في الحقيقة، كانت قد طلبت منذ اليوم التالي لحادثة البركة أن تعمل بقربي.
لكن بما أنّ فيليس قد عانت كثيرًا خلال الفترة الماضية، رغبتُ في أن أُتيح لها قسطًا من الراحة، لذا منحتُها إجازةً قسرًا.
غير أنّها ما لبثت أن ضاقت ذرعًا بالراحة، فعادت بعد ثلاثة أيّام فقط إلى عملها، متذمّرةً من عدم قدرتها على الجلوس دون عمل.
حزنت الخادمات الأخريات لذلك، لكنّ أحدًا منهنّ لم يشعر بالغيرة منها.
“لا تتخيّلين كم كان الأمر متعبًا وأنا مستلقية في الغرفة بلا شيء أفعله.”
قالت فيليس وهي ترفع شفتيها بتبرّمٍ وتتنفّس الصعداء.
“لقد منحتُك إجازةً لتستريحي، لا لتتعبي أكثر.”
“أدرك أنّكِ أردتِ لي الخير، لكن يبدو أنّني لستُ من أولئك الذين يجيدون البقاء دون عمل.”
ضحكتُ وأنا أرمقها بابتسامةٍ خفيفة.
“صحيح أنّ وجود الآخرين لم يُزعجني، لكنّ وجودكِ يجعل الأمور أكثر راحةً بالنسبة لي.”
جلستُ في الغرفة المجاورة لقاعات الدروس حيث يُدرّس رودسيل كعادتي، أحتسي الشاي الذي تصبّه لي فيليس ببطء، وأومئ برأسي.
“هل أصبحتِ بخير الآن؟”
“لا تقلقي، يا سيدتي، لقد تأكّد الطبيب من شفائي التامّ.”
“الحمد لله. وماذا عن ميا؟ هل كلوي بخير؟”
“نعم، قالت الطبيبة إنّ حياتها ليست في خطر.
وذلك بفضل كرمكِ حين سمحتِ لطبيب الدوقية بعلاجها.”
مع ذلك، لم تأتِ كلوي منذ ثلاثة أيّام.
كنتُ أنا من طلبتُ منها أن تبقى إلى جانب طفلتها حتى تتحسّن، لكنّ شيئًا غريبًا بدأ يزعجني في أعماقي.
لا أدري لمَ، لكنّ شعورًا غامضًا بالضيق تسلّل إلى نفسي.
“باستثناء إصابتها بزكامٍ شديد.”
“زكام؟”
“أجل، فهي طفلة صغيرة، ويبدو أنّ مرضها لم يشفَ بسهولة. ولا تستطيع أمّها أن تتركها لتعود إلى العمل.”
“همم…”
“تحقّقتُ بنفسي هذا الصباح، ويبدو أنّ الصغيرة لا تزال تُعاني من بعض الحُمّى.”
“أفهم… ربما علينا استدعاء الطبيب ليصف لها دواءً.”
لكنّني توقّفت فجأة، فقد أدركتُ ما كان يثير فيّ هذا القلق.
كلوي تملك قدرةً على الشفاء
وأيّ أمٍّ في مكانها كانت لتستخدم تلك القدرة أولًا لعلاج ابنتها.
فلماذا لم تفعل؟
في الرواية الأصلية، كانت تمتلك قوّة شفاءٍ كاملة، حتى أنّها شفت ابني ذات مرّة.
فما السبب الآن؟
‘هل يُعقل أنّها تفعل هذا عمدًا لتجذب الاهتمام إليها؟ لتستدرّ العطف باستخدام مرض طفلتها؟’
هززتُ رأسي نافيةً هذه الفكرة. لا يمكن أن تجني من ذلك سوى نظرات الازدراء.
فقد كنتُ أنا من أنقذ الطفلة، وهذا وحده كفيل بجعل الآخرين ينظرون إلى كلوي بعين الريبة.
وفوق ذلك، ما دامت تعتني بابنتها في صمت، فلن يعلم أحد بحالتها.
