2
“لابدّ أنّهُ مجرّدُ سوءِ فهم.”
ظنّت ناتالي أنّ النظرة التي التقت بينها وبين السيّد وارترن كانت محضَ مصادفة.
لم يكن ثمّة سبب يجعله يهتمّ بها.
“ناتالي!”
انبثق الصوت المألوف.
إنّها السيّدة مارس.
وكان يقف إلى جانبها رجلٌ بدا متقدّمًا في السنّ على أن يُسمّى أعزبًا.
“السيّدة مارس قالت إنّها ستجدُ لكِ شريكًا للحفل.”
وبمجرّد أن تذكّرت ناتالي كلام أبيها، انتابتها نذُرٌ غيرُ سارّة.
الرجل ذو الحاجبين المنقبضين… هل يُعقل أن يكون هو؟
“لا… لا، لابدّ أنّهُ سوءُ فهم.”
تمنت من أعماقها أن تكون قد أساءت الظنّ بشخصٍ كهلاً كهذا.
لكنّ أعين الرجل—التي غادرها بريق الشباب منذ زمن—تلاقت مع عينيها مباشرة.
سارعت ناتالي إلى صرف نظرها.
وقفت السيّدة مارس أمامها، متدثّرةً بشالٍ فخم، فأحسّت ناتالي كطريدة تواجه مفترسًا.
اقتربت السيّدة مارس بابتسامةٍ في وجهها، ثم ما لبثت أن قطّبت حاجبيها حين وقعت عيناها على مظهر ناتالي.
ميل حاجبيها كان كافياً ليكشف مقدار الشفقة التي شعرت بها.
“يا إلهي يا ناتالي. لِمَ لَمْ تطلبي منّي أن أجهّز لكِ فستانًا؟ يوجد ما يليق بك أكثر كثيرًا من هذا اللون… إنّ بشرتك باهتة للغاية.”
لم يخطر الفستان الورديّ ببال ناتالي أصلًا حتى سمعت الكلام.
حدّقت فيه سريعًا.
ثمّ انتقلت نظرات السيّدة مارس إلى شعر ناتالي.
وأدركت ناتالي أنّ السيّدة تطيل النظر إلى الشريط الورديّ المربوط في شعرها.
لامست ناتالي طرف الشريط بخجل، وابتسمت ابتسامة متصنّعة.
كانت الابتسامة الطبيعية الاجتماعية أمرًا صعبًا عليها دائمًا.
“شكرًا لاهتمامكِ.”
“بل عليّ أن أعتذر لأنّي لم أعتنِ أكثر.”
أمسكت السيّدة مارس بيد ناتالي بلطف، فخطر ببال الأخيرة كلام سالي.
‘إنّه ينتظر اليوم الذي يتخلّص فيه من السيّدة مارس.’
أخبرتها سالي بأنّ السيّدة مارس تبحث عن زوجٍ جديد، وأنّ من ضمن المرشّحين السير مارون، والد الأختين الأرمل.
قد تصبح ناتالي “السيّدة مارون” يومًا ما، لكنها الآن تمسك يد امرأة لا تشعر تجاهها بأيّ ألفة.
في تلك اللحظة، تنحنح الرجل المتجاهَل.
فاقتربت السيّدة مارس بناتالي منه.
“ناتالي، هذا هو السيّد كولينز. الابن الوحيد لأسرة مرموقة، درس في جامعة عريقة، متّزن، متواضع، مقتصد، مهذّب، و….”
ولكن ناتالي لم تكترث بكل ما كانت تقوله السيّدة مارس.
لم يكن يعنيها شيء إلا ألّا يكون هو شريكها.
ولم تكن تريد أن تضطر للإمساك بتلك اليد التي تشبه غصنًا يابسًا حين يدعوها للرقص.
“وفوق كل شيء، لقد تفضّل بأن يكون شريككِ….”
بمجرّد أن ارتطمت كلمة “شريككِ” بأذنها، هبط قلبها.
“وقد وافق بكلّ سرور.”
