“أيّها الأمير الصغير…”
استيقظ دينيس فجأة على ملمس يدٍ تُربِّتُ عليه برفق، ففتح عينيه متثاقلاً.
وعندما رفع جفنيه، انسابت أشعة شمس الظهيرة إلى الغرفة.
“أمي…”
أدرك أنه كان مستلقياً على حضنها، فنهض بسرعة.
نظر دينيس حوله متفحصاً.
كانا وحيدين في غابة لم يَرَها من قبل.
كانت شارل تنظر إليه بابتسامة حانية، لا ظلّ للهموم على وجهها.
وجنتاها ممتلئتان باعتدال، وهيئتها أنيقة وكأنها لم تعرف التعب في حياتها.
كانت هذه صورة أمه التي لم يَرَها منذ زمن طويل، فانقبضت يده على يدها من تلقاء نفسه.
فأمسكت هي بدورها بيده بحرارة.
دفءٌ معتدل، حرارة جسد إنسان حيّ.
بطريقة ما، في هذا الموقف، شعر وكأنه لم يفترق عن أمه قط.
شعر كما لو أنها كانت معه في كل المناسبات: بلوغه سن الرشد، خطوبته من تيريز، وحتى يوم زفافهما.
“……”
حائراً من غرابة هذا الشعور، ظل دينيس ممسكاً بيد شارل صامتاً.
“لمَ هذا الشرود؟ ألم تستيقظ بعد؟”
ضحكت شارل من شُخوصه الفارغ.
“كلا. شعرتُ وكأنكِ كنتِ هنا طوال الوقت…”
“طبعاً. وأين سأذهب؟ تاركة أميري الصغير.”
“……”
أمسكت شارل بيده التي لا تزال بلا حياة، وقادته إلى عمق الغابة.
“أول مرة تأتي إلى هنا، أليس كذلك؟ سأريك المكان.”
ثم أخذته إلى الداخل أكثر.
شرحت له اسم كل شجرة غريبة يرونها بسهولة.
ثم قَطَفت ثمرة ووضعتها في فمه.
كانت ثمرة صغيرة تشبه توت العلّيق، حمراء، لكن طعمها كان لاذعاً وقابضاً.
عندما قطب وجهه، ضحكت أمه ضحكة عالية مليئة بالمرح ووضعت هي أيضاً ثمرة في فمها.
تطاير عصيرها فجأة كالرذاذ، ثم سال كخيط من الدم على جانب فمها.
عندما مسحته بحاشية كمها، استمر السائل الأحمر كالدم في الظهور.
وسرعان ما تحول كمّها الأبيض إلى اللون القرمزي.
كانت الغابة هادئة بشكل غريب.
لم يكن هناك حتى حفيف أوراق.
نظر دينيس حوله.
“أمي. إلى أين نحن ذاهبون؟”
“ممم. ستعرف عندما نصل.”
كانت شارل تجتاز الأشجار التي تزداد كثافة، وكأنها تعرف هذه الغابة جيداً.
في كل مرة، كانت الأغصان الشائكة تخدش ذراعيه ووجهه.
“ها قد وصلنا.”
كان المكان الذي وصلوا إليه منحدراً صخرياً.
عندما نظر إلى الأسفل، رأى وادياً تندفع فيه مياه نهر سريعة الجريان تحت الجرف.
“أمي. هذا مكان خطِر لأنه جرف لنتجه إلى ذلك الجانب.”
“ممم؟”
التفتت أمه بسذاجة.
كان فستانها مغموراً بالكامل بدماء حمراء قانية.
“أمي!”
مدّ دينيس يده ليُمسك بها وهو يصيح، لكن شارل قفزت من على الجرف قبل أن يتمكن من إيقافها.
“هاه!”
استيقظ دينيس فجأة.
غرفة نومه المألوفة.
كان لا يزال يلهث من الرعب، وتَجمّدت قطرات من العرق على جبينه.
“هاه…”
مسك جبينه وحاول أن يلتقط أنفاسه.
كان كابوساً.
ظنّ أن الأمور قد تحسنت قليلاً.
يبدو أنه بسبب زيارته لقبر أمه في النهار.
نهض دينيس من سريره وفتح النافذة.
كان الوقت لا يزال الثالثة فجراً، والفجر بعيد.
شعر ببعض الهدوء عندما استنشق الهواء البارد.
كان هناك احتمال كبير بأنه إذا عاد للنوم الآن، فسيكمل الكابوس نفسه.
عندما يبدأ كابوسه، كان يرى ذات الحلم لثلاثة أيام متتالية في السابق.
“……”
تساءل إن كان يجب أن ينام مجدداً أم لا.
ماذا يجب أن يفعل…
بينما كان واقفاً عند النافذة، خطرت له فكرة فجأة.
خرج من القصر وهو لا يزال يرتدِي ملابس النوم.
كان هواء الفجر، مع اقتراب الخريف، بارداً.
شعر وكأنه استعاد وعيه بالكامل.
مضى بخطوات واسعة، كأنه يركض.
إلى ذلك المكان المألوف.
إلى حيث يقيم راحته.
كانت ستنام المرأة، فخطط أن يأخذ قيلولة بجانبها، ويشعر ببعض الدفء.
بجانب تلك المرأة، شعر أن حتى الكوابيس لن تجرؤ على الاقتراب.
عندما وقف أمام غرفة نوم المرأة، كان يتنفس بصعوبة.
لأنه كان يركض تقريباً منذ أن وصل أمام جناحها.
التقط أنفاسه أمام الباب، ثم فتحه بأكبر قدر ممكن من الهدوء كي لا يوقظها.
ثم نظر إلى سريرها من خلال الفجوة.
لكن، وعلى غير المتوقع، لم يكن هناك أحد على سرير المرأة.
في هذا الموقف غير المتوقع، دفع الباب بعنفٍ ليفتحه على مصراعيه، وعندها فقط رأى شخصاً.
في زاوية من الغرفة، كانت المرأة جالسة على الأريكة بوجهٍ غارق في التحديق، تنظر إليه.
وصوت موسيقى يملأ الأجواء.
“كان عليك أن تطرق الباب، سمو الأمير.”
“إنه أنا، زوجكِ.”
ابتسم دينيس بشكل طبيعي واتجه نحوها بخطوات بطيئة.
جلس دينيس بارتياح في مكانه المعتاد.
عندها فقط شعر بالراحة، منكل شيء.
كانت المرأة، سواء كان يراقبها أم لا، تجلس بعمق على الأريكة تستمع إلى الموسيقى من الفونوغراف.
اليوم ليست الموسيقى هي الخمرة.
“ألم تنتظريني اليوم؟ هذا مُحزِن.”
كان يقصد أنه لا توجد كأس نبيذ.
عندما قال دينيس ذلك، فتحت المرأة فمها.
“هذه تهويدة لديبوسي كنت أفكر في محاولة النوم بعقل صافٍ.”
“أها.”
“……”
“لقد رأيت كابوساً.”
“ولهذا أسرعت إلى جناحي؟”
قالت تيريز وهي تضحك.
“بالضبط.”
عند اعترافه الصريح، رفعت إحدى حاجبيها قليلاً.
ملأ صوت الموسيقى الهادئ الصامتة بين الاثنين الجالسين في صمت.
اتكأ دينيس للخلف تماماً ونظر إلى السقف.
بينما كان يرسم زخارف سقف غرفة المرأة بخياله، فتح فمه.
“تيريز.”
“نعم، سمو الأمير.”
“أنتِ… ستصبحين ملكة.”
ستصبحين ملكة وسأكون الملك بجانبك.
لن أتخلى عنك أبداً.
قال دينيس استنتاجه.
كان تأكيداً لم يصرّح لها بمشاعره الحقيقية بهذه الطريقة من قبل.
عندما نطق بهذه الكلمات، توقع رداً فورياً من الطرف المقابل، لكن لم يأتِ أي رد.
حتى امتلأت الغرفة بصوت الموسيقى فقط.
“… فهمت.”
الكلمات التي نطقت بها المرأة بعد فترة طويلة كانت مجرد “فهمت”.
كانت إجابة منفصلة، وكأنها تتحدث عن شأن شخص آخر وليس شأنها.
لكنه، غير ملتفتٍ لهذا الفارق الدقيق، نظر إلى وجه المرأة اللاّمبالي.
لم يُظهر وجهها، الذي لا يختلف عن المعتاد، أي مشاعر.
مع ذلك، فتحت فمها وقالت شيئاً غير مفهوم.
“أتعلم؟”
“ماذا؟”
“قال طبيب القصر إذا كنتِ تشربين الخمر كل يوم، سيكون الحمل صعباً.”
نظرت المرأة إليه مباشرة.
“إذاً توقفِ.”
أجاب دينيس ببساطة.
“……”
أدارت المرأة رأسها وركزت على الموسيقى مرة أخرى.
بعد أن سمع كلامها عن أنها تهويدة، بدأ يشعر بالنعاس تدريجياً.
بدا أن اللحن السلمي المتكرر يبطئ معدل ضربات قلبه.
هل التهويدات تؤثر على البالغين أيضاً؟
إذا كان الأمر كذلك، فهل سأتمكن من النوم وحدي إذا استمعت إلى تهويدة؟
دون الحاجة إلى مجيء إلى غرفة المرأة…
كان لديه مثل هذه الأفكار غير المجدية…
عندما بدأ دينيس في النعاس بعينين تتثاقلان، أوقفت المرأة الفونوغراف.
“أريد أن أحصل عليه، أنا أيضاً.”
“ممم؟”
أجاب دينيس على حافة الوعي واللاوعي.
كان من المدهش حقاً كيف يشعر بهذا النعاس المريح بمجرد حضوره إلى غرفة المرأة.
غاص بعمق في الأريكة وأدار رأسه.
كان وعيه يتركه تدريجياً.
ولهذا لم يسمع الكلمات الأخيرة للمرأة.
لأنه كان قد غرق في نوم عميق.
قالت المرأة بصوت خافت وكأنها تُهمهم.
“طفل… طفلنا.”
نظرت المرأة إليه وهو نائم، ثم أحضرت بطانية.
وغطّته بها بعناية كي لا يتسرب إليه الهواء البارد.
ثم ذهبت المرأة إلى سريرها ولفّت جسدها كالجنين.
كان فجراً بلا كوابيس، لنائمٍ مرتاحٍ وآخرَ لا يستطيع النوم.
نظراً لأن عائلة دوق برييم كانت عائلة عريقة، كانت نطاقات واجبات الخادمات محددة بوضوح.
تم تعيين فانتين كخادمة في غرفة الغسيل.
لأنها كانت كبيرة في السن، ولأن خطاب التوصية ذكر أنها عملت سابقاً في غرفة غسيل.
“سارة. ستذهبين إلى غرفة الغسيل.”
“نعم، رئيسة الخادمات.”
سارة ميستييه.
كان هذا هو الاسم الجديد لفانتين.
بمجرد تعيينها في غرفة الغسيل، بدأت فانتين بكسب ود الخادمات الأخريات اللاتي يعملن معها.
كان هناك خادمتان أخريان غيرها في الغرفة، وكانت الاثنتان تقومان بجميع غسيل هذه القصر الكبير بمفردهما.
لذا كانت شدة العمل عالية نسبياً.
جولي وكارول، تبادلت فانتين التحية مع الاثنتين.
استمعت فانتين إلى محادثتهما وحاولت تحليل شخصيتيهما.
كانت جولي قليلة الكلام وخجولة، لكنها سهلة التأثر.
بينما كانت كارول كثيرة الكلام وطائشة، لكنها كانت تملك كبرياءً عالياً.
قررت فانتين كسب ود جولي سهلة التأثر أولاً.
عندما تركت كارول المكان لفترة، تحدثت فانتين إلى جولي.
“أنتِ، يا جولي من أي منطقة أنتِ؟”
“أنا من أميان. وأنتِ يا سارة؟”
“أنا من لاهو.”
“لاهو؟ هذه أول مرة أرى فيها شخصاً من لاهو!”
قالت جولي بمرح.
هذا محتمل بالفعل.
كانت لاهو بلدة صغيرة قريبة من المنطقة التي يعيش فيها شعب الهاز، وكان سكانها قليلين.
“حقاً؟ لقد رأيت شعب الهاز شخصياً.”
ابتسمت فانتين وهي تنظر إلى جولي.
“حقاً؟”
“نعم. مظهرهم مختلف تماماً عنّا أقصر قامة، وبشرتهم داكنة.”
شرحت فانتين مظهر شعب الهاز.
“هذا مدهش.”
قالت جولي وهي تبدو مندهشة، بينما تضع الغسيل في الآلة.
“نعم. كنت أذهب لجمع الأعشاب من الجبل ذات مرة، فصادفتهم بالصدفة”
توقفت فانتين عن الكلام عند هذا الحد.
نظرت إليها جولي وهي تبدو في حيرة.
“لكنني لا أعرف إن كان مسموحاً الحديث عن الهاز هل يمكننا التحدث عنهم؟”
قالت فانتين بوجهٍ يبدو عليه القلق.
“ممم. لا أدري… ألا يُسمح ربما؟”
أجابت جولي أيضاً بوجهٍ يبدو عليه القلق.
عندما أسس أول ملوك فالوا، ثيودور، مملكة فالوا في الأراضي الحالية، كان السكان الأصليون يعيشون في القارة الواسعة.
كانوا شعباً ودوداً مع الطبيعة، يعيشون على الصيد وجمع الثمار دون الإضرار بالطبيعة قدر الإمكان.
كان اسمهم شعب الهاز.
في لغتهم، كلمة “هاز” تعني “أبناء الأم”.
كان شعب الهاز يهتمون بـ الأرض كـ”أم”، ويعتبرون موارد الطبيعة عطايا من الأم، فيقدسونها.
لكن ثيودور، أول ملك، غزى أراضي الهاز وطردهم من أراضيهم التي كانوا يعيشون فيها بسلام إلى منطقة صغيرة هي مناطقهم الحالية.
منذ ذلك الحين، تضاءلت قوة شعب الهاز تدريجياً، ولم يتبق سوى شريحة ضئيلة تستمر بصعوبة.
بسبب هذا التاريخ، أصبحت قضية شعب الهاز أحياناً موضوع نقاش حاد.
ولهذا فهي أيضاً واحدة من الموضوعات التي لا يتم التطرق إليها في الأحاديث الاجتماعية إلا نادراً.
“سأخبركِ لاحقاً عندما نكون في مكان هادئ.”
لمحت فانتين فقط.
لكي تقع جولي سهلة التأثر في الفخ.
أومأت جولي برأسها كما لو أنها فهمت.
إذا استطاعت كسب ود جولي فقط، فستنضم كارول أيضاً إذا استخدمت طريقة تستفز كبرياءها.
ألقت فانتين بابتسامة ودية لجولي، ثم تظاهرت بالانشغال بالغسيل.
(يتبع في الفصل القادم)
ترجمة مَحبّة
تجدون الفصول المتقدمة والتسريبات في قناة التليجرام الرابط في التعليق المثبت
التعليقات لهذا الفصل " 25"