إذن، فكرة أنّها تفعل ذلك طمعًا بالاهتمام… بعيدة عن المنطق.
“حقًّا، أمرٌ يصعب فهمه…”
“هاه؟”
“لا شيء، فقط أرى أنّ تصرّفات كلوي غريبة بعض الشيء.”
ثمّ التفتُّ إلى فيليس قائبةً:
“بهذه الظروف، لا يمكننا الاستمرار في تدريب كلوي كما خطّطنا، أليس كذلك؟”
“نعم، لا أظنّ أنّ من الصواب أن أدرّب امرأةً يعاني طفلها من المرض.”
تنهدت فيليس تنهيدةً عميقة، وقد كانت هي نفسها من طلبت تعليم كلوي سابقًا رغم معارضتي لذلك.
“على أيّ حال، سأحرص على أن يتمّ الأمر لاحقًا. فمهما حدث، ستبقيْن أنتِ وطفلتها في بيت الدوق، أليس كذلك يا سيدتي؟”
“صحيح.”
“إذن لا يمكنني أن أتركها من دون تهذيب.”
نظرتُ إلى وجهها الجادّ وأومأت بالموافقة.
‘هل يُعقل أنّها لا تستخدم قدرتها لأنّها تخشى أن تتعافى الصغيرة فتصبح مُلزمةً بتلقّي التعليم؟ هل كبرياؤها يمنعها؟’
فكرة سخيفة حقًّا. ارتشفتُ رشفةً من الشاي لأطردها من رأسي.
“لكن يا سيدتي، ألا تلاحظين أنّكِ تُبدين لطفًا خاصًّا تجاه كلوي؟”
“حقًّا؟”
“ربما لأنّها أمٌّ لطفلةٍ بعمر السيد الصغير.”
“ربّما… يبدو الأمر مؤلمًا قليلًا.”
لكنّني لم أشعر بالشفقة عليها كما ظنّت.
‘سيظنّ الجميع أنّني طيّبة القلب، لكنّ الحقيقة أنّني لستُ كذلك.’
ما أفعله لا علاقة له بالرحمة.
أنا فقط أبقيها هنا لأنّ قدرتها قد تنقذ ابني، لا أكثر.
“منذ أن عدتِ، تبدين مختلفةً تمامًا يا سيدتي.”
“أهكذا تظنّين؟”
“حين قفزتِ إلى البركة، شعرتُ أنّ قلبي سيتوقّف من شدّة الصدمة.”
“حقًّا؟”
كانت نظراتها المتلألئة تُحرجني إلى درجةٍ جعلتني أشعر بالحرارة تتصاعد إلى وجهي.
“نعم. للحظةٍ وجيزة، شعرتُ أنّني كنتُ حمقاء حين تردّدت بسبب كلوي.”
كلماتها كانت كالشمس على قلبٍ لم يعرف الدفء من قبل.
لم تتلقَّ نيديا مديحًا صادقًا في حياتها قطّ، إلا بعض العبارات الممزوجة بالتهكّم من الدوق.
لذا كان هذا الإطراء الصافي شيئًا جديدًا تمامًا عليها.
“أم… فيليس.”
“نعم، سيدتي؟”
“هل حدث شيءٌ أثناء غيابي؟”
“آه، صحيح.
خلال فترة راحتي راجعتُ بعض الأمور القديمة، وتحدّثتُ مطوّلًا مع الخادمة المكلّفة بمراقبة كلوي.”
أومأتُ برأسي لتكمل.
“لقد كانت مشغولة دائمًا، ولم تجد فرصةً لتقدّم تقاريرها سابقًا، ففاتتنا بعض التفاصيل.”
“وما الذي اكتشفتِه؟”
“يبدو أنّ هناك شيئًا غريبًا بالفعل.”
“غريبًا؟”
“يتعلّق بحادثة الإسطبل.”
تذكّرتُ تلك الحادثة التي طواها النسيان بعد واقعة البركة.