تلاقت عينا ناتالي بعيني السيّدة مارس عن قرب، فمالت الأخيرة نحوها وهمست:
“يجب أن تجدي زوجًا مناسبًا، ألا تريدين أن تطمئني والدك؟”
“…بالطبع.”
نظرت ناتالي نحو الباب، علّها تجد مهربًا.
لكن السيّد كولينز تقدّم وخطى في طريق نظرها، فسدّ عليها الطريق.
شعرت أنّها محاصَرة بينهما.
كانت تفتقد ركن النافذة حيث تجلس لتقرأ، بعيدًا عن الجلبة.
وعندما تجرأت على النظر نحو النافذة—وجدت السيّد وارترن يجلس هناك.
ومرّة أخرى… تلاقت نظراتهما.
ومجدّدًا، كان ينظر إليها.
لم يعد الأمر يبدو مصادفة.
“سمعتُ أنّكِ تحبّين القراءة.”
تدخّل صوتٌ ضعيف—السيّد كولينز.
وقد اختفت السيّدة مارس، تاركةً إياهما بمفردهما.
“أيّ نوعٍ من الكتب؟”
اقترب خطوة، فتراجعت هي خطوة.
قالت:
“أقرأ أنواعًا كثيرة.”
“أنواعًا كثيرة، همم….”
“القراءة أمرٌ حسن، لكن الكتب الجديرة بالقراءة قليلة. الكتب المليئة بالترف واللهو لا تفيد، بخاصّة بالنسبة للنساء….”
“أحبّ الروايات.”
قاطعتْه قبل أن يطيل الوعظ.
فأعاد:
“روايات، إذًا….”
وبدأ يعظ من جديد.
“لو تزوّجتُ يومًا….”
وأخذ يحدّق فيها من أعلى إلى أسفل بعينين نصف مغمضتين.
“لجعلتُ زوجتي تبتعد عن الروايات. خصوصًا روايات الرعب… والرومانسيّات… تلك الكتب الضحلة.”
“لكن….”
“لا قيمة لها، مجرّد أوهام، لا تهذّب النفس.”
“إنّه….”
“بل أشكّ إن كان يجوز تسميتها قراءة أصلًا.”
حدّقت ناتالي في شفتيه الجافتين وهما تتحركان بلا توقّف.
وحين توقف ليلتقط أنفاسه الضعيفة، استغلّت الفرصة لتقول:
“ليسَت الكتب المعقّدة وحدها كتبًا، يا سيّد كولينز.
هناك كتب للمعرفة، وكتب تجعل الحياة أوسع، وكتب تمنح السرور، وأخرى تمنح السلوى.
وجميعها كتب.”
فتح فمه ولم يستطع الرد، إذ سبقتْه هي.
“الإنسانُ قد يكون ضيّق الأفق متكبّرًا، أو متواضعًا يعرف أنّه لا يمكنه فهم العالم كلّه… وكلّهم بشر، تمامًا كما أنت بشر يا سيّد كولينز.”
“ما… ماذا؟”
“لو اطّلعتَ على ما في العالم من كتب، لوجدتَ أنّ أفقك أوسع ممّا تظن.”
تجمّد قليلًا، ثم عدّل ربطة عنقه، ومدّ يده فجأة.
التقطت ناتالي الرسالة فورًا—كان يطلب الرقص.
وتخيّلت يده اليابسة يدَ زوجٍ تنتظره على المذبح… فشعرت بالاختناق.
أغمضت عينيها بقوّة.
ولمّا فتحتهما… ظهرت أمامها يدٌ أخرى.
يدٌ مستوية كأنّها منحوتة من الرخام.
رفعت بصرها إلى الذراع… ثم إلى الوجه.
إلى أن التقت بعينين زرقاوين صافيتين كزجاجٍ لا عيب فيه.
كانت عينا السيّد وارترن.
نظر إليها وأمال طرف عينيه بابتسامة—ابتسامةٍ أسقطت سهامها في قلوب الكثيرين.
“ألن تمسكي يدي؟”
همس صوته المنخفض في أذنها، فعادت إلى وعيها.
“قلتِ إنّ حلمكِ أن ترقصي معي.”
“…أنا؟”
رمقت كولينز سريعًا.
كان مشدوهًا لا يفهم ما حدث.
وتراكمت داخلها الحيرة؛ فهي لا تريد جرح مشاعر السيّد كولينز ولا السيّدة مارس.
رمشت بلا حيلة.
فمال السيّد وارترن نحو أذنها وهمس:
“إن كنتِ تريدين إمساكَ يدِ هذا الرجل المملّ… فافعلي.”
كان صوته رقيقًا، كأنّه يُنقذها من الغرق.
عندها أدركت مشاعرها التي لم تلتفت إليها سابقًا.
‘لا أريدُ إمساكَ يدِ ذلك الرجل المملّ.’
رفعت ناتالي نظرها إلى السيّد وارترن.
كان صوته وابتسامته… ملاكًا.
لكنّها تعلم أنّ هذا الملاك بعيدٌ كلّ البعد عن البراءة.
ربّما هو أقرب إلى الشيطان الذي أغرى حواء.
ومع ذلك… إن كانت حواء لا تريد يد آدم، بل تلك التفّاحة البهيّة… فما المانع؟
مدّت ناتالي يدها وأمسكت بيده دون تردّد.
قطّب كولينز حاجبيه بشدّة.
نظر إلى وارترن نظرة غيظ.
فرفع وارترن يد ناتالي المتشابكة مع يده عاليًا، كأنّه يُريه خسارته.
سارت ناتالي خلفه، تشعر بنظرات كولينز تحرق ظهرها.
لكنّها نسيت كلّ شيء حين استدار إليها وارترن.
كما ينسى المرء الواقع حين يفتح كتابًا جميلًا.
كان شعره الذهبيّ الباهر وابتسامته المشرقة يليقان ببطل القصّة حقًا.
وكانت مواهب الخالق غير عادلة… والدليل يقف أمامها.
توقفت خطواتهما ببطء.
ثم وقفت في مواجهته، مأخوذة بجماله.
إدغار وارترن قابل نظراتها المطوّلة بابتسامةٍ واثقة.
“أيبدو لكِ الأمر مختلفًا عن القرب؟”
لم تنتظر ابتسامته جوابًا—كأنّهُ يعرفه مسبقًا.
لكن ناتالي لم تفهم سبب دعوته لها للرقص، تمامًا كما لم تفهم سبب ابتسامته.
اقترب وسألها:
“ما الذي يعجبكِ بي إلى هذا الحدّ؟”
كان واثقًا من أنها معجبة به.
حتى ظنّت ناتالي لوهلة أنّها اعترفت له دون أن تتذكّر.
وبعينين تنفذان إلى العمق، قال:
“كنتِ جريئة وقويّة في رسائلك… لكن يبدو أنكِ تخجلين حين تتركين القلم.”
رسائل؟
جمّدت الفكرة عقلها.
من ‘أُعجب بك’ إلى ‘حين تكتبين الرسائل’…
فهمت أنه تلقّى رسائل مليئة بالعاطفة من امرأةٍ ما.
لكنها لم تُكمل التفكير إلا وقد امتدت يده نحو شريط شعرها الورديّ.
تلمّسه بين أصابعه.
“سأضع شريطًا ورديًا… كي تتعرّف إليّ.”
ردد عبارتها من الرسالة بلهجةٍ رقيقة كأنّها قصيدة.
مسح الشريط بأطراف أصابعه، ثم رفع عينيه نحو عينيها.
“كتبتِ هذا في رسالتك. لم أتوقّع أن ترتدينه حقًا….”
لكن تلك النظرة لم تكن نظرة رجلٍ يستقبل رسالة حب.
بل نظرة رجلٍ يحدّق في خصمٍ طال انتظاره.
“هذا… لطيف.”
انطفأت شرارات النظر سريعًا تحت ابتسامةٍ هادئة.
Chapters
Comments
- 2 - طرفُ السهمِ موجَّهٌ نحوَ كيوبيد. منذ يومين
- 1 - إذا لم يكن بطلَ القِصّة. منذ يومين
التعليقات لهذا الفصل " 2"