كان الطائرُ يحمل لونًا يُذكّرني بتلك القلادة التي سُمّيت دمعة الحاكم.
ريشه أبيض ناصع، وعيناه ورديّتان تميلان إلى الحمرة. بدا جسده وكأنّه مكوَّن من معدنٍ يلمع تحت أشعة الشمس، فيبدو بريق ريشه غريبًا وفريدًا.
“ومع ذلك، اهربْ بعيدًا…… لا تدعْ نفسك تُؤخذ كما أُخذتُ أنا.
فيليس، أطْعِميه وخذيه إلى مكانٍ آمن.
إلى حيث لا يمكن للوردسيل أنْ يلاحظه أبدًا.”
“حسنًا.”
لكن الطائر بدا وكأنّه لا يرغب بالمغادرة، فابتعد عن يد فيليس كما لو أنّه يَفهم حديثنا.
عندها قمتُ من مكاني وأمسكتُ به بنفسي. والعجيب أنّه لم يُقاوم، بل استسلم لي بهدوء.
داعبتُ ريشه قليلًا، ثم قدّمتُ له الطعام الذي جلبته فيليس، وخرجتُ إلى الشرفة.
كانت غرفة الدوقة في الطابق الأوّل، لذا لم يكن ثمّة ضرر في ترك الطائر على الأرض.
“اذهبْ بسلام.
ورجاءً، لا تدع ابني يُمسك بك في المرّة القادمة.”
هكذا أوصيتُه.
ورغم قولي، ظلَّ الطائر يُحرّك رأسه محدِّقًا بي طويلًا.
أما أنا، المنهَكة، فقد تجاهلتُه واستلقيتُ على السرير. وبعد أن ظلّ ينقُر على النافذة لبعض الوقت، ساد الهدوء فجأة.
—
بعد أيّام.
زارني زوجي السابق بنفسه.
“سمعتُ أنّكِ تبحثين عن مربّية جديدة؟”
لم يكن الأمر صادمًا، فقد اعتاد الدوق أنْ يزورني منذ عودتي.
“نَعَم.”
“لكنّك لا ترتدين القلادة.”
اقترب منّي بخطوات سريعة، ومدَّ يده ليلمس عنقي الخالي.
وبرودة يده اليوم جعلت جسدي يقشعر.
“علمتُ بما حدث.
لذلك اعتقدتُ أنّ ارتداءها لم يعُد مناسبًا.”
“إذن، كلّ خدم الدوقة لا يحفظون السرّ؟”
“أليس من الطبيعي أنْ أعرف ما يدور حولي؟ فأنا الدوق، في النهاية.”
ابتسم بسخرية.
“في الماضي كنتِ لا تستطيعين الردّ على كلمتي……. أمّا الآن فكلماتكِ هي التي تُقيّدني.”
“هل ندمتَ على إعادتي؟”
“كلا، بل على العكس.
أشعر أنّكِ تبعثين الحيويّة في حياتي.”
لم أرغب أن أبدو مهرِّجة، فنظرتُ إليه ببرود.
“على أيّ حال، امتنعتُ عن القلادة بعدما سمعتُ قصّتها.
فكيف تتوقّع منّي أنْ أتجوّل وأنا أضع ذخيرة مقدّسة؟”
“أنتِ المرأة التي اخترتُها.
ومن الطبيعي أنْ تحمل شيئًا مميّزًا، كما أنا مختلف ومميّز.”
“……لكنني ولدتُ مختلفة عن الآخرين. ولا أرغب في ارتداء شيء يجعل قلبي يرتجف.”
“إذن، ماذا عليّ أنْ أضع على عنقك؟ لو وضعتُ طوقًا، هل سترضين؟”
“ليتَ الأمر لا ينتهي بخنجرٍ على عنقي.”
فكّرتُ أنّه إنْ لم يَسر الأمر كما يشاء، فقد يُزهق حياتي. لذلك ثبّتُّ عينيّ عليه بوجهٍ جامد.
وما كان منه إلا أنْ ضحك كالمجنون، بعدما كان يمرّر أصابعه الثقيلة على عنقي.
“…….”
“تتحدثين وكأنّي أريد قتلك.”
“لأنّك تبدو كذلك.”
“لن أفعل. وحتى إنْ راودتني رغبة بقتلك، فلن تكون بيدي أنا.”
آه…… أجل. في الرواية لم يكن هو مَن قتلها، بل ماتت على يد لوردسيل.
أفكّر كثيرًا بهذا الأمر، حتى أشعر أحيانًا أن سيهيلوس يعرف نهاية الرواية ومسارها.
“على كلّ حال، سمعتُ أنّكِ تبحثين عن مربّية.”
“صحيح. المربّية الحاليّة تبدو مُجهَدة. فظننتُ أنّ وجود أخرى معها سيكون أفضل لرعاية لوردسيل.”
“وأنا أيضًا كنتُ أبحث عن مربّية.”
“أنتَ؟ ولماذا؟”
لكنّه لم يُجب، بل أخرج ورقةً من جيبه وعليه ملامح غامضة.
