كان أوّل مَن خاطبني باسم “الآنسة نيديا” لا “الدوقة”.
أوّل شخص بعد أن وجدت نفسي في هذا الجسد الجديد. لذلك ظللتُ أحدّق فيه مذهولة، متسائلة: مَن يكون؟
الغريب أنّني لا أحتفظ بأيّ ذكرى عنه.
في تلك اللحظة، دخل رجل بخطوات واثقة، وألقى نظرة هادئة على فيليس.
“فيليس.”
“سأنسحب كما العادة.”
كلمة “كالعادة” أثارت فضولي. رمقتُها بنظراتٍ مستفهِمة، لكنّها خرجت وأغلقت الباب وكأنّ الأمر مألوف لديها.
كان رودسيل، وقت دراسته، لا يسمح بوجود أحد غير فيليس بقربه، وحين خرجت، بقينا أنا وذلك الرجل المجهول وحدنا.
لمّا نظرتُ إليه صامتة، تقدّم نحوي فجأة، أمسك يدي الموضوعة على الطاولة، ورفعها ليطبع قبلة عليها.
أدركت أنّه تصرّف من تقاليد التحية، لكن إحساسي قال إنّ الأمر مختلف. لم أعرفه، ومع ذلك اجتاحني شعور بالنفور وكأنّ الجسد يرفضه تلقائيًا.
سحبت يدي بسرعة من بين أصابعه.
“أترفضينني؟”
“لأنّي لا أظنّ أنّ بيننا ما يبرّر هذا التصرف.”
حينها اشتدّت نظرته حدّة.
مع أنّ الدوق أرفع مقامًا في المظهر، إلا أنّ ملامح هذا الرجل تحمل مسحة وديعة، بعينين مسدلتين توحيان بالبراءة، كجرو صغير.
لكن على الرغم من ذلك، أحسستُ بانقباض داخلي.
“أهكذا ترين؟ حسنًا. كيف حالكِ يا آنسة نيديا؟”
“لا بأس.”
“هل أغضبتكِ في شيء؟”
من نبرته بدا أنّ بيننا مودة سابقة.
لكن لماذا لا أحتفظ بأي ذكرى عنه؟
لقد ورثتُ تقريبًا جميع ذكريات نيديا، صحيح أنّها ليست تفصيلية لكل لحظة، لكن بما يكفي لأتصرف مثلها بلا خطأ.
لذلك لم أشعر يومًا أنّني غريبة في قصر الدوق. ولم يتخيّل أحد أنّ الدوقة لم تَعُد هي نفسها.
‘لكن لِمَ لا أعرفك؟ ولماذا لا أستطيع تذكّر حتى اسمك؟’
“يبدو أنّكِ ما زلتِ تحملين عليّ شيئًا.”
لو كان يعرفها منذ زمن، لأسرع لزيارتها فور عودتها، لا بعد هذه المدّة.
“…….”
“اليوم جئتُ لأخبرك أنّي زرت والدك.”
“والد…؟”
“نعم.”
فجأة شعرتُ بألم في رأسي.
بيت الكونت زيغمنت… بيت نيديا الأصلي.
ذلك الأب الذي لم يرَ فيها سوى صفقة رابحة.
لم أرغب قط في استدعاء تلك الذكريات، لكنّها اندفعت في رأسي قسرًا.
وعندها أدركت. الرجل أمامي موجود في تلك الذاكرة الغائمة. لم أعرف اسمه ولا كيف ارتبطت به، لكن حضوره ارتبط بماضيها.
“الكونت زيغمنت كان قلقًا كثيرًا على سلامتك.”
“بل قلق على أرباحي التي ستعود عليه.”
ابتسم الرجل ابتسامة طفيفة.
ذلك الكونت الذي أنفق كل ما يملك ليكسو نيديا أفخر الثياب كي يبيعها لعائلة نبيلة. وبعد أن أصبحت دوقة، أخذ يضغط عليها طمعًا بما يناله منها.
وحين رفضته، تجرّأ حتى على ملاحقتها إلى بيت الدوق.
بعد استعراض تلك الذكريات، لم أجد وصفًا أصدق له من “الثعلب الجشع”.
“فما طلبه هذه المرّة؟ منجم؟ أم قطعة أرض؟”
كان واضحًا أنّ هذا الرجل مقرّب من الكونت. فقلت بسخرية.
“لم يطلب شيئًا بعد.”
“قولك ‘بعد’ يعني أنّه سيطلب حتمًا.”
لم يعلّق، بل ظلّ يحدّق فيّ.
