رأيته صريحًا إلى حدٍّ يبعث على الإرهاق، فشعرتُ بتعبٍ مفاجئٍ يثقل أنفاسي.
كان إحساسي تجاه الدوق مختلفًا كلّ الاختلاف، فتنفستُ زفرةً عميقةً وأومأتُ نافيةً برأسي.
“فيسريو، إنّني أُعاني بعض الإرهاق، فإن كان لديك ما تقوله لي، فلنؤجّله إلى وقتٍ لاحق.”
وضعتُ يدي على صدغَيَّ متجنّبةً الحديث معه، غير أنّه لم يتراجع، بل بدا كأنّ في عينيه شيئًا من الاستياء.
“لِمَ لا تنادينني ليو كما في السابق؟ لِمَ تُصرّين على مناداتي فيسريو، يا فتاتي؟”
ما زلتُ عاجزةً عن تذكّر أيّ شيءٍ يخصّه، ولا أملك صورةً واضحةً عن طبيعة ما كان بيننا.
كيف يُفترض بي أن أتعامل معه في هذه الحال؟
أعرف أنّي حين أُجهل الطريق، أُفضّل الصمت والتجنّب.
لذا ظللتُ أحدّق فيه دون أن أنطق.
“قلتُ إنني متعبة، أفستستمر في الحديث؟”
“أجل، ففي المرّة الماضية لم أُحسن التعبير كما ينبغي، وأريد اليوم أن أُفصح عمّا في نفسي بوضوح.”
“وما الذي تودّ قوله؟”
لو كان يدري ما جرى لي اليوم، لانسحب من فوره حين سمع كلماتي عن التعب.
لكنّه، بخلاف الدوق، رجلٌ تُسيّره مشاعره قبل عقله.
حين أدركتُ ذلك، تسلّل الفضول إليّ نحوه أكثر.
من يكون هذا الرجل الذي محته ذاكرتي محوًا؟
ومن أجل معرفة ذلك، عقدتُ العزم على استقصائه.
‘يبدو أنّه لن يغادر مهما قلتُ.’
لو كان سيغادر، لفعل ذلك حين أظهرتُ له ضيقي سابقًا.
ترددتُ لحظةً، ثم فتحتُ فمي بصعوبة.
“فيسريو.”
“ناديني ليو.”
“ما نوع الشخص الذي أُشكّله في حياتك؟”
“ولِمَ هذا السؤال الجاد فجأة؟”
رأيتُ على وجهه مسحة ألم، فاشتدّ عزمي على المواجهة.
“لا أظنّنا قريبَين بما يكفي لنسمي أنفسنا صديقين.”
“ولِمَ؟ هل تذكّرتِ شيئًا؟”
الذاكرة… ثمّة أمرٌ ما وقع.
حين رأيتُ وجهه الشاحب، أيقنتُ أنّ حدثًا ما يختبئ خلف تلك النظرة.
‘ربّما عليّ أن أغوص أعمق قليلًا.’
“هل كنتَ تظنّ أنّني لن أعلم؟”
قلتُها على سبيل الاحتمال، فلو كان قد اقترف في حقي خطأ، لكانت ردّة فعلي أعنف.
‘وجه هذا الرجل لا يُشبه وجه بريء.’
انتظرتُه في صمتٍ متأهّب، آملةً أن يُخرج ما في صدره من قول.
لكنّ فيسريو بدا عاجزًا عن إخفاء ما يجيش في داخله، إذ كانت ملامحه مرآةً صافيةً لمشاعره.
مع أنّه نشأ في بيت الكونت بالتبنّي، إلا أنّه لم يتعلّم كثيرًا من اللباقة أو التحفّظ.
‘الأيتام غالبًا ما ينشؤون على غير المألوف…’
كان الكونت يردّد دائمًا أنّ الإنسان لا بدّ أن يكون ذا نفعٍ لغيره.
نشأت نيديا على ذلك المبدأ، أن تكون نافعةً لعائلتها كما ينفع النهر الأرضَ.
‘فهل كنتَ أنت أيضًا نافعًا لعائلة الكونت؟’
في أيّ مجال؟ كفارسٍ؟ ولكنّ الفروسية وحدها لا تكفي لخدمة بيتٍ نبيل.
بعد برهةٍ، حرّك شفتيه كمن اتخذ قرارًا عظيمًا.
“لأنني أحبّك.
فأنتِ حبّي الأوحد.”
“…”
في الحقيقة، كنتُ أتوقّع أنّه إن كان ثمة أمرٌ يخفيه، فسيحاول التملّص لا الاعتراف.
لكنّ تردّده ذاك كان اعترافًا صامتًا بحدّ ذاته.
غير أنّه لم يتوقّف عند هذا الحدّ.
“غير أنّك تتألّمين بسببه، ذلك الرجل التافه…
فأردتُ أن أُخفّف عنك بعضًا من وجعك.”
كانت كلماته كنسمةٍ باردةٍ بعد صمتٍ طويل، لكنّها تركت في داخلي رجفةً غريبة.
كيف يُخفّف الألم عمّن يحبّه؟
‘لو كنتُ محاطةً بحبّ الدوق، لربما زال عني بعض الشقاء.
لكنّ نيديا لم تَذُق طعم الحبّ قطّ. فهل الحلّ أن أؤذي الدوق؟ مستحيل.’
ارتجف جسدي بقشعريرةٍ حادّةٍ كأنّ برودةً اجتاحت الغرفة بأكملها.
“لِمَ تحدّقين بي كالأرنب، يا فتاتي؟”
وفجأةً، ومضةُ ذكرى اخترقت رأسي، وتذكّرتُ ما قاله فيليس: أنّني متُّ وعُدتُ إلى الحياة.