“ماذا عنها؟ هل حدث شيءٌ آخر؟”
“نعم، تقول الخادمة إنّ الصغيرة لم تفعل ذلك وحدها.”
كدتُ أختنق بالشاي من شدّة الدهشة.
“ماذا تعنين؟ لم تكن وحدها؟ من كان معها إذن؟ هل اصطحبت أحدًا؟”
لكنّ الرواية لم تذكر شيئًا من هذا القبيل.
حين لاح على وجهي الارتباك، سارعت فيليس تهزّ رأسها نافية.
“لا، لم يكن أحدٌ معها، لكنّ الخادمة تظنّ أنّ كلوي هي من دفعتها لذلك.”
“كلوي؟ أمرتها هي؟”
“نعم. لم تستطع سماع حديثهما بدقّة لأنّكِ طلبتِ منها ألا تقترب كثيرًا، لكنها لاحظت تصرّفاتهما.”
“وماذا رأت؟”
حدّقتُ فيها بذهولٍ حتى كادت عيناي تؤلماني.
“لم أنتبه لذلك سابقًا لانشغالي، لكن حين ناقشنا الأمر، أدركنا أنّ الصغيرة لم تذهب إلى الإسطبل بمحض إرادتها.”
“إذن ذهابها لم يكن صدفة؟ كلوي هي من دفعتها لذلك؟”
“يبدو كذلك. فالخادمة تقول إنّ ميا ليست من النوع الذي يحبّ الخروج كثيرًا.”
“أهكذا؟ غريب، لقد رأيتها تتجوّل كثيرًا.”
مالت فيليس برأسها وأكملت:
“الخادمة لم تلاحظ الأمر إلا بعد الحادثة. كانت ميا ترفض الخروج وتفضّل اللعب في الغرفة، فإذا أبدت امتعاضها، كانت كلوي تسارع إلى إسكاتها بتوتّر.”
إنّ كونها متوتّرة يعني أنّها كانت تُخفي شيئًا.
لكن ما السبب الذي جعلها تُخفي أنّ ابنتها لا تحبّ الخروج؟
“هكذا إذن…”
“نعم. ثمّ إنّ ميا كانت قد تحدّثت مع أمّها عن المهر قبل أيّامٍ من الحادثة، ولم تحاول كلوي ردعها.
حتى إنّ الخادمة حذّرتهما قائلةً إنّ ذلك المكان يخصّ السيد الصغير، ولا ينبغي دخوله، لكنّ كلوي تجاهلت التحذير.”
حتى لو كانت تجهل بعض قواعد البيت، فقد أُخبرت بذلك صراحةً، ومع هذا لم تُبالِ.
“وهل بدأت تخفي أحاديثها عن الخادمة بعد تلك الواقعة؟”
“أجل.”
أي أنّها قبلها كانت تتصرّف بعفوية أمامها، أمّا بعدها فبدأت تُخفي ما يدور بينهما.
وهذا يعني أنّ ما كانت ميا تقوله كان حقيقيًّا فعلًا: أنّها لا ترغب في الخروج.
أومأتُ ببطء.
“كما أنّنا اكتشفنا أنّ حارس الإسطبل لا يترك مكانه عادةً، لذا يصعب على أيّ أحدٍ دخوله حتى وإن كانت طفلة.”
“لكن في ذلك اليوم لم يكن هناك أحد.”
“الخادمة تقول العكس.
الدوق بنفسه زار الإسطبل ذلك اليوم، ولهذا خرج الحارس مؤقّتًا.
الممرّ المؤدي إليه واحد فقط، وهو يلازم مكانه دائمًا إلا إذا رافق أحد الضيوف.”
تسلّل إليّ شعورٌ غريب.
ربما كذب الحارس خوفًا من العقوبة، خصوصًا بعد غضب رودسيل.
لكنّ ما أقلقني الآن كان أمرًا آخر…
لماذا أشعر فجأةً بأنّ في الأمر شيئًا مريبًا؟
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 32"