كما تشائين، يا سيدتي.”
وحين سكتت، استندتُ بيدي إلى ذقني غارقةً في التفكير.
كلّما استمعتُ إليها، ازدادت حيرتي تعقيدًا.
ما لم أستطع فهمه هو: إن كانت كلوي مثلي، عائدةً بالزمن أو متجسّدةً في هذا العالم… فلماذا تجهل مكانَ تلك الحديقة؟
كان من المفترض أن تعرفها، فهي تعرف غيرها من الأماكن بدقّة، فكيف يعزب عنها هذا وحده؟
‘آه… لعلّ السبب اتّضح الآن.’
حين تركتُ أفكاري تهدأ لحظة، بان لي الجواب.
‘الرواية الأصلية لم تذكر سوى البركة والإسطبل.’
تسلّل البردُ إلى عظامي، كأنّ رعشةً خفيّةً اجتاحتني.
ففي الرواية لم يُذكَر تفصيلُ أيّ مكانٍ آخر، سوى ذينك الموضعين تحديدًا.
ذُكر أنّ البركة تقع في الشمال، عبر غابةٍ تتّصل بممرٍّ ضيّقٍ من الحديقة، وأنّ رودسل اصطحب ميا إلى هناك في أوائل الفصول.
كما ورد أنّ رودسل كان يعشق مهْرَه الصغير ويُدلّله، وأراد أن يُريه لميا لفرط يقينه بأنّها ستُحبّه أيضًا، وقد استخدم ممرًّا سرّيًا لذلك.
لكنّ الحديقة السريّة لم تُذكَر قطّ.
كانت مكانًا لا يدخله إلا الدوق ووريثه، وكلوي كانت أولَ غريبةٍ تدخله.
غير أنّ الطريق المؤدّي إليه لم يُدوَّن في أيّ سطر.
‘ذُكر فقط أنّها ذهبت في ليلةٍ متأخّرة، حين قادها الدوق إلى موضعٍ غامضٍ لا يُدرى أهو في باطن الأرض أم فوقها، داخل القصر أم خارجه، مكانٍ تغشاه هالةٌ من السحر والسرّ.’
إذًا…
ليست كلوي عائدةً بالزمن، بل مُتجسّدةٌ مثلي تمامًا.
وما إن وصلتُ إلى هذه الفكرة، حتى بدا كلّ ما حولي غريبًا، كأنّ الخيوط المتشابكة بدأت تنكشف ببطء.
“سيدتي، هل تشعرين بالضيق؟”
“همم…؟”
“وجهكِ شاحبٌ للغاية.”
“آه… لا تقلقي. اسكبي لي مزيدًا من الشاي، أرجوكِ.”
تناولتُ الكوب منها وارتشفتُ جرعةً من شاي النعناع اللاذع، فشعرتُ بأنفاسي تنتعش قليلًا.
غير أنّ صفاء رأسي لم يدم طويلًا، إذ سرعان ما استولى عليّ التفكير من جديد.
‘حتى لو كانت مُتجسّدة، فلمَ تتصرّف بهذه الطريقة؟ ألم يكن الأجدر بها الانتظار حتى موتي؟’
هل علمت بحقيقتي؟
“الآن فهمتُ…”
“عذرًا؟”
“لا شيء، يا فيليس.”
خرجت الكلمة من فمي دون قصدٍ حين باغتني الإدراك فجأة.
الآن أدركتُ موضع الاختلاف.
لقد أُعلن عن الحاجة إلى مُرضِعةٍ لِرودسل في وقتٍ أبكر ممّا ورد في الرواية. أي أنّ مجرى الزمن ذاته تغيّر منذ البداية.
دخلت كلوي القصرَ الدوقيّ قبل أوانها، وبدلًا من أن يكون رودسل غارقًا في نوباته كما في الأصل، بدا هادئًا سليمًا. ثمّ إنّ الطفل لم يُفارق جانب نيديا قط، ففات اللقاء الذي كان يجب أن يجمعه بميا.
وهنا… اتّخذت كلوي قرارها بأن تُغيّر مجرى القصّة بنفسها.
وحين اكتمل هذا الاستنتاج في ذهني، بدت قطعُ اللغز جميعها تنسجم في أماكنها.
‘لن أتيقّن إلا حين أُواجهها وجهًا لوجه، لكنّ حدسي يكاد يجزم بأنّني على صواب.’