ارتبطت الفكرتان في ذهني بطريقةٍ عجيبة، مهما حاولتُ تفسيرها لم أجد منطقًا يبرّرها.
فاضطررتُ للسؤال.
“فيسريو، هل كنتَ تريد قتلي؟ هل فعلتَ ذلك لتُخفّف عني الألم؟”
كان ذلك أشبه بردّ فعلٍ غريزيّ.
كان لا بدّ أن أسأل، وإلا فلن أحصل على أيّ إجابة، وقد تمنّيتُ في أعماقي أن يكون النفي جوابه.
فكّرتُ في ذلك الذي اعتبرته يومًا عائلتي.
هل ثمّة ما هو أفظع من أن يُخطّط من تحبّه لقتلك؟
قال أخيرًا:
“لم أقصد قتلكِ.”
ثم تلتها كلماتٌ نزلت عليّ كضربة مطرقةٍ على الصدر، فدوّختني وأخرست لساني.
“آه…”
لم تكن تنهيدةً عابرة، بل أنينًا خرج من أعماقٍ مثقلةٍ بالذهول.
تساءلتُ إن كان يمزح، ونظرتُ إليه بعينٍ مرتابة، لكنّه ظلّ يحدّق بي بأسًى عميق.
جمعتُ شتات نفسي، وحاولتُ التماسك، ثم سألته بهدوءٍ قاسٍ:
“إذن ماذا كنتَ تريد أن تفعل؟ إن لم تكن نيتك قتلي.”
“كنتُ أريد فقط أن أجعله يدرك.”
أأهرب؟ هل هذا الرجل خطر؟
لكنّ عينيه كانتا تفيضان حبًّا صادقًا، ومن يحمل تلك النظرة لا يمكن أن يكون قاتلًا.
“أن يُدرك ماذا؟ أردتَ أن يعرف بعد موتي أنّني ثمينة؟ أهذا ما كنتَ ترجوه؟”
عندها تغيّر بصره، وحدّق فيّ بعمقٍ غريب.
“نيديا، أليس هذا ما كنتِ تريدين في أعماقك؟”
تبدّل صوته فجأةً من الهدوء إلى البرودة، فاستعدتُ وعيي تمامًا.
“ما الذي يجعلك تظنّ ذلك؟ بالطبع لا. كلّ ما أردتُه أن أكون بجانب من أحبّ.”
ابتسم ابتسامةً ملتوية.
“كنتِ تعلمين.
جرّبتُ لأتأكّد، ومع ذلك توقّعتُ الغرابة في ردّك.
نعم، لم يكن هذا ما أردتِه. كلّ ما كنتِ ترجينه أن يلتفت إليك.”
شعرتُ وكأنّ الأرض تميد من تحتي. صار يبدو كمن فقد صوابه.
“أحبّ تلك النظرة في عينيك، يا نيديا، حين تتّسعان كالأرنب المفزوع.
تعابيرك البريئة تسحرني.”
مدّ يده ليلمس وجنتي، فارتعشتُ ودفعته بعيدًا بسرعة.
لكنّه بدا كمن اعتاد على صدّي، إذ لم يبدُ عليه أيّ تأثّر.
“هكذا يجب أن تكوني دائمًا، يا نيديا.”
“ما أنت بحقّ السماء؟ أأنت حقًّا الشخص الذي عرفته؟”
لو كانت نيديا الحقيقية، لقالت هذا ذات السؤال.
بعد كلّ تلك السنين التي اعتبرته فيها عائلة، يُفكّر بقتلها.
كيف يمكن لإنسان أن يبقى هادئًا؟
تفجّر في داخلي غضبٌ دفين.
“صحيح، نيديا. لِمَ أنتِ غاضبة؟ كان عليكِ أن تنتبهي لي منذ البداية.”
“إذًا، هل أردتَ قتلي لأنني لم ألتفت إليك؟ أهذه الحقيقة؟”
“لا، لا، نيديا… اسمعيني.
لم أكن أريد قتلكِ… أم، هل كنتُ أريد؟”
يا له من مختلّ.
“صحيح، في الحقيقة أردتُ قتلك.
نعم، أردتُ موتك نيديا.”
“ماذا تقول؟ ما هذا الهراء؟”
“تعلمين قوّتي.
لهذا صنعتُ دواءً بيديّ.”
لم يقل صنعته، بل أبدعته.
“دواءٌ يُحدث موتًا مؤقّتًا، وفي نهايته يمحو الذكريات.
كنتُ سأحملك بعيدًا دون أن تتذكّري شيئًا.”
“…”
“لكنّك لم تموتي.”
كما وصفت فيليس، كان وجهها آنذاك أسود كالموت.
وقع خطأ، فواجهت نيديا الموت فعليًّا، ودخلتُ أنا إلى جسدها.
“لكنّك استيقظتِ بسرعة. وبعدها بدأ الدوق تحقيقاته.”
“…”
“ما أغاظني؟ أنّ ذاكرتك بقيت سليمة. لم يكن من المفترض أن أفشل.”
‘لا، ربما كان دوائي كاملًا بالفعل.’
لقد محا كلّ ذكرياته عنها، والآن فقط فهمتُ سبب حلولي في جسدها، ولماذا كانت ذاكرة فيسريو وحده غائبة.
“هل فررتَ خوفًا من انكشاف أمرك؟ فلمَ عدت؟”
“حتى لو اكتُشفتُ، أردتُ أن أجعلك لي.”
استمعي جيّدًا يا نيديا.
أنتِ لا تنعمين بالسعادة إلى جانب ذلك الرجل.
الدوق متخمٌ بالمشكلات، ولا يستحقّ حبّك.
التعليقات لهذا الفصل " 29"
كما توقعت طلع اخوها بتبني برضو مريض ، شو سالفة مرضى نفسيين في عمل ذى ؟!