“أخبره أنّي لن أمنحه شيئًا بعد الآن.”
“ألستِ قلقة من ردّة فعله؟”
“كلا.”
“كما تشائين. سأبلّغه.”
أومأ بهدوء، وقد غمر عينيه حزن. شعره الفضي وعيناه الزرقاوان منحاه شبهًا غريبًا بعائلتي.
“آنستي.”
“نعم.”
“اشتقتُ إليكِ كثيرًا.”
“…….”
“كنتُ أخشى أن أفقدكِ.
لو فقدتُكِ لما استطعت العيش.”
يا لها كلمات غريبة.
لم تفعل نيديا سوى الهروب من المنزل، لكنّه رمقني بعاطفة مشتعلة.
“إنْ هربتُ ثانية ستبكي إذن.”
قلتُها مازحةً، لكن ملامحه ازدادت صرامة.
“ألا… تتذكّرين شيئًا؟”
“ماذا أعني؟”
“ظننت أنّ تغيّركِ بسبب ذلك… لكن يبدو أنّي أخطأت.”
“أيّ كلام هذا؟”
“لا شيء. فقط… لا تمرضي ثانية.
والآن سأرحل. ما دمتُ بقربك، فلا أجد في الفراق قسوة.”
اقترب منّي، التقط خصلة من شعري، وانحنى ليقبّلها.
“على الأقل هذا يحقّ لي. يا آنستي.”
“…….”
كلماته سقطت ثقيلة في صدري.
لم يكن حبًا، بل شعور فطري بأنّ عليّ الحذر منه، خليط من خوف وغموض.
‘لماذا ذاكرتي تخلو منه وحده؟ ولماذا يجفل جسدي منه؟’
“إلى اللقاء. لنلتقي قريبًا.”
ابتسم ابتسامة مضيئة، ثم غادر.
بعده دخلت فيليس ثانية.
“انتهى حديثكما سريعًا اليوم.”
بدت منشغلة بفحص إبريق الشاي كأنّها اعتادت على ذلك.
“فيليس.”
“الشاي برد. أأحضره جديدًا؟”
“أجيبي. لماذا تركتِني وحدي معه؟”
“لأنّه السيد فيسريو.”
إذن اسمه فيسريو. ورغم سماعه، لم يوقظ عندي أيّ ذكرى. كأنّ أحدًا دفن كلّ ما يخصّه.
“ولِمَ عليّ أن أُخلي له المجال؟”
“لأنّكما كنتما معًا منذ الطفولة، كالأشقاء تقريبًا.”
“آه…”
“لذلك كنتُ دائمًا أترككما تتحدّثان بحرية.”
“كنتُ… هكذا إذن.”
“لكنّكِ الآن تتصرّفين كأنّكِ لا تعرفينه.”
اشتدّ الصداع في رأسي. لماذا أتذكّر الجميع بوضوح سواه؟
فيسريو…
كلّما رددت اسمه ازداد الألم.
أسندتُ رأسي للطاولة وضغطتُ صدغي.
“هل أنتِ بخير؟”
“صداع فحسب.”
منذ أن صرت نيديا، لم أشعر بمرض، لذا بدا لي هذا الألم مضاعفًا.
“أأستدعي الطبيب؟”
“لا داعي.”
رفعت بصري إليها.
كان جليًّا أنّ فيسريو ليس شخصًا عاديًا. شعرتُ وكأنّ الأمر ابتلاء بعد حياةٍ سارت على هواي.
“فيليس.”
“نعم.”
“ألم يحدث لي أمر غريب؟”
“حدث الكثير. ألم تهربي؟”
“غير ذلك.”
“آه…”
كنتُ متأكّدة الآن.
حين فكّرتُ فيه، أدركتُ أنّ ذكرياتي قبل دخولي هذا الجسد ناقصة. وكأنّ مقطعًا كاملًا مُحِي عمدًا.
“ذاكرتي غير كاملة.
ليس لدي أيّ أثر لفيسريو.”
شهقت فيليس بدهشة.
“حقًّا؟ عن فيسريو بالذات؟”
“أهو أمر يدعو للدهشة؟”
“طبعًا!
في المرة الأولى التي عرّفناك به، قلتِ إنّه رفيق طفولتك، كأخٍ لكِ تقريبًا.”
“كأخ تقريبًا؟ ماذا تعنين؟”
“لقد قيل إنّه كان ابنًا بالتبنّي.”
“ماذا؟!”
تجمّدت عيناي عليها بدهشة.
أيمكن أنّ نيديا نفسها لم تكن ابنة صُلبة النسب؟
التعليقات