ومع ذلك، ظلّ أمرٌ يُثير الريبة في نفسي:
لماذا تُظهر لي وجهًا وتُري الآخرين وجهًا آخر؟
‘هل ترى نفسها أرفعَ مقامًا من الخدم؟ أم تتخيّل أنّها خُطِبت للدوق، فلا يليق بها الاختلاط بهم؟’
في تلك اللحظة…
خَفَقَ جناحٌ صغير قرب النافذة، وإذا بطائري “بيبي” يدخل، يرفرف ويغرّد كما لو كان يأمرني أن أتحرّك.
كان هذا الطائر العجيب يأتي ويذهب بلا أثر، أمّا اليوم فبدا أكثر توتّرًا من المعتاد.
نظرتُ إليه، ثم نهضتُ بعزمٍ قائلةً:
“لا ينبغي لي البقاء مكتوفة اليدين، يا فيليس.”
“عذرًا؟”
“خُذيني إلى غرفة كلوي. أريد أن أتحقّق بنفسي.”
“تتحقّقين؟”
“قلتِ إنّها تُظهر لي وجهًا وتُخفي عن الآخرين وجهًا آخر. أريد أن أرى الفرق بعينيّ.”
لن أكتشف حقيقتها ببضع كلمات، لكنّني على الأقلّ سأظفر بخيطٍ يُفسّر تصرّفاتها المريبة.
فانطلقنا سويًّا نحو غرفتها.
—
حين وصلنا، فتحت فيليس الباب قليلًا ودخلت أولًا، تاركةً فتحةً ضيّقةً بالكاد تُرى، حتى خُيِّل إليّ أنّ الباب أُغلق تمامًا.
وسرعان ما تسلّلت الأصوات من الداخل.
“هل الطفلة بخير، يا كلوي؟”
“نعم.”
“أهي نائمة؟”
“نامن منذ قليل. ما سبب زيارتك؟”
كان صوتها حادًّا كالنصل.
“جئتُ أطمئنّ عليكِ.”
“تطمئنين؟”
نبرتها كانت أكثرَ حدّةً مما اعتدتُه منها حين تُحادثني.
“لا أظنّ أنّ بيننا من الألفة ما يُبرّر ذلك، يا فيليس.”
“أهكذا ترين.”
قالتها فيليس ببرودٍ قارس، ثم أردفت كلوي بنبرةٍ لا تخلو من سخرية:
“هل أرسلتكِ السيّدة؟”
“وهل يلزمني إذنها لأزورك؟ ثمّ إنّي كنتُ أيضًا ممّن أنقذ طفلك في ذلك اليوم، أليس كذلك؟”
“ظننتُ أنّكِ ستُبدين شكرًا، لكن يبدو أنّي أسأتُ الظنّ.”
“…”
“أليس الامتناع عن الشكر ضربًا من الكبرياء الفارغ، يا كلوي؟”
“شكرًا… على ما فعلتِ في ذلك اليوم.”
كانت كلمتها باردةً كحجرٍ نُحتَ بلا روح.
“إذًا، إنْ انتهى حديثك، فاغادري غرفتي.”
“كلوي، لديّ سؤالٌ أخير.”
“وما هو؟”
“هل تُحبّين طفلتك حقًّا؟”
“أهذا سؤال؟ بالطبع أحبّها! ما هذه السخافة؟”
“عجيب… من تحبّ طفلها لا تتركه يلهو قرب بركةٍ خطِرة، ولا تقف عاجزةً حين يسقط فيها.”
“هل جئتِ لتُثيري الشجار؟”
انفلت الغضب من صوتها، حتى خشيتُ أن يتفاقم الأمر. لكنّ فيليس مضت غير آبهة، تستفزّها عمدًا.
“لم آتِ للشجار، بل لأسأل فقط.”
“خيرٌ لكِ أن تبتعدي عن شؤون غيرك.”
“ربّما، لكنّ الأمّ التي أنقذتُ طفل غيرها أرحمُ من تلك الأم التي لم تفعل شيئًا. لا أُريد الخصام، إنّما أقول ما أراه صوابًا.”
“يا لوقاحتكِ…”
عندها سمعتُ بوضوحٍ قاطعٍ صوتَ كلوي تقول:
“ماذا قلتِ لتوّكِ؟”
“قلتُ إنّ تلك التافهة لا تكفّ عن المشاكسة. أم أخطأتُ القول؟”
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 34"