“أجل، أجل.”
آثرتُ الصمت هذه المرّة. يبدو أنّني أوهمتُ نفسي بانتظار ما لا يُنتظر مِن هذا الرّجل.
فهو، في جوهره، لم يكُن سوى إنسانٍ من هذا الطِّراز البارد.
شعرتُ بخيبةٍ أوضح من أيِّ خيبةٍ سابقة، حتى إنَّ الكلمات جفّت على لساني.
ونسيتُ لوهلةٍ سبب قدومي إلى هنا.
ولم أسترجعه إلّا بعد لحظةٍ متأخرة حين فتحتُ فمي قائلة:
“صحيح. ما جئتُ لسببٍ آخر، بل لأنَّ لي طلبًا عندك.”
“طَلب؟”
“نعم. ذاك المُهر الصغير الذي قدّمته في عيد ميلاد رودسيل.
لقد اخترتُ له اسمًا، وأريد أن تُعلَّق له صفيحة تحمل اسمه بطريقةٍ أنيقة.
لتكن لافتة مبهرة تبهر كلّ مَن يراها. صُغها من ذهبٍ خالص، وانقش الحروف حفرًا متقنًا بيدٍ بارعة. الاسم هو (ديه).
بل ضع بعض الأحجار الكريمة بين الحروف. أليس بوسعك فعل ذلك؟”
“ألا ترين أنّك تطلبين بجسارة؟”
“أنا على استعداد أن أكون جريئة ما حييت، إنْ كان الأمر يخصّ ابني.”
رمقته بابتسامةٍ وادعة.
“ليتني أحظى بابتسامةٍ كهذه منك.”
“لكننا لسنا على تلك المنزلة من القُرب، أليس كذلك؟”
“كنتُ أترقّب أكثر قليلًا.”
“ترقُّب؟”
نظرتُ إليه في حَيرة، وهو يحدّثني بكلماتٍ لا مُقدّمة لها، كأنَّه يسكب ما في داخله بلا ترتيب.
“ظننتُ أنَّك ستأتين.”
“وكيف ظننتَ ذلك؟”
“قيل لي إنّ أمرًا حدث في الإصطبل.”
آه، للحظةٍ حسبتُه قارئًا للأفكار.
“يبدو أنَّ خدم هذه العائلة لا يُخفون عنك شيئًا.”
“الأمر ليس كذلك.”
“وماذا تعني بقولك ليس كذلك؟”
تنفّس بعمق، ثُمَّ هزّ رأسه.
“وهل لذلك معنى الآن؟”
كم هو مستفزّ.
“قد لا يَعني لك الكثير.”
كنتُ أعلم يقينًا أنّ أي خبر عن نيديا سيَصله. لم يكُن جديدًا ولا مُثيرًا للاستغراب.
فهذا جزء من حياة سيّدةٍ تنتمي إلى النبلاء.
“فما قصدك إذن؟”
“لا أفهم لماذا تُبقين بجانبك شخصًا يجرّ المشاكل.”
“آه…”
“لو كنتِ على طباعك القديمة، لطردتِها مُنذ زمن بعيد.
بل ما كنتِ لتُدخلي امرأة مجهولة الأصل ومعها طفل.
ما الذي يدفعك إلى أمرٍ كهذا؟”
لماذا يهتمّ بي لهذه الدّرجة؟
“لا تُجهد نفسك.”
“بل لا أستطيع أنْ أقبل ببقاء مثل هؤلاء في داري.”
“إنّه مجرد طفلٍ صغير أخطأ.
تعلّم أن تتسع صدرك.”
“أنا؟ التسامح لا يُجيده إلا مَن يُجيدون التظاهر بالطيبة. أمّا أنا، فلا حاجة لي بمثل هذا النفاق.”
مُحادثته لا تجلب لي سوى الغضب.
“إذن لِمَ جئتَ بي؟ أليس هذا بدوره نوعًا من التسامح؟”
“ذلك…”
“كفى. أنا لستُ هنا لأجادلك.
في كلّ الأحوال، كلوي خادمتي أنا. ولن أطردها مهما قلت. خصوصًا إذا كان الأمر مرتبطًا بطفلتها.”
“لا أدري أأصفك بالساذجة أم بالرحيمة.”
“لا هذه ولا تلك. فلا تُحاول الاصطياد في الماء العكر.”
“مفهوم. لن أتكلّم بعد الآن. لكن إن تكرّرت المشاكل، فسأُعالِجها بنفسي.”
“حَسنًا.”
ضِقتُ ذرعًا بحديثه المتواصل عن الأمر، فتحوّلتُ إلى موضوعٍ آخر.
“إذن، هل هذا ما جعلك تتوقّع قدومي؟ هل كنتَ تُحضّر تلك الوسيلة التعليمية؟”
انقبض وجهه المتعالي للحظة.
“…… ليس كذلك.”
“لكنّه كذلك، أليس كذلك؟”
وللحظةٍ خاطفة، بدا في ناظري لطيفًا. ربّما بقايا حبٍّ قديم جعلتني أراه هكذا. فارتجف بدني.
‘أيّ لُطف هذا؟!’
لم يكن فيه أي ملمحٍ جميل. فهززتُ رأسي بسرعة.
“يجب أن أذهب الآن.”
“فجأة؟”
“نعم. فجأةً رغبتُ في ذلك.”
لو أطلتُ الجلوس، لرأيته بعيونٍ أخرى. وقد بدا لي الأمر مقزّزًا. أنْ يخطر لي أنّه لطيف؟ تلك خطيئة.
إنّه إنسان لا يرى إلا ذاته، ويُهمل مشاعر الآخرين بلا مبالاة. لذلك أدرتُ ظهري بحزم.
ولم يُحاول أن يَستوقفني. كأنَّ كلّ ما بيننا قد انتهى. لكن، في الواقع، أنا وحدي من مضى.
—
لعلّ الأداة التعليمية التي جلبها الدوق قد أفلحت، أو ربّما لأنَّ رودسيل لم يَجرؤ على التهرّب من الدرس في حضوري.
ومنذ ذلك اليوم، بدأ القصر يشهد بعض التغيير. إذ شرع رودسيل أخيرًا يتعلّم بصفته وريث العائلة.
لم يزُل خجله في ليلةٍ وضحاها، لكنّه، ما دمتُ بقربه، لم يُبدِ حرجًا كبيرًا في لقاء الآخرين.
وبدلاً من ذلك، ظلّ يتجاهلهم بعناده المعتاد. فلم يلحظ أحدٌ أنّه يُعاني من رهبة الغرباء.
ومع الوقت، بدا كأنَّه أدرك أنّه لا داعي للانكسار أمام مَن لا يستطيعون السيطرة عليه. فأصبح أكثر ثقةً بنفسه.
وأنا بدوري، كنتُ أستمتع بفنجان الشاي إلى جواره خلال الدروس.
“ما كنتُ لأتوقّع أن يُحضّر السيّد أدوات تعليم.”
“وأنا بدوري اندهشتُ قليلًا.”
“إنّه طيّب حقًّا.
كأنَّه تغيّر عمّا كان.”
فيليس لم تَكفّ عن الثناء على الدوق أمامي.
“تغيّرٌ… حقًّا؟”
تدفّق الشاي في الكوب الأبيض المُذهّب.
“أنا لا أُؤمن بأنَّ البشر يتبدّلون. أراهم فقط يتصنّعون التغيّر مع الظروف. وما زلت على قناعتي تلك.”
“أتظنّين أنّه لم يتغيّر؟”
“بل يتظاهر لا أكثر. ومع ذلك، أليس غريبًا أنْ يتكلّف شخصٌ متكبّر كهذا التظاهر بالتغيّر؟”
لو تجاوزتْ كلمتها هذا الحدّ، لطردتُها فورًا. لكنّها أحسنت التوقّف في اللحظة المناسبة.
“أجل…”
زفرتُ أنفاسي بهدوء، فتظاهرتْ بالبراءة وأشرقت بابتسامة.
ولم أجد بُدًّا مِن التماهي مع لحظة الشاي وأنا أُطلّ على النافذة.
‘ليت الأيام كلّها هكذا.’
تحسّنت صحّة رودسيل منذ أن توقّفتُ عن تغذيته بالسحر الأسود. صار في غنى عن كلوي. ولو بقيَ الحال على ما هو، فلن تَقع مصائب الرواية.
بل بدأتُ أظنّ أنّ بإمكاني البقاء هُنا.
‘كزوجةٍ للدوق. وأمٍّ لرودسيل.’
كنتُ قد خططتُ للرحيل إذا ما ساءت صحّة الصبي ولجأت الأسرة إلى كلوي، فيتقارب الدوق معها كما هو مكتوب.
لكن طالما أنّه لم يضعف، فلن يقع في الهوس أو الانفجار.
ولن يَضلّ بعد رحيلي.
وها أنا أستغرق في هذه الأفكار، بينما تحيطني سكينة غريبة تكاد تُثير الريبة.
فجأةً، عاد ذاك الطائر الصغير الذي اصطاده رودسيل مرّة من أجلي.
“بِيب.”
دخل من النافذة، بعد أن اعتاد أن يزورني أثناء جلوسي للشاي.
فناولته بعض الحبوب التي هيّأتها فيليس.
“بِيك؟”
“كُل ما تشاء.”
أطلقتُ عليه اسم (بيبي)، وأخذ يلتهم الحبوب بنهم.
“لِمَ تعود إليَّ دومًا؟ ألا تخشى أن يراك ابني؟”
“بيب؟”
رفرف جناحيه، فتلألأ ريشه الأحمر تحت الضوء.
وبينما كنتُ أحدّق فيه، راح ينقر يدي بلطف.
“ما أروع هذا الريش، لكنّه يَجلب لك الخطر دومًا. ليتني أحتفظ بك عندي…
لكن ذلك سيكون ظلمًا باسم الحماية.
وفوق ذلك، رودسيل يتردّد إلى هنا كثيرًا.”
أمال الطائر رأسه الصغير ذات اليمين وذات الشمال.
“أنا أحدثك وكأنّك تفهمني. غريب أمري.”
كان الأمر عجيبًا فعلًا.
فما كنتُ يومًا ممن يُحادثون الحيوانات. وكم اختلفت الآن عن نيديا التي كانت تمقتهم.
وبينما ظلّ يُومئ كأنّه يُصغي لي، حلق فجأةً عاليًا.
طرق.
“هل لي بالدخول؟”
صوت رجل.
“تفضل.”
ظننته رسولًا من قِبَل الدوق، لكن ما دخل هو رجل يتقلّد السيف عند خاصرته.
الخدم لا يحملون السيوف، فلا بدّ أنّه فارس.
لكن لِمَ جاء إليّ؟
رفعتُ بصري نحوه بدهشة.
عندها، انسحبت فيليس بخطواتٍ هادئة إلى الخلف.
“آنسة نيديا.”
التعليقات