5
لم تُجب تيريز.
بدلاً من ذلك، حدّقت في دينيس نظرةً وكأنها تقول: “أفلِتني”.
لقد كانت حقيقةً ملموسة أكثر وضوحاً من الصورة الباقية خلف جفنيها المغمضتين.
“تيريز، زوجتي.”
نطق دينيس اسمها بنبرةٍ موسيقية.
للوهلة الأولى، بدا في مزاجٍ جيد، بل وحنوناً.
لو رآه شخصٌ لا يعرفه جيداً، لظنّ أن مشاعره تجاه تيريز تفيض بالمحبة.
لكن من يعرفه جيداً يدرك.
كان مضطرب الفؤاد الآن.
“ترى ماذا فعلت زوجتي اليوم؟”
“أودّ الإجابة، لكن ذقني يؤلمني، أيها الأمير.”
“إذا كان يؤلمك، فيجب أن تشعري بالراحة أجل، إذاً.”
ومع ذلك، ظلت يده تضغط بقوة على ذقن تيريز.
وكأنه لا ينوي تركها أبداً.
عندما حدّقت فيه تيريز بثبات، ابتسم ابتسامةً خفيفةً أخيراً ورفع يده بعنفٍ مفتعلٍ.
تاركاً أثراً أحمر على ذقن تيريز الذي كان بين قبضته.
جلس دينيس بثقلٍ على الكرسي المقابل لها.
“اليوم، التقيتُ بالأمير جوليان.”
“لا يمكن أن يكون هذا كل شيء.”
“بعد الظهر، عانيتُ من صداعٍ فأرحت في حجرتي.”
“……”
ظل دينيس ينظر إليها دون أن يتحوّل تعبيره رغم إجابتها.
أطلقَت تيريز نفساً خفيةً في داخلها.
“لا أدري أيّ إجابةٍ تريد، أيها الأمير اسأل عما تريد سماعه.”
“آه، لأن لدي الكثير مما أريد سؤاله عنه يا ترى مما أبدأ.”
أجاب دينيس بطريقةٍ متهتكة كأحد رعاع الشوارع.
“إذاً، أيمكنني أن أقدّم الإجابة أولاً؟ .”
“وكيف عرفت ما سأسأل عنه؟”
“فابريس.”
لم يتغيّر تعبيره عند سماع إجابة تيريز.
“تيريز.”
قطعتْ كلامه وواصلت:
“وأليس من الأفضل أن تذهب إلى نيوف شافيل لبعض الوقت؟”
“تيريز.”
“……”
“قلت إن لدي الكثير مما أريد سؤاله لماذا ذهبت إلى الهامام اليوم؟”
“كنتُ في حجرتي بسبب الصداع.”
“خطأ، تيريز شعرك يبدو ذهبياً عادياً، أليس كذلك؟ كلا خيوط شعرك رفيعة، تحت ضوء الشمس تبدو كخيوط ذهبية تتهادى يمكنني تمييز شعر زوجتي في أي مكان.”
“……”
حرّك دينيس ذقنه قليلاً.
وكأنّ تعبيره يقول: “حاولي تقديم عذرٍ ما على الأقل”.
“ليس لدي ما أقوله، أيها الأمير.”
“من يكون ذلك الرجل؟”
صركت تيريز يديها بشدةٍ دون أن تنطق بكلمة.
كان هذا خطأها.
كان عليها أن تكون أكثر حذراً. أن لا يلاحظ.
لم تتمكن تيريز من ابتكار عذرٍ مقنع.
أيّ كلمة ستكون مجرّد حجةٍ تافهةٍ في نظره.
لقد كان يشكّ فيها بالفعل.
وكان يكره أي شيءٍ تفعله.
ربما كان يكره حتى نفسها وهي تتنفس بجواره.
فماذا تقول لمثل هذا الرجل؟
أن جاك يجمع معلوماتٍ من خارج المملكة وينقلها إليها؟ أنها تعمل ليل نهار لرفعه إلى العرش؟
“……”
مع طول صمتها، قال دينيس بنبرةٍ فيها ضحك.
بصوتٍ حنونٍ كأنه مُغَمَّس بالعسل.
“أهو شخصٌ جديدٌ تعرّفتِ عليه؟”
“……”
“آه، لعلّي أُعيق حرية حب زوجتي؟ لقد شوهدتِ مع ذلك الرجل في الهامام عدة مرات، كما يبدو.”
هذا مستحيل.
كانت تستخدم مدخلاً مخصّصاً وليس المدخل العام للزوار.
“أيها الأمير ذلك الشخص يساعدني في شؤوني وما بيننا… علاقةٌ رسمية.”
ليس أمام تيريز ما يمكن قوله أكثر من هذا.
إذا قالت: “لأنك تخلّصت من ريمي إيفري، اضطررت لمقابلته بنفسي”.
فسيكون ذلك اعترافاً بأن كذبها الأخرق وصمتها المطبق عندما سألها دينيس سابقاً عن علاقتها بريمي إيفري قد انكشفا.
“علاقة رسمية… يبدو أنكِ وجدتِ غيره بعد أن تخلّص إيفري من ذلك الوغد.”
“أيها الأمير.”
“أتعرض يومياً لضغوطٍ لإنجاب وريثٍ سريعاً، بينما يبدو أن زوجتي كانت تخرج لترى رجلاً آخر، أليس كذلك؟”
“هذا سوء فهم، أيها الأمير.”
تسارعت تيريز لاستكمال حديثه.
“كفي عن هذا اللقب ‘أيها الأمير’ الفارغ! تيريز.”
صاح دينيس وهو يضع رأسه بين يديه.
بدا نصف وجهه المعتم بنور القمر مشوّهاً.
أخفى دينيس وجهه بيديه في العتمة.
كشخصٍ لا يريدها أن ترى وجهه.
راقبت تيريز مظهره المضطرب.
كان صدره يرتفع وينخفض وهو يتنفس بصعوبة.
“……”
دخل صوت حشرات الليل من نافذة الشرفة المفتوحة إلى الغرفة الصامتة.
لم يتفوه أيٌّ منهما بكلمة حتى امتلأت الغرفة بذلك الصوت.
ثم رفع دينيس رأسه وكأنّ هياجه قد هدأ، محدّقاً فيها بنظرةٍ تبتلعها.
عندما رأت تلك العينان، شعرت تيريز بأنها لن تستطيع إقناعه بأي شيءٍ تقوله.
كان إحساساً مفاجئاً.
سيعيشان من الآن فصاعداً كخطّين متوازيين لا يلتقيان.
سيسيء فهمك، وسيخدعك.
حاولت تيهيز تجاهل إحساسها، مثبّتةً رأسها نحو النافذة.
كأن الستائر المتمايلة وحدها يمكنها إنقاذها.
بينما كانت تنظر إلى حديقتها الجميلة التي لم تتغير عن الأمس.
كتمت المشاعر التي أخذت تفيض فيها.
“……”
حدّق دينيس في وجه تيريز الجانبي الذي التفتت به، وكأنه تمثال، ثم نهض وهو يسحب كرسيه قائلاً “تِسْ”.
كان يجرّ قدميه بلا قوةٍ على عكس ما كان عليه حين دخل الغرفة.
سَمِعَت حفيفَ احتكاك القماش. يبدو أنه استلقى على السرير.
ظل صامتاً ظنّت أنه قد ينام هكذا.
ثم في الصباح، سيتعامل معها وكأن شيئاً لم يكن.
هكذا سنعيش للأبد.
فكّرت تيريز وهي تضع كأس النبيذ الذي لم يبقَ فيه إلا رشفة على شفتيها.
لكن في تلك اللحظة، سمعت صوتاً خافتاً جداً.
ربما كان صوتاً رقيقاً كأنه حديثٌ للنفس.
“لماذا… لا ننجب طفلاً؟”
ارتطم سؤاله كالصاعقة في داخلها.
لسببٍ ما، بدا السؤال رطباً كأنه مُشبَع بدموع.
رغم أنه من غير المعقول أن يبكي هذا الرجل.
غمرتها موجةٌ مفاجئةٌ من مشاعره.
هل تريد طفلاً “لنا” أيضاً؟
إذاً لن تتخلّى عني حتى ذلك الحين، أليس كذلك؟
ارتفعت الرغبة في السؤال إلى حلقها.
حدّقت تيريز في إبهامها وكأنها تثقبه.
كان إبهامها قد شحب من شدة القبض على كفّها.
“لم أنم ثلاث ساعاتٍ حتى في يومين لكن من الغريب أن النعاس يغشاني بمجرد مجيئي إلى هنا.”
قال دينيس بضعفٍ وهو يضع ذراعاً على عينيه وكأن التعب قد غلبه.
“……”
“تيريز أريد أن أنام.”
نهضت تيريز التي كانت جالسة بلا حراك من الكرسي عند سماع رغبته في النوم.
ثم قررت أداء أهم واجباتها كأميرة.
***
بدا الملك إليوت، الجالس مسترخياً وبيده كأس ويسكي، منزعج المزاج.
“مازال فابريس ذلك الصبي مفعماً بالحيوية الشابّة لا يتحكّم بنفسه ويفعل ما يفعله.”
“لا يزال شاباً.”
أجاب دينيس بفتور.
“ولهذا قلت له أن يجعل فترة الخطوبة قصيرة ويعقد الزواج الملكي أولاً لكنه انتهى باستلام إخطار فسخ الخطوبة؟ أحمق.”
كان كأس الويسكي أمام دينيس كما هو دون أن يلمسه.
ليرضي الملك، دافع عن أخيه الصغير.
كان إليوت يحب التظاهر بأنه رب أسرةٍ سعيدةٍ ومترابطة.
رغم علمه أن سوء العلاقة بين دينيس وفابريس كان بسببه هو.
لم يكن هناك مانعٌ من المشاركة في المسرحية، لكنها طبيعةٌ بغيضة.
“سيتعلّم فابريس الكثير من هذه الفرصة أيضاً.”
“صحيح يجب على ذلك الصبي أن يتعلّم أيضاً.”
عندما وضع إليوت كأس الويسكي الفارغ على الطاولة، ملأت شابةٌ تبدو وكأنها بلغت سن الرشد للتو الكأس بالمشروب.
كان إليوت يتابع بوجهٍ راضٍ عملية سكب الشابة للمشروب وعودتها إلى مكانها.
عبس دينيس وجهه للحظَة عند رؤية ذلك المشهد.
“……”
أدار دينيس رأسه إلى الجانب الآخر حتى لا يظهر وجهه العابس.
ارتجف طرف ذقنه المطبَق رجفاناً خفيفاً.
بدا إيليوت في مزاجٍ رائع.
سواء بسبب شربه لويسكي المفضل، أو لسببٍ آخر.
بعد أن حدّق في الشابة بوجهٍ راضٍ لبرهة، حوّل إليوت نظره إلى دينيس.
“أما أنت، فلا أخبارٌ سارّة لديك؟ لماذا لا نسمع خبراً عن وريثٍ منذ سنوات؟”
يبدو أنه قرر اليوم أن يؤدي دور الأب العادي الحنون المليء بالمحبة.
“… سأنقل إليكم خبراً ساراً قريباً.”
ردّ دينيس بطريقةٍ طبيعية.
كانت كلماتٌ اعتاد عليها حتى صارت جزءاً منه.
“لقد مضت خمس سنوات على زواجك الملكي دون أي خبر.”
نظر إليوت إلى دينيس بوجهٍ يبدو عليه القلق الشديد.
“ألعلّ الأميرة عقيمٌ أو شيء من هذا القبيل؟”
“لا، ليس الأمر كذلك فقط، ما زال لدي الكثير لأعمله…”
تسرّع دينيس في الرد.
“نعم. الكثير <لتعمله>.”
أمسك إليوت بمسند كرسيه الذي كان يسترخي عليه وطرقه قائلاً: “طَق، طَق”.
كانت هذه عادته عندما يريد قول شيءٍ مهم.
أدرك دينيس أن الهدف الحقيقي من استدعائه اليوم على وشك الظهور.
“يجب أن تذهب إلى نيوف شافيل هذه المرة كنت سأرسل فابريس لكن ذلك الصبي تحت الإقامة الجبرية حالياً.”
ظهر على إليوت أسفٌ لذلك الأمر، وعبس.
“حسناً.”
قال دينيس دون تردد.
“اذهب وافحص حجم الأضرار الناتجة عن الفيضانات ثم عُد سيكون الرأي العام مضطرباً، فاعتنِ بالأمر جيدا. لكن ما يقلقني هو نقص مواد الإغاثة، فتشاور مع وزير الداخلية.”
قال إليوت بطلاقةٍ كأنه يقرأ من نصٍ معدّ.
ربّت إليوت على كتف دينيس كما لو كان يشجعه.
يريد أن يرسلني بيدين فارغتين لأكون كبش فداء.
“سأحرص على ألاّ يشوب اسم جراموار أي عيب.”
أخفى دينيس مشاعره حتى لا تظهر على وجهه، ثم انحنى بأدب.
“هذا يبعث على الطمأنينة.”
غادر دينيس غرفة الشاي بعد أن انحنى.
وسرعان ما قابل فابريس في الممر وهو على وشك الدخول إلى غرفة الشاي.
“صباح الخير، أخي الأكبر.”
كان فابريس يرتدي ملابس فاخرة رغم الساعة المبكرة.
يبدو أنه ارتدى ملابسه منذ الصباح ليرضي والده، في وقتٍ لا يستطيع عادة النهوض من الفراش فيه.
امتعض دينيس في داخله من النوايا الواضحة.
“نعم.”
“سمعت عن نبْأ فسخ خطوبتي من ابنة عائلة ديفوا، أليس كذلك؟”
“للتّو مُؤسف.”
“بدلاً من ذلك، سأتقدم للزواج من ابنة عائلة لوماسين.”
قال فابريس ذلك بخفّة، كأنه يشتري سلعة من السوق.
“أهكذا أهنئك مسبقاً على خطوبتك إذا لم يكن لديك ما تقوله أكثر، سأذهب الآن.”
“أخيا لأكبر سمعت أنك ستذهب إلى نيوف شافيل؟ يُقال إنه لم يبقَ شيءٌ سليم في مقر الحاكم حتى بسبب أضرار الفيضانات اعتنِ بنفسك في رحلتك.”
لوّح فابريس بيده مبتسماً كأنه يودعه.
“نعم.”
أدار دينيس وجهه دون تردد.
في النهاية، تم التوصل إلى أن فضيحةفابريس كانت سوء فهم.
لكن اتضح أن جافيير بيلرمون قام بالفعل بالخطف والتعذيب، فسُجن.
عندما سأله المحققون عما إذا كان له شركاء، اعترف جافيير وهو يبكي أنه تصرف بمفرده.
لكن مجرد ذكر اسم فابريس في الفضيحة ألحق ضرراً كبيراً بسمعته.
ونتيجة لذلك، ليس فقط عليه البقاء تحت الإقامة الجبرية لفترة، بل اضطر أيضاً لفسخ خطوبته من إيفون ديفوا.
“لقد تم التخلص من الأدلة بالفعل.”
عندما سمع دينيس عن فضيحة فابريس، أرسل على الفور فريق تحقيق، لكنه لم يتمكن من الحصول على أدلة قاطعة.
يبدو أن فابريس قد سبق واتخذ إجراءاته.
كان لديه الكثير ليفعله قبل التوجه إلى نيوف شافيل.
[يُتبع في الفصل القادم]
التعليقات لهذا الفصل " 5"