“جلالة الملك يطلب حضورك.”
“…قُـل له سآتي بعد أن أبدل ثيابي فحسب.”
بُعيد عودته إلى القصر، وكأنه ينتظره، أرسل الملك خادمه الخاص لاستدعاء دينيس.
لم يكن قد مضى حتى ساعة على عودته من “نيوف شافيل”.
كان من السهل تخيّل مدى قلقه وتوتره، خشية أن تكون ثقة الملك فيه قد تضررت بسبب فيضان نهر إيبرو.
“يُسرع كثيرًا.”
تمتم دينيس لنفسه بعد مغادرة الخادم.
“سيلبان أحضر لي تقاريري المعدة مُسبقًا.”
“حسنًا، سمو الأمير.”
كان قد أعدّ جميع التقارير قبل رحلته، متوقعًا حدوث هذا.
لدرجة أنه يحتاج فقط إلى عرضها.
رفع دينيس زاوية فمه ببرودة، ثم خلع بسرعة ثيابه المتربة.
***
داخل غرفة الشاي الفاخرة.
كان إليوت ودينيس يجلسان متقابلين.
كالمعتاد، كان إيليوت يحمل كأس ويسكي، بينما كان دينيس يحمل فنجان شاي.
شرب إليوت من كأس الويسكي الممتلئة ثم قال له:
“لقد تعبتَ من مشقة السفر.”
“كلّا. بفضل جلالتك، عدتُ سالِمًا.”
أثنى الملك إليوت على دينيس لعودته سالِمًا بعد معالجة أضرار الفيضان بنجاح.
“كان هناك أمر مثير للاهتمام في تقريرك.”
كانت تعابير إيليوت تبدو فضولية.
“نعم، جلالتك هناك شخص قدّم مساعدات عينية.”
“ما الذي تريدني أن أفعل له؟”
قال دينيس دون أدنى تردد:
“امنحه لقبًا نبيلًا.”
“له لقب، أما أنت فهل ليس لديك ما ترغب به؟”
أجاب دينيس منحنِي الرأس، وكأنه لا يرغب في شيء كهذا:
“ليس لدي شيء كل ما أشعر به هو الأسف لأنني لم أستطع تعزيز سمعة جلالتك في فالوا أكثر.”
“أوه، التواضع المفرط قد يصير سمًّا.”
رغم قوله ذلك، قهقه إليوت مسرورًا من كلام دينيس.
“ليس لديك مواعيد بعد الظهر، أليس كذلك؟ هيا نتناول الطعام.”
“لا أتمنى أكثر من ذلك، جلالتك.”
نقر إليوت على كتف دينيس وخرجا معًا من غرفة الشاي.
***
“الأمور تسير كما توقعنا، سمو الأميرة أسعار المعادن تنخفض.”
“همم.”
دخل دانييل إلى مكتب تيريز حاملًا تقريرًا عن اتجاهات السوق.
“ماذا عن جانب ماركيز فنتشيتريت؟”
“لا توجد مؤشرات غريبة يبدو أنه يعتبرها ظاهرة مؤقتة.”
“جيد. تواصل مع رئيس دلفين واطلب منه زيادة الكمية المعروضة.”
“نعم، سأفعل وكذلك، سيعقد حفل منح الألقاب هذا الأسبوع.”
“فينسين، ذلك الشخص، قادم إلى العاصمة غدًا أيضًا، أليس كذلك؟”
“هذا صحيح لقد حصل على لقب بارون هذه المرة، تقديرًا لجهوده في إغاثة منكوبي فيضان نيوف شافيل.”
“هذا جيد.”
“سأهيئ فرصة لكِ للقائه في أقرب وقت ممكن.”
“شكرًا لك. يمكنك المغادرة الآن.”
رغم طلبها منه المغادرة، ظل دانييل واقفًا مترددًا.
“… سيزوركِ طبيب القصر بعد نصف ساعة.”
“… حسنًا.”
بعد مغادرة دانييل، نهضت تيريز من مكانها وفتحت النافذة قليلًا.
كان المطر يتساقط منذ الأمس، مسرعًا قدوم الفصل الجديد.
تسللت رائحة العشب الكثيفة إلى أنفها.
كانت السماء رمادية تمامًا.
تذكرت الفراغ والتشاؤم في عيني شخصٍ ما، الخضراوين النابضتين بالحياة.
لم تكن تحب الأيام الممطرة.
بل إن هذا النوع من الطقس كان هو المفضل لديه.
سكبت تيريز القهوة في فنجان فارغ.
كانت القهوة فاترة، مناسبة لتهدئة النفس.
بينما كانت تُهدئ نفسها، سمعت طرقة على الباب.
وضعت فنجان الشاي بانسيابية تامة لا تشوبها شائبة.
“سمو الأميرة، طبيب القصر قد وصل.”
“ليَدخُل.”
في اللحظة التي دخلت فيها الخادمة وطبيب القصر إلى المكتب…
كانت هناك أميرة كاملة، محوت في لحظة كل الأفكار الضعيفة، تجلس في ذلك المكان.
“تأخرت دورة الطمث لديكِ لمدة أسبوع هذا الشهر.”
“…”
استمر صوت طبيب القصر الجاف:
“كيف هي حالة نومك؟”
“… كما هي.”
“لا يمكنني زيادة جرعة منومك.”
“أعلم ذلك جيدًا.”
نظر طبيب القصر ذو الشعر الأبيض المتفرق إليها للحظة، ثم بدأ يكتب شيئًا في ملفه.
“سمعت أنكِ لا تمارسين الرياضة هذه الأيام.”
“لم أنتبه.”
كانت تيريز مشغولة مؤخرًا لدرجة أنها نسيت ممارسة الرياضة.
قدم طبيب القصر نفس النصيحة التي قدمها الشهر الماضي.
كان هذا مستمرًا منذ خمس سنوات.
“أنصحكِ بممارسة الرياضة ثلاث مرات على الأقل أسبوعيًا وأنتِ تعرفين جيدًا؟ بعد ممارسة العلاقة الحميمة مع الأمير، يجب أن تظلي مستلقية دون حراك لمدة 20 دقيقة تقريبًا، مع وضع وسادة تحت ظهركِ.”
“أعلم ذلك جيدًا.”
“التوتر المفرط والأرق ليسا جيدين لصحة الرحم لذا، قللي من عملكِ.”
“حسنًا.”
“قل وزنكِ هذا الشهر مقارنة بالشهر الماضي زيدي كمية الطعام.”
“… سأفعل ذلك.”
بعد انتهاء الفحص الدوري، بينما كان طبيب القصر يحزم أمتعته بمهلة ويخرج من المكتب، انهارت تيريز التي كانت تجلس منتصبة وكأنها تتداعى.
ثم غطت وجهها بيديها.
لو كانت أميرة كسولة لا تفعل سوى استهلاك الطعام، لكانت الأميرة المثالية المرغوبة التي يريدها طبيب القصر.
لقد مضت خمس سنوات بالفعل.
كل شهر تسمع نفس العتاب تحت ستار الفحص الدوري.
خلال كل هذا الوقت، لم يستقبل دينيس طبيب القصر مطلقًا.
بالطبع، كعضو في العائلة المالكة، يخضع للفحوصات الدورية، لكنه لا يتلقى نفس النصائح التي أتلقاها.
بدا أنه حرّ من تحمّل المسؤولية عن عدم الإنجاب.
فالعقم هو دائمًا خطأ الزوجة فقط.
“…”
عضت تيريز على أسنانها بشدة.
كانت حركة يائسة لمنع نفسها من البكاء بسبب أمر تافه كهذا.
لو بكت كلما حزنت، لربما غرقت في دموعها وماتت.
لقد اعتقدت ذات مرة أن الصعوبات تجعل القلب أقوى.
كانت تلك العبارة صحيحة إلى حد ما ولكن…
أيتها الحمقاء.
حتى شتم نفسها لم يجعلها تشعر بتحسن.
كان المطر لا يزال يتساقط خارج النافذة.
بدا وكأن السماء، بدلًا من شخصٍ ما لا يستطيع البكاء، تُطلق المطر بهدوء، دون توقف طوال اليوم.
***
“سمو الأميرة، بما أن اليوم مناسبة رسمية بعد غياب، ماذا عن ارتداء هذا الفستان الوردي؟”
كان الفستان الذي أخرجته الخادمة ذا فتحة عنق عميقة تصل إلى الترقوة، وردي اللون بتطريز زهري صغير.
وكان بحاشية أكمام من ثلاث طبقات من الدانتيل الصغير والزخارف.
“هذا مُزخرفٌ أكثر من اللازم سنذهب إلى دار الأيتام، أحضري شيئًا متواضعًا.”
“نعم، حسنًا.”
“ما رأيكِ في هذا؟”
“حسنًا، هذا جيد.”
كان الفستان الذي اختارته خادمة أخرى بلون أزرق مخضر، مصنوعًا من قماش سادة لا يبدو مبهرجًا.
بالإضافة إلى ذلك، كانت زخارف الأكمام بسيطة، مما يجعله مناسبًا للعمل.
“ماذا عن ارتداء هذه الحذاء؟”
كان الحذاء الذي أحضرته الخادمة حذائها الأبيض المفضل.
لكنها لم تمتد يديها إليه.
وأدركت الخادمة التي لاحظت حالتها المزاجية بسرعة وعرضت حذاءًا آخر.
“أو ربما هذا الحذاء الجديد الذي طلبتِه مؤخرًا؟”
كان حذاءًا مصنوعًا من جلد الماعز، لم ترتدِه قط بعد طلبه.
كان اللون العام للحذاء أسود، لكنه تميز بتطريز زخرفة زهرية بخيط أحمر على مقدمة الحذاء.
وكان بكعب أعلى قليلًا من حذائها المفضل المعتاد.
لمست مقدمة الحذاء بتأمل.
ثم تذكرت من فكرت فيه عندما طلبت كعبًا أعلى من المعتاد.
بما أنه أسود، فلن يهم إذا تناثرت عليه الأوساخ أثناء العمل.
“حسنًا، ألبسيني إياه.”
***
داخل عربة القطار الصامتة كالقبر.
كانت تيريز تجلس صامتة وعيناها مغمضتان.
بينما كان دينيس يراجع الأوراق بينما يتأرجح جسمه مع هزات القطار.
لم يتحدثا كلمة واحدة لبعضهما منذ صعود القطار قبل ساعة.
“سموكم، سنصل بعد 30 دقيقة.”
قال مضيف القطار الذي طرق الباب بأدب.
كانت تيريز في طريقها لحضور حفل افتتاح دار الأيتام الواقعة في ضواحي العاصمة لويبيرن برفقة دينيس.
كان من المقرر أن يلقي دينيس كلمة في حفل الافتتاح، بينما ستقوم تيريز بأعمال تطوعية.
“ألم تنامي جيدًا البارحة؟”
سأل دينيس دون أن يرفع عينيه عن الأوراق.
“قليلًا.”
فتحت تيريز فمها بصعوبة.
بدا صوتها محتجزًا بعض الشيء.
كان السبب أنها ذهبت إلى الفراش متأخرة عن المعتاد بسبب اضطرابها بعد زيارة طبيب القصر.
عندما استيقظت، لم يكن مظهرها مختلفًا كثيرًا عن المعتاد.
لذا اعتقدت أنه لن يلاحظ حالتها ولكن…
“كم ساعة؟”
خلع دينيس نظارته ووضعها في جيب معطفه.
تجنبت تيريز الإجابة المزعجة وحوّلت الحديث:
“وماذا عنك، سمو الأمير؟”
“أنا كالعادة دائمًا.”
أزال دينيس الأوراق التي كان يقرأها جانبًا.
“تعالي هنا.”
كان مقصورة القطار المخصصة للنبلاء فسيحة ومريحة، حيث تم تحويل عربة بأكملها إلى غرفة.
أمسك دينيس بكلا كتفي تيريز وأجلسها إلى يساره.
ثم أمسك بقفا رقبتها وبدأ في الضغط عليها بيد لا ترحم.
كانت يداه تضغطان بقوة على مؤخرة الرقبة والكتفين والظهر دون رحمة، فاشتكت بصوت غاضب:
“هذا يؤلم.”
“تحملي قليلًا.”
لحسن الحظ، بدا وكأن رأسها المُتثاقل يستعيد وعيه.
“كوني متنبهة عندما نصل لا يمكنني مراقبتك طوال الوقت.”
بعد أن قال ذلك، رتب دينيس ياقة ثوب تيريز لتغطية آثار يديه على قفا رقبتها.
“حسنًا، سأفعل.”
***
“أيها النبلاء الأعزاء. لقد اكتمل بناء دار الأيتام الذي طالما تمنيناه بسلام.”
جلست تيريز منتصبة الظهر وشاهدته يقف على المنصة.
مان من حسن حظها أنها استعادت وعيها بمساعدة دينيس.
لو حركت رأسها قليلًا، لربما ظهرت على الصفحة الأولى للصحف كأميرة تتثاءب في مناسبة رسمية.
على الجانب المقابل من مقعدها كان يجلس أعضاء فريق الأمير فابريس، وخلفها جلس عدد كبير من النبلاء الذين لم يعلنوا تأييدهم بعد.
انتشر صوت دينيس الرنان في كل ركن من أركان المكان.
اليوم أيضًا، كانت وسامته الباهرة مع صوته الجذاب يخلقان معًا قوة مدمرة أكثر.
الشخص الذي يتألق أكثر عند الوقوف أمام الحشود.
الشخص الذي يليق بمقعد الحاكم.
“… سأبذل قصارى جهدي لضمان عدم وجود أطفال جائعين أو مرضى بعد الآن في فالوا بهذا أنهي كلمتي الإفتتاحية اليوم.”
عندما أنهى كلامه، صفق النبلاء والسيدات بغض النظر عن انتماءاتهم.
“يبدو أن الأمير يتألق اليوم بشكل خاص.”
“هذا ليس بالأمر الجديد.”
سمعت تيريز همسات السيدات النبيلات.
في الوقت نفسه، شعرت أيضًا بنظرات تتجه نحوها، نحو تيريز.
تظاهرت تيريز بعدم معرفة نظرات السيدات النبيلات، وشَدت كتفيها ونظرت إلى الأمام.
لم تستطع الاهتمام بكل واحدة على حدة.
رأت صورته وهو ينزل من المنصة.
الابتسامة الطبيعية على شفتيه، وخطواته الواثقة.
كانت هناك حتى نكتة تافهة تقول إنه إذا تم اختيار وريث العرش بناءً على المظهر فقط، فسيكون دينيس بالطبع.
هذا لا يعني أن الأمير الثاني فابريس قبيح.
بل على العكس، ورث مظهر الملك وكان وسيمًا بطريقة رجولية.
لكن مظهر دينيس كان استثنائيًا لدرجة أن هناك قولًا مفاده أن سيد الجمال هو من صاغه، مما جعل المقارنة معه من ناحية المظهر مستحيلة.
ولكن من المفارقات، بدا أن هذه الوسامة أحيانًا تقلل من شأن قدراته.
كانت هناك أيضًا تقييمات سلبية مفادها أنه ينجح في كل شيء باستخدام مكائد الجمال.
لو رأوه بعيونهم وهو يعمل، لما قالوا مثل هذه الكلمات.
ابتلعت تيريز الكلمات التي لم تستطع النطق بها.
لذلك، كان دينيس، بدون منازع، موضوع الحب الأول أو الحب من طرف واحد لنساء المجتمع في فالوا. وما زال.
كانت تيريز نفسها كذلك أيضًا.
في طفولتها، كانت تحبه سرًا.
حتى أنها تخيلت الزواج منه.
لكن…
“سمو الأميرة، سيتم توزيع وجبات الطعام على الأطفال قريبًا هل ستذهبين إلى قاعة الطعام؟”
“حسنًا.”
انقطع تيار أفكار تيريز بنداء شخص ما.
[يتبع في الفصل القادم]
يرجى إدخال اسم المستخدم أو عنوان بريدك الإلكتروني. سيصلك رابط لإنشاء كلمة مرور جديدة عبر البريد الإلكتروني.
التعليقات لهذا الفصل " 8"