“لم تتقدّم سوى امرأة واحدة.”
ها هو الدليل! إنّه يعرف.
يعرف أنّ موتي شرطٌ ليمضي المسار كما هو. وإلا، فلماذا يُغيّر المربّية رغم أنّ الحالية بخير؟
“لماذا بحثتَ عن مربّية؟”
“لأنّكِ بدوتِ متعبة.”
“أنا؟”
“نَعَم.”
“عذرٌ واهٍ.”
لكنه لم يُضف شيئًا، فقط قدّم لي الورقة.
“ظننتُ أنّ بيت الدوق سيجذب الكثير. لكن الغريب أنّه لم تتقدّم سوى واحدة. أمرٌ مُحرج بالفعل.”
“بسببي، بالتأكيد.”
كان هوس نيديا بابنها مشهورًا. والمشكلة لم تكن في الدوق، بل في “أنا”.
‘لكن هذا ليس خطئي أنا.’
إنّما هو خطأ صاحبة الجسد الأصليّة. كان شعورًا مجحفًا، لكن لم يكن بوسعي كشف الحقيقة. تماسكتُ وأنا أتأمّل الورقة.
“ربما المشكلة في أنظارهم.”
“هل تدافعين عن نفسكِ؟”
“ليس تمامًا. لكن إنْ قلتُ إنّ الخطأ منكِ وحدكِ، لصار الخطأ منّي أيضًا.”
“هذا متوقّع. على الأقل هناك واحدة.”
“اختيار المربّية شأنكِ.”
كنتُ أخشى أن يتدخّل أو يُثير جدالًا، لكنّه ألقى الورقة ورحل. فشعرتُ بالدهشة.
“ترحل؟”
“بالطبع. أكنتِ تريدينني أنْ أبقى أطول؟”
“لا، أبدًا.”
“لو كنتِ تفعلين هذا لجذب اهتمامي، فقد نجحتِ. لقد أثرتِ فضولي.”
“أنتَ دائمًا تُخطئ.”
لو أنّه يومًا ما منح نيديا الحقيقيّة اهتمامًا، لما وصلت الأمور إلى هذا الحد.
“أخطأتُ، تقولين؟”
“الأخطاء حين تقع، لا يمكن إصلاحها. وأنا لا أريد أن أمنحك فرصة أخرى.”
حتى لو قال إنّه يُحبّني، فلن يتغيّر شيء. فأنا لا أحبّه. وما بقي في هذا الجسد من مشاعر تجاهه سوى البغض والضغينة.
“الفرص أنا من يمنحها لكِ.”
ربما جرحته كلماتي، فقد تصلّب وجهه، وصارت عيناه حادّتين كالسيوف. نيديا القديمة كانت ستنهار أمام تلك النظرة. أما أنا، فلا جرح ولا تبرير.
“حسنًا. حسنًا.”
“…….”
“انتهى الحديث؟”
“أتطردينني؟”
“نحن لسنا على وُدّ. ومع ذلك، شكرًا على الورقة.”
“كلمة شكرا…… لم أسمعها منك منذ زمن.”
رفعتُ بصري إليه من مكاني. كان وسيمًا بلا شائبة. وهذا كلّ ما في الأمر.
“أتريد سماع المزيد؟”
“ربما.”
“إذن أظنّ أني سأشكرك أكثر إنْ خرجت.”
“……تصرفاتك هذه تجعلني أظن أنّكِ تحاولين لفت انتباهي.”
“لا تقلق. لستُ أحاول. لا تقلق يا دوق.
فلن أحبّك أبدًا.”
تصلّبت ملامحه، لكنّه لم يُلحّ. فقط غادر.
وما إنْ انغلق الباب، نظرتُ إلى الورقة التي تركها.
جلستُ أتأمّلها بصمت، حتى جاءت فيليس تُقدّم لي الشاي وقالت:
“لقد اطّلعتُ على الأوراق بالفعل.”
“حقًا؟ فلماذا إذن…….”
“قال السيّد إنّه يُريد أنْ يُسلّمها لمولاتي بنفسه.”
“آه.”
أيعقل أنّه اختلق سببًا ليراني؟ لا، مستحيل.
أومأتُ رافضة الفكرة. أبدًا، ذلك الرجل ليس من هذا النوع.
‘أم أنّ الأمر لأنّ نيديا هذه المرّة غادرت البيت، خلافًا للرواية؟ فصار يُبدي اهتمامًا زائدًا؟’
ربما تغيّر مسار الرواية. وهذا ما بدّل كلّ شيء.
“هل تودّين مراجعة الأوراق؟”
“هاه؟ آه، نعم.”
وعندما أفقتُ من شرودي، قلّبتُ الأوراق.
لم تكن هناك صور أو تفاصيل كثيرة. عادةً تُكتب فيها البيانات الشخصية والسيرة العمليّة.
لكن هذه الورقة لم تتضمّن سوى اسم واحد: كلوي.
التعليقات لهذا الفصل " 10"
حمااااااس استمري وشكرا للترجمة 😍🌺