نطق بما يريد بثقةٍ كاملة، ثمّ خرج من الغرفة دون أن يلتفت.
وما إن غادر، حتّى شعرتُ بأنّ قوّتي كلّها قد تسرّبت من جسدي دفعةً واحدة.
“هاه…”
“بيبي؟”
لم أكن أدري متى جاءت بيبي، تلك العصفورة الصغيرة التي نقرَت أصابعي بخفّة.
مددتُ يدي أُداعب رأسها محاوِلةً تهدئة اضطراب نفسي، إذ كان عليّ أن أتظاهر بالتماسك حين أتحدّث إلى فيسريو، وإلا لانكشف كلّ ما يضطرب في داخلي.
كنتُ أخشى أن أنجرف مع تيّاره، لذلك كتمتُ ما أشعر به في صدري كمن يبتلع جمرة.
لكن ما إن اختفى من أمامي، حتّى غمرني الغثيان ولم أستطع كبحه.
هرعتُ إلى الحمّام، وتقيّأت كلّ ما في جوفي.
لا أعرف حقيقة ما يكون عليه فيسريو.
ولا أعلم كلَّ شيء عن نيديا.
كنتُ أظنّ أنّي أفهم كلّ شيء، وأملك القدرة على تغيير كلّ شيء، لكنّ ذلك لم يكن سوى غرورٍ مني.
‘أنا لا أعرف شيئًا على الإطلاق.’
لو أنّي لم أُدرك أنّ في الأمر خللًا، وأبقيتُ فيسريو بقربي، فماذا كان سيحدث لي؟
ربّما كنتُ سأتّكئ عليه، جاهلةً أنّه الشخص الذي أراد قتلي.
إنّه الرجل الذي كانت نيديا تراه كأخٍ، وتثق به كفردٍ من العائلة.
لو كنتُ قد تجاهلتُ ضباب الذاكرة، ولم أُلقِ بالًا للريبة، لكنتُ صرتُ دميةً تتحرّك على إيقاعه.
وربّما كنتُ سأبتلع السمّ مجدّدًا. ولو حدث ذلك، لما كنتُ اليوم على قيد الحياة، وربّما كنتُ بلا ذاكرة.
لقد وعدتُ أن أحمي مستقبل رودسيل، لكنّي كدتُ أُلقي به في مأساةٍ جديدة، تشبه تلك القصص المأساوية في الروايات.
“يا لي من حمقاء… كم هو أمرٌ فظيع.”
إنّ غفلتي الطفيفة كانت كمصيدةٍ مفتوحةٍ إلى الجحيم، فهدوء هذه اللحظة ليس سوى سكونٍ يسبق العاصفة.
خرجتُ من الحمّام مترنّحةً، ثمّ أسندتُ جسدي إلى حافة السرير وأغمضتُ عينيّ.
كنتُ مرهقةً.
نعسانة.
لكنّ النوم أبى أن يزورني، إذ ظلّت كلمات فيسريو ترنّ في رأسي كصدى لا يهدأ.
“هل يمكن أن يقتلني حقًّا؟”
دخلت بيبي من نافذة الصالة، وجلست عندي تُغرّد بنغمةٍ حزينة كأنّها تبكي.
“أكنتُ متهاونةً إلى هذا الحدّ؟
ظننتُ أن معرفتي بالمستقبل كافيةٌ لأتحكّم في مجرياته… لكن يبدو أنّي كنتُ أحمق من أن أرى الحقيقة.
أنا، التي لا أملك شيئًا… هل أستطيع فعل أيّ شيء حقًّا؟”
كنتُ قد وعدتُ أن أمنح رودسيل مستقبلًا مختلفًا، لكنّي حين واجهتُ الواقع، فقدتُ الثقة بنفسي.
اقتربت بيبي من يدي وبدأت تنقرها بلُطفٍ، كأنّها تحاول مواساتي.
“أتشعرين بي يا بيبي؟ تبدين وكأنّك تُواسيني.
صدقًا، أنا نفسي أرى كم أنا بائسة.”
“بيبي!”
ارتفعت رفرفة جناحيها كنسمةٍ خفيفةٍ على وجهي.
رفعتُ بصري إليها وهمستُ:
“ما الذي ينبغي أن أفعله حقًّا؟ هل سأعيش حياتي كلّها أخشى الموت في كلّ يوم؟”
شعرتُ بصغري أمام هذا العالم.
“ومع ذلك، يجب أن أعيش.
من أجلي… ومن أجل رودسيل.
عليّ أن أعيش مهما كان الثمن.”
نهضتُ ببطء، ثمّ تمدّدتُ على السرير.
“بيبي!”
“تحاولين أن تُعيدي إليّ روحي، أليس كذلك؟ حسنًا… سأتماسك.”
دفءٌ غريبٌ انتشر من حيث نقرَت يدي.
“أنتِ كائنٌ عجيب يا بيبي.
لون ريشك مدهش… يشبه لون التذكار المقدّس الذي أحضره لي ذاك الرجل.
فيكِ مسحةٌ من الغموض، مثله تمامًا.”
تسلّل إلى قلبي شعورٌ بالعافية كأنّني أتلقّى علاجًا سريًّا.
ومع أنّي لم أُدركه في حينه، فقد خفَّ توتّر جسدي شيئًا فشيئًا، وغرقتُ في إحساسٍ عميقٍ من السكون.
لكن عندما لمستني بيبي مجدّدًا، تبدّد ذلك الثقل، وكأنّ الطين الذي غاصت فيه روحي بدأ يجفّ.
شعرتُ أنّني قادرةٌ على المضيّ قدمًا من جديد.
“لديكِ قدرةٌ على الشفاء أيضًا، أليس كذلك؟
آه… لو كانت لي مثل تلك القدرة!
لما احتجتُ إلى بقاء كلوي بقربي رغم ما تفعله من أمورٍ تُثير قلقي، ولما ظللتُ خائفةً على رودسيل بهذا الشكل.”
ابتسمتُ بسخريةٍ من نفسي.
“لكن ما فائدة هذا الكلام… فليس لديَّ تلك القدرة أصلًا.”
ضحكتُ بخفوتٍ، ثمّ فتحتُ عينيّ لأتأمّل بيبي،
لكنها كانت قد اختفت.
اختفت كما جاءت، دون صوت جناحٍ أو حركة.
ظننتُ لوهلةٍ أنّها علقت في مكانٍ ما، لكن لا أثر لها ولا حتى تغريدة.
هل كنتُ أحلم؟
غير أنّ دفءَ نقراتها ما زال عالقًا في يدي.
“إنّها حقًّا كائنٌ غامض.”
دائمًا ما كانت هكذا، تظهر فجأةً وتختفي فجأة.
ومع ذلك، بفضلها استعدتُ قوتي، وأغمضتُ عينيّ استعدادًا لغدٍ جديد.
ما الجدوى من القلق على ما لم يحدث بعد؟
ليس لديّ ما يكفيني من القدرة لتغيير المستقبل، لكن يمكنني أن أُواصل السير.
بهذا الفكر، غفوتُ أخيرًا بطمأنينةٍ نادرة.
—
في صباح اليوم التالي، ربّما بتأثير كلمات فيسريو، بحثتُ فورًا عن رودسيل.
يبدو أنّي نمتُ نومًا عميقًا تلك الليلة، إذ كان من المعتاد أن يأتيني هو أوّلًا، لكنّني وجدته لا يزال غارقًا في النوم حين دخلتُ غرفته.
“همم… أمي…”
جلستُ قربه أنتظر أن يستيقظ.
“استيقظتَ يا صغيري؟”
“أمي، هل جئتِ إلى غرفتي حقًّا؟”
“نعم.”
“هذا ليس حلمًا، أليس كذلك؟”
“لا، ليس حلمًا.”
اتّسعت عيناه الصغيرتان فرحًا، وقفز من السرير راقصًا بحماسٍ طفوليّ.
ولاحظتُ عندها بيجامته الحريرية القديمة التي خُيطت له قبل عامٍ كامل، والتي كان يحبّها كثيرًا فلم يُبدّلها بعد.
الغريب أنّها ما تزال مناسبةً له تمامًا رغم مرور عامٍ على صنعها.
كان في التاسعة من عمره، والعمر الذي يُفترض فيه أن ينمو فيه الطفل بسرعةٍ ملحوظة.
‘أيمكن أن يكون هناك خلل؟’
تردّدت كلمات فيسريو في رأسي بإلحاحٍ مُزعج.
“رودسيل، كيف حال جسدك هذه الأيام؟”
“همم… في البداية كان صعبًا قليلًا لأنّكِ لم تفعلي ذلك الشيء لي، لكن الآن أشعر بأنني بخير!”
كان يبدو أكثر هدوءًا من قبل، كأنّ السُمّ الذي لوّث قلبه قد تلاشى.
“وهل تشعر بأيّ ألم؟”
“أبدًا، بل أشعر بأنني مليءٌ بالطاقة!”
‘لو كان يتألّم لقال لي ذلك على الفور.’
لكنّه بدا بخير تمامًا.
‘هل كان فيسريو يكذب إذًا؟’
تذكّرتُ صوته الهادئ حين قال: “أنا لا أكذب أبدًا.”
“ما بكِ، أمي؟ هل أبدو مريضًا؟”
“أبدًا، بل تبدو بصحّةٍ رائعة.”
“أترين؟!”
“هل تأكل جيدًا؟”
تغيّر وجهه قليلًا، وكأنّ شيئًا في السؤال أزعجه.
“رودسيل؟”
“أ-أجل، آكل جيدًا.”
“لا تأكل كثيرًا، صحيح؟”
هزّ رأسه الصغير يمينًا ويسارًا.
“ليس لديك رغبةٌ في الطعام؟”
“نعم… لا أشتهي شيئًا.”
“أفهم.”
ابتسمتُ كما لو أنّ الأمر لا يُقلقني، لكنّ الدوار غمرني حتى كدتُ أترنّح.
هل كان فيسريو على حقّ؟ هل حالته تسوء فعلًا؟
“رودسيل.”
“نعم، أمي؟”
“هل جاء فيسريو إليك مؤخرًا؟ هل أعطاك شيئًا؟”
“كلا، أبدًا!”
“همم…”
لو أنّه أوعز إلى الخادمات بإعطائه شيئًا، لبلغني الأمر فورًا.
إذًا فالأرجح أنّه لم يتدخّل.
‘هل يعني هذا أن حالة رودسيل تزداد سوءًا؟’
“لكن، أمي، أنا بخير حقًّا! أشعر بطاقةٍ كبيرة!”
“حسنًا، هذا أهمّ شيء.
لكن يا بني، إن اشتهيتَ طعامًا ما، فقل لي مباشرةً، حسن؟”
“نعم!”
وفي تلك اللحظة دخلت المربّية لتُحضّر له فطورَه.
كان على موعدٍ بعد الأكل مع دروسه المعتادة، فأبدى تذمّرًا بسيطًا، لكنه التزم بالدراسة كما وعدني.
—
مرّ يومان آخران بعد ذلك.
وبعد ثلاثة أيّامٍ من حادثة البحيرة…
عادت فيليس إلى جانبي.
✨ انضم إلى المجتمع – منتديات الموقع
عالم الأنمي
عـام
منتدى يجمع عشاق الأنمي من كل مكان!
شاركنا انطباعاتك، ناقش الحلقات والمواسم الجديدة، تابع آخر الأخبار، وشارك اقتراحاتك لأفضل الأنميات التي تستحق المشاهدة.
سواء كنت من محبي الشونين، الرومانسية فهذا القسم هو موطنك!
منتدى يجمع عشّاق المانهوا في مكان واحد، من محبي القراءة إلى المترجمين والمهتمين بآخر التحديثات.
هنا نناقش الفصول، نتابع الأخبار ، نشارك التسريبات، ونوصي بأفضل الأعمال...
منتدى مخصص لمحبي الروايات ، سواء المؤلفة بأقلام عربية مبدعة أو المترجمة من مختلف اللغات.
هنا نشارك الروايات الأصلية، نناقش الفصول، نتابع التحديثات، ونتبادل التوصيات...
التعليقات لهذا الفصل